بعيدا عن نتائج الانتخابات وتحليلاتها، ولأن هناك ما هو أهم، ولأن زعيما مثل نتنياهو يفوز بأغلبية في الكنيسيت الإسرائيلي وفي دولة قانون مثل إسرائيل، بدل أن يحاكم. بعيدا عن ممارسة هذه الدولة "إسرائيل" للإحتلال لدولة فلسطين وممارسة الإرهاب والقمع والقتل على الشعب الفلسطيني ونهب أرضه ومصادرة حقوق اللاجئين وسرقة عاصمة الدولة الفلسطينية، فإن إسرائيل بلا شك في داخلها يحكمها القانون لمواطنيها ونظامها السياسي والذي يعتبر قياسا بقوانين الاخرين نظاما ديمقراطيا متقدما، ولهذا تأتي الغرابة من فوز نتنياهو الفاسد المطلوب للمحاكمة على فساده، ولكون المجتمع الإسرائيلي الديمقراطي والمطبق لقوانين متقدمة عن غالبية عظمى في المنطقة وفي دول العالم، كيف ولماذا حدث هذا السقوط الدراماتيكي للقانون وفلت منه نتنياهو بحصانته التشريعية كعضو كنيسيت مازال يحكم كرئيس وزراء؟
إن الخلل ليس في القانون المدني الذي يحاكم الفاسد والسارق والمتجاوز من المواطنين، بل الخلل هو في القانون الخاص الداخلي للكنيسيت الذي تيحمي أعضاء المؤسسة التشريعية الأولى إذا فسدوا، ويمنحهم الحصانة في وجه القانون العام، ولأن هذا التناقض يوصل الفاسد ليقود دون عقاب فهي مشكلة تحتاج تطوير القوانين وتحديثها لكي لا يفلت منها السياسيين الفاسدين أو المجرمين.
نتحدث هنا عن نموذج لفاسد شهير قاد وسيقود دولة أمام الملأ، ويمضي ليكمل حكمه للعقد الثاني على التوالي، والعالم مليئ بتلك النماذج الفاسدة مثل نتنياهو، خاصة في وطننا العربي، فما العمل في هذه الدنيا التي يتقدم فيها الفاسد والقاتل والخائن والمجرم والجاهل والنصاب والحرامي ومرتكب كل الموبقات في عالم تحكمه دول مجرمة وزعامات أبادت وتبيد شعوبا وتسرق ثرواتا وتحتل وتصادر أوطانا للآخرين؟ التاريخ سجل ويسجل بأن السياسة لا تحكمها قيم، والسياسين والقادة والزعماء الذين ترونهم بهيئات القديسين والأولياء والأبطال متجملين بهندام جميل وحديث منمق وهالات أسطورية ويتمتعون بشياكة وملامح شخصية يقع في حبها المغفلون، هم في الحقيقة لا يصلون لمواقعهم دون مؤامرات وقتل ونهب وزنى وسكر وعربدة وشذوذ، يمجدهم الناس أحيانا كثيرة كأبطال وأساطير، لكنهم في الحقيقة هم قتلة ومجرمون ولصوص، وبمقياس الصحة النفسية هم مرضى خطرين يجب حجزهم في مصحات نفسية مؤبدة لأن شفاء مثل هؤلاء غير مرتجع مهما عولجوا.
نتحدث هنا عن نتنياهو كمثال، ولأنه رئيس وزراء فاسد وقاتل لشعبنا وكشخصية عامة يبجلها مناصرون، وكما نتنياهو كثيرون، وكل من هو في موقع كبير أو صغير في مجتمعنا والمجتمعات الأخرى لابد أن تجد غالبيتهم يتمتعون بتلك الصفات الإجرامية أو إحداها أو كلها وزيادة، يستغلون ويتاجرون ويسرقون ويقتلون، ويفعلون كل ما لا يخطر على بال حين يتطلب الأمر ذلك.
هي السلطة والنفوذ والمال أيا كان زمانه ومكانه والتاريخ شاهد على إجرام الحكام والمتنفذين في السلطة والحكم على مر التاريخ ولن تجد نموذجا لحاكم أو سلطان أو إمبراطور أو أمير أو ملك بريئ من هذا الإجرام، وإلا لما أصبح في موقع السلطة، فالطريق إلى السلطة معبد بدماء الأبرياء والمعارضين والمنافسين. على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، جميعهم نهبوا وسرقوا وقتلوا الآلاف المؤلفة من الأبرياء، والغريب أنهم يكرمون ببطولاتهم في الإجرام أحياءا أو أمواتا أحيانا، ويحدث أن يصبح لهم أتباع ومريدون يتبعون نظرياتهم ومؤلفاتهم، أو خططهم وسلوكياتهم حشود من الموهومين والمضللين ممن جعلوهم أبطالا في خيالهم، وهم في الأصل مجرمون، غير أصحاء نفسيا كان يجب ألا يقودوا وهم مرضى غير قابلين للعلاج.
لاحظوا كم من متسلط في مؤسسة أو في إدارة أو في حكومة أو في أصغر جماعة بشرية كالأسرة، لتروا مثل هذه النماذج الفاسدة المريضة أو المجرمة، وتسكتون عنهم، وأحيانا قد يكون أبيك أو أخيك أو إبنك أو قريبك أو صديقك أو جارك أو أنت ذاتك، أو أو أو أو ... أو مديرك أو قائدك أو رئيسك أو رئيس دولتك...
هؤلاء يكبرون، ويكبروهم الناس، وما يجعلك حيران حين تسمع مثل هؤلاء المجرمون يتحدثون عن القيم والمبادئ والدين وحتى قد يؤمون الناس في صلاتهم ويستعين بهم الناس في الإصلاح بينهم كشخصيات مجتمعية بعتبرونها هامة أو إعتبارية، وينسون كم إرتكبوا من موبقات، فيكبرون وتكبر مواقعهم وشأنهم بين الناس، فهل القيم والمبادئ هي أفيون للشعوب يتلهى بها الناس ليمر الفاسدون بسهولة إلى جرائمهم وليستولوا على الثروات والمواقع والوظائف لهم ولعائلاتهم ومريديهم، وكم من قصص تعرفونها وسمعتموها من الأولين، وكم كان في الأزمان من أجداد ومسؤولين وحكاما سراق ولصوص وقتلة ومزيفون وخونة وقوادين يستمتع الآن أولياؤهم وأحفادهم بالمنعة والأموال والأطيان والثراء الفاحش والمواقع السياسية ما سهل ووفر لهم أجدادهم وآبائهم وأقربائهم مما جنوه بفسادهم وإجرامهم القديم الأول واللاحق .. هي المبادئ التي تتمسك بها تجعلك تعاني وتبقى مسحوقا، فقد تربيت على ما يبدو على خطأ وجرعوك أفيون القيم التي لا تصرف في أي بنك في الدنيا، والأعجب أن يأتي من يخدرك بجرعة من المخدر الأقدم ..
إنها علامات علىإنتهاء عصر القيم، وهكذا تستمر الأجيال وتستمر عمليات التخدير للعقول، ومجرمون جدد وطيبون وسذج يخلقون من جديد.
د. طلال الشريف
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت