بات العالم يرقب الأخبار المتعلقة بهذا المخلوق الدقيق "كورونا المستجدة"، وبتنا نلهث لنعرف تفاصيل حياته وما الذي يحبه والذي يكرهه، وما الجديد الذي حل على شخصيته بعد سنوات من الغياب أمضاها خاملاً "لا حس ولا خبر"، نتابع أخباره فيما وراء البحار ونضطرب وترتعد مفاصلنا إن سمعنا أنه دنا منا، وما أن يحط رحاله في دولة ما حتى تستنفر حكومتها كل طاقاتها وتضع أجهزتها الأمنية ووزاراتها السيادية والغير سيادية في مواجهته ومحاصرته، ورغم وجوده على قائمة الممنوعين من الدخول أو على أقل تقدير ضمن قائمة ترقب الوصول في كل مطارات العالم وعند نقاط تفتيشها البرية والبحرية إلا أنه لا يجد صعوبة تذكر في اختراق أنظمتها الأمنية، لا يحمل جواز سفر ولا يطالبه أحد بتأشيرة دخول سارية المفعول، لا أحد عند الحدود يجرؤ على امتهان كرامته ويحظى بمعاملة تفوق تلك التي تحظى بها الشخصيات المهمة، لا يستفزه رجل الأمن بسؤاله السخيف عمن قام بترتيب حقيبة سفره ولا يستوقفه رجل الجمارك ليسأله إن كان في حقيبة سفره أجهزة كهربائية.
يا له من مخلوق ذلك الذي استطاع أن يعيد صياغة العلاقة بين الدول، الصداقة الحميمية القائمة بين دولتين لم تمنعهما من اغلاق حدودهما ووقف الرحلات الجوية بينهما، بل وسارعت كل منهما لمنع مواطني الدولة الصديقة من دخول أراضيها، ومارست الدبلوماسية صلاحياتها القائمة على قاعدة المعاملة بالمثل، وكيف تحول الشيطان الأكبر لملاك بين عشية وضحاها يعرض على دولة الشر مساعدتها في مواجهة سيدة الحسن "كورونا"، وكيف تحول المواطن الصيني الذي كانت الدول تفتح ذراعيها له سواء جاء اليها سائحاً أم مستثمراً إلى ضيف غير مرغوب به يتحاشى الكل الاقتراب منه، كيف مكن هذا المخلوق الحكومات التي صدعت شعوبها وهي تتحدث عن أزماتها الاقتصادية برصدها الكثير من الأموال لمواجهته، والأهم ما الذي فعله ليدفع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لهذا القدر من كرمهما الحاتمي ولو أنهما أبديا قدراً يسيراً من ذلك لمكافحة الفقر لكان العالم أفضل مما هو عليه.
لعل كورونا المستجد اشفق علينا حين انطلق من الصين وليس من موطن سلالته الأصلي "الشرق الوسط" كي يكفينا شر نظرية المؤامرة التي تحيق بالوطن وترافقه طيلة فترة مكوثة بيننا، والشيء المستغرب لدينا أن الصين لم تتطرق في اعلامها لمؤامرة كورونا رغم أن لديها الكثير يمكن أن تستند عليه في روايتها البوليسية، حيث أن مدينة ووهان الصينية، التي شوهد فيها المخلوق لأول مرة يرافق ابنائها دون أن يعرفوا من أين جاء، بجانب انها علامة فارقة كمدينة صناعية تعتبر معقلاً مهماً للبحوث المتعلقة بمجال التكنولوجيا والتي تشعل الحرب المستترة بين الصين وامريكا، وفيها يتم تدشين المصنع الأكبر لصناعة رقائق الذاكرة وأشباه الموصلات التابع لشركة "تسينغوا جروب" المملوكة لعدة صناديق استثمارية بما فيها الصندوق الوطني الاستثماري، وسبق للشركة أن حاولت الاستحواذ على شركة أمريكية مختصة في صناعة الرقائق الالكترونية قبل أن يعطل الصفقة الرئيس الأمريكي "اوباما" على اعتبار أنها تهدد الأمن القومي الأمريكي، المؤكد أن الصين تعرف عن كورونا وتداعيات المؤامرة فيها أكثر مما يعرفه الآخرون، لكنها تعرف ايضاً أن مهمة الدولة لا تكمن في تحصين نفسها أمام شعبها في الأزمات باستحضار نظرية المؤامرة بقدر ما هو مطلوب منها أن تواجه الأزمة وتنتصر عليها سيما وأن الحرب المستترة بين الكبار حول امتلاك التكنولوجيا لا تعرف الشعوب شيئاً عنها.
إن كانت المعارضة في دول العالم الثالث لم تمارس هوايتها والتزمت الصمت أمام قيام الحكومات بفرض حالة الطواريء، وبادر الحرس الثوري الايراني بتنحية وزارة الصحة ليتولى بنفسه مواجهة جحافل كورونا وما يتطلبه ذلك من معلومات استخبارية تفضي إلى معرفة الطريق التي سلكتها وسط الحصار المفروض على ايران، فإن المشهد لدينا فيه شيء من الخصوصية نرصد منه التالي: أولاً أن غزة سارعت بالإعلان عن أن مرسوم الرئيس المتعلق بفرض حالة الطواريء لا يسري على غزة، وثانياً أن فرض حالة الطواريء رافقها اعتقال حسام خضر النائب السابق في المجلس التشريعي، وثالثاً أن قوات الأمن الوطني رفعت نسبة جاهزيتها واستنفارها إلى أعلى درجة وأرسلت كتيبتها الخاصة التاسعة الى بيت لحم.
صحيح أن فيروس كورونا المستجد يثير الرعب والفزع في العالم، والخوف من تحوله إلى وباء غير مسيطر عليه بات هاجساً، ومن الضروري أن تأخذ الحكومة الفلسطينية أقصى درجات الحيطة والحذر في التعامل معه وأن تسخر امكاناتها لمواجهته، لكن هذا الاستنفار من اعلان الطواريء وتسخير الطاقات والامكانيات وتشكيل اللجان لم نلحظ شيئاً منها في مواجهة فيروس الانقسام الذي اصاب الوطن ونخر عظامه على مدار سنوات، والمؤكد أن فيروس الانقسام أشد فتكاً بالوطن من كورونا وأخواته.
د. أسامه الفرا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت