عندما يسقُط بين يديك كتابٌ يحمل في كينونته ميّزة خاصة، بالشكل والمضمون، فربما الأمر يعني أنك محظوظ بشيء مميز في هذه الحياة المعقدة المتعبة، فتُبحر في فضاءهِ تجوالاً كنوعٍ من معايشة التاريخ والمفاهيم الإنسانية والحضارية.. خاصةً إذا ما جاءَ هذا الكتاب ليتحدث عن حقبةٍ تاريخيةٍ أنتَ شاهدٌ عليها بالحضور والوجدان. فما أن تتكشف لكَ روح الكتاب ورسالته، حتى تجد نفسك مرتبطاً به كحالة الّزامية تمدكَ بالحياة.. وما أجملها من حالة تتسم بالساعدة والفرح، من خلال إيقاع نغم يشحن المرء، من خلال صفاحته، بطاقة حيوية ايجابية تعيده إلى أيام مشبعة بالتضحية والنضال اليومي المعاش.. سياسيًا، حضاريًا، أخلاقيًا ووطنيًا خاصةً.. فترتفع معنوياتك حد النشوة أحيانًا كثيرة.. وتهبط بثنايا روحك حد الوهن حينًا، من جراء مصاعب واخفاقات ومواجهات، تُذكرك بواقع أليّم فُرض عَليك عُنوةً، هو الإحتلال بعينه.. وبتحدٍ موجعٍ تتعرض له من خلال صراع مع الآخرين، ربما مردهُ إلى شعورهم بالغيرة والحسد.! وهنا أتذكر ما جاء على لسان الروائية أحلام مستغانمي، حيث تقول: "يكفيكَ نجاحاً واحداً كي يخلق لك عشرات الاعداء".. وعلى الرغم من كل شيء، علينا قول الحقيقة بموضوعية ووضوح، حتى لو أدى ذلك إلى حالات تشنج لدى الآخرين.. وما قاله المسرحي الالماني الشهير برتولد برخت هو خير دليل على ذلك.. حيث جاء في مرجعياته ما يلي: "إنه من الضروري التحلي بشجاعة كتابة الحقيقة حيثما قُمعت الحقيقة". وقد إعتدنا على قمع الحقيقة في ظل نظام عنصري تَقتُلهُ الحقيقة.
الكاتب هو: راضي دخيل شحادة، كاتب ومسرحي.. من قرية المغار الجليلية.
الكتاب هو: سيرة حكواتي من فلسطين، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع – عمان، الطبعة الأولى 2016.
يحتوي الكتاب على عشرين فصل، عدى المقدمة والتوطئة التي جاءتا في مستهل صفحاته الأولى.. وقد عُرَّف الكتاب في المقدمة التي ذيلت بتوقيع كلٍ من إيمان عون وإدوارد معلم بما يلي: "أنه كتاب ينضح بالشفافية وانتقاء المعلومات والصدق في الطرح السياسي والفكري والتحليلي للمعطيات المختلفة، السراء منها والضراء، ما له وما عليه فيها، ولا يتوانى راضي من خلاله على وضع الأمور في موضعها بوفاءٍ تامٍ للرفاق في التجربة الجماعية التي خاضها معهم في فرقة الحكواتي، وبوفاءٍ للتجربة الإنسانية للحراك الثقافي الوطني الذي صاغ الوعي الجماعي لكثيرين في تلك الفترة" ص 11 و 12. إذاً فان هذا التعريف يدلنا أو ينبهنا إلى أنه جاء صادقًا بسيرته ومسيرته للأحداث والوقائع المتلاحقة فيه، مما يؤكد لي حقيقة ما توصلت إليه عند الانتهاء منه، وعادة أنا لا أقرأ المقدمة إلا بعد أن أنهي الكتاب، حتى لا أتأثر مسبقًا برأي الآخرين، وهكذا حدث لي مع هذا الكتاب أيضاً.. وعليه فإن هذا الكتاب يشكل وثيقة تاريخية يُسجل في معطياته صورة عن الواقع الثقافي والنضالي الوطني للشعب الفلسطيني على ارض فلسطين التاريخية. ومادة تضاف إلى ما سبقها وما سيليها من توثيق حيوي للذاكرة الجماعية، التي يجب أن يعرفها ويحتفظ بها أبناء شعبنا في كل مكان.. إذا امكن.
وهنا اود التوقف عند عنوان الكتاب الذي قال عنه راضي شحادة "أحببت أن يكون اسم الحفيد حاوياً لكلمتي (سيرة) و (حكواتي)، لما لهما من ارتباط عضوي وتوأميّ، بعضهما مع بعض، قديمًا وحديثاً، وما لهما من أهمية في علاقتي معهما كمؤسس لمسرح السيرة، وكساردٍ لسيرته من خلال تجربتي المسرحية، وكعضوٍ في فرقة الحكواتي، وكأحد مؤسسي مسرح الحكواتي"ص 20. لكنني أجد أن هناك بُعد آخر في تتمة العنوان.. سيرة حكواتي من فلسطين.. إذ أنه ربط القسم الأول من العنوان بـ "من فلسطين".. ولم يقُل سيرة حكواتي فلسطيني.. وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على أن هذه السيرة هي واحدةً من سيّراتٍ كثيرةٍ تداولها الأقدمون ويتناولها ويطورها القادمون في القادم من الأيام.. ومن هنا أيضاً نستشف موضوعية الكاتب وبُعدهُ عن النرجسية والنزعة الفردية في تناول الأمور.. ذلك ليشُد القارئ لدخول عالم تجربته وسرد سيرته بقابلية ودون أية غطرسة مسبقة.. لكأنما يخبرنا مسبقاً أنهُ ليس وحدهُ من يحمل سيرة الحكاية، فهناك حكواتيّ المقاهي الدمشقية، والكثير من حكايات الأجداد حول مواقد النار فيما مضى من العقود الخوالي! كما أن هناك سيّرات آتية مع القادم من الأيام، على بساط المسرح "الفرجوي" كما يصفه الكاتب في سيل سيرته، إما بواسطة مسرح "السيرة" أو من خلال أعمال لفنانين ولفرق مسرحية أخرى.
في "الطلقات التي أطلقتنا" نجد صورة حية واقعية عما كان يتعرض له "جيلنا وجيله" من مواجهات، مع المعتقدات والمفاهيم الإجتماعية الراسخة في عقول الأكثرية من أبناء شعبنا، من أن المسرح والأدب والفنون على أنواعها، لا تطعم خبزاً!! بل وأنها مضيعة للوقت و تتنافى وعاداتنا وتقاليدنا الأخلاقية الشرقية.. وأنها دخيلة علينا من الغرب الفاجر. بل أكثر من ذلك، فإن البعض كان يعتبر التعاطي بالفنون الجميلة هو عارٌ يترتب عليه نبذُ كل من يقترب منه أو يتعاطى به، هذا على صعيد الشباب.. فكيف إذا ما تعلق الأمر بالفتيات؟ فإنها الطامة الكبرى! فمن هو الذي كان سيسمح لإبنته أو لأخته بأن تقف على خشبة المسرح مع شبان أمام الناس؟؟ وخاصة إذا كان المكان الذي يجتمعون فيه لتحقيق غاياتهم الثقافية ما هو إلا مبنى مقدس.. كنيسة أو قاعة متواضعة تعود لأحد دور العبادة! لكن في سياق هذه الرواية نصل فيما بعد فقراتها الأولى إلى كيفية ايجاد الوسيلة للمضي قدماً في تحقيق أمالهم.. "طبعاً لم تخلُ قريتنا من الكثيريين من (أولاد الحلال) الذين حمونا وشجعونا على المضي في مسيرتنا" ص 27 .. هكذا كانت بداية تأسيس "مسرح البلد" وكم من "مسرح البلد" أُقيم بمثل هذه الظروف في العديد من قرانا الفلسطينية.. ومن بطن المعاناة والتصميم ولدت مسرحية "البيت القديم"، وقد جاء في سياق الحديث ذِكرُ أناسٍ ساهموا في دعم هذه المسيرة منهم المخرج النصراوي صبحي داموني وعازف الكمان فؤاد طنوس. وقد ساهمت هذه التجرية في نهضة مسارح أخرى.. "لا بل انتقلت عدوى مسرحنا إلى عرابة وسخنين وعبلين وشفاعرو، حيث قدمنا العروض لمسرحية "البيت القديم". ص 28
أما عن مواجهة الإحتلال ومقارعة السلطة العنصرية في تصديها لكل ما هو إنساني ووطني، فإن الكاتب لا يُهمل أية فرصة للتذكير بما كان يعانيه شعبنا من بؤس وظلم، على يد محاكم التفتيش والرقابة.. التي كانت تحظُر العمل المسرحي الوطني الإنساني الهادف، كما كانت تمنع المنشورات والكتب الوطنية المحلية والمستوردة من العالم العربي.. وتفرض الإقامة الجبرية على المثقفين والمناضلين من أبناء شعبنا هنا وهناك. وفي مقابل ذلك تَعمدَت السلطة على تحريّف تاريخنا وحشوّ عقول أجيال من أبناءنا، بمناهج تدريس تُبعدُنا عن تاريخنا وتفصلنا عن هيويتنا الفلسطينية.
في مقدمة الفصل الثالث "اللا استقرار" يُعيّد الكاتب إلى الذاكرة، روح العمل التطوعي الجماعي، الذي تحلى به جيل شباب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فيمضي ويقول: "شاهدت شباباً يتشاركون في كل شيء للعرض، من بناء منصة وديكورات وإضاءة وأجهزة صوت واتصالات ودعاية. لم أستطع خلال هذا المشهد من التحضير للعرض التمييز بين الممثل والتقني والإعلامي والمخرج. أعجبني وأبهرني أسلوب الاشتراكية والجماعية في عملهم، وإصرارهم على تقديم مسرح في ظروف صعبة" ص 41.. إن من عاش تلك الحقبة من تاريخنا، لا بد وأنها لا زالت تكمن في خبايا ذاكرته تلك الأيام الرائعة، حين كُنا وكانوا يجتمعون في عمل تطوعي خلاق، لتحقيق أُمنية إنبثقت من جوف المعاناة والحرمان، لتحسين ظروف وعيّنا الثقافي، فمن بناء عمل مسرحي إلى أقامة معرض للفنون التشكيلية، أو إقامة عرض فني غنائي، وغيره وغيره من الأعمال الثقافية، وإلى أعمال تطوعية اجتماعية تُساهم في تحسين الظروف المعيشة والحياة الإجتماعية، وتخفف من معاناة الناس وشقاءهم! وأذكر في تلك الأيام مساهمة مجموعة من الشباب في شفاعمرو لبناء "مسرح الغربال" بأقل ما أمكن من موارد وإمكانيات، وقد كُنت واحداً منهم.. وإقامة معرض جماعي للفنون التشكيلية في المدرسة الثانوية سنة 1975 شارك فيه الفنانين اسد عزّي ومخائيل عبود وزاهي لوسيا وأنا وآخرون. وكانت درة العمل التطوعي فيما فجرهُ الشاعر الوطني رئيس بلدية الناصرة طيب الذكر توفيق زيّاد، في اقامة مهرجان العمل التطوعي في الناصرة، والذي كان يمتد لعدة أيام، تتخلله أمسيات ثقافية إبداعية متعددة، ناهيك عن تنفيذ مشاريع بنيوية وإنشائية في جميع أحياء المدينة، كوسيلة نضالية من العيار الثقيل، جاءت في مواجهة عنصرية السلطة وعملائها.
هناك عدة مشاهد عميقة الرؤيا مشحونة بشغف واخلاص الكاتب بالعمل المسرحي، وارتباطه بواقعه السياسي ومبادئه الوطنية واخلاقه الإنسانية، ذلك دون أن يفوت الفرصة على التذكير بما هيمن على البعض من ابناء شعبنا في ال 48، من تأَثر بالسياسة الصهيونية وابواقها الإعلامية.. فيتناول هذه الظاهرة بكل وضوح ويقول عنها "الغريب أن بعض الناس عندنا من عرب ال 48، وبعد كل هذه الفترة الطويلة التي لم تُحل فيها قضيتنا الفلسطينية بعد في ظل عيشنا تحت حكم اسرائيل، اقتنعوا بفكرة أن حقوقهم كمواطنين في اسرائيل مساوية لواجباتهم، فإن اراد أحدهم المطالبة بحقوق متساوية مع اليهود، فعليه أيضاً أن يخدم في الجيش والشرطة والأمن في دولة لا تنتهج المساواة بين مواطنيها." إلى أن يصل إلى الحقيقة الدامغة فيُكمل بما يلي "وهو يظن أنَّ واجباته تجاهها وظيفة يعتاش منها المواطنون كأي وظيفة أخرى، وهذا يتناقض وهويته الفلسطينية المنزوعة منه منذ سنة 1948." ليعود ويؤكد عمق ارتباطه بهويته الفلسطينية وعمق التواصل ما بين هنا وهناك الذي هو هنا "لا أنكر أنني عمقت تعلُقي بهويتي الفلسطينية بعد أن خالطت أخوتي الفلسطينيين في الضفة والشتات، فهم لم يتهمهم أحد بأنهم ليسوا فلسطينيين، أو أنهم "عرب اسرائيل"... "أليس من العبث الاسنتناج بأنّ فرانسوا الفرنسي المجري يتفلسطن مثلي أنا الفلسطيني المتهم بالأسرلة من بعض العرب والفلسطينيين" ص 49. إن مثل هذه القضايا التي أرّقت على مدى سنوات، الوطنيين الشرفاء من أبناء شعبنا في وطنهم، إن كان بسبب اندماج البعض في دورة الحياة المعيشية، أو لأسباب أخرى يتذرعون بها، لإرتباطهم بالمؤسسة الاسرائيلية عن رغبة في دلال العيش وصفاء البال، كما لا يزعمون!! إلا أن عملية صقل الإنتماء الوطني المتجذر بالتاريخ والإنسان والمكان، ساهمت في خلق كوادر من الوطنيين الشرفاء على مدى مساحة هذا الوطن، وشجع الكثيرين من أبناء هذا الشعب على مواجهة السياسة العنصرية وتعميم الغباء، لينبت واقعاً مفعماً بالصمود والتحدي والقناعة، بأن "هذا هو الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه.." مقولة طيب الذكر إميل توما.. التي اصبحت على لساننا كأنها مرادفة "للصباح والمسا".
يسرد الكاتب بسهولة ممتعة عملية تأسيس أول فرقة مسرحية وطنية فلسطينية.. ألا وهي فرقة الحكواتي وقصة إنضمامه إليها، كما يذكُر عناوين المسرحيات التي أنتجتها الفرقة، واسماء المشاركين فيها، والظروف الصعبة التي مرت على الفرقة من شح بالميزانيات وغيرها من عوائق وصعوبات، إلى تلك الحواجز التي كان يضعها الإحتلال لمنع عرض المسرحيات والتنقل بها. ومنها يستمر منتقلاً إلى الرحلة التي قامت بها الفرقة لعرض مسرحياتها، في عدد من الدول الاوروبية من غربها إلى شرقها، اضافة إلى عروض في عدد من الدول العربية.. ليُظهر الكثير من السعادة والفرح، على الرغم من المجازفة والمصاعب الناتجة عن ذلك. إن تحقيق أهداف ربما كانت كحلم بعيد المنال، لا بد وأن تكون نتيجة جهد وعطاءٍ بلا حدود، ليتكلل عطاءها بوضع بصمة فلسطينية وطنية، في وجه عالم مشبع بالدعاية الصهيونية، مما دفع بالعائلة المسرحية "الحكواتي" إلى الطموح لمزيد من العمل والكد من أجل ما هو أفضل.. ولتستمر في مسيرتها، فتقوم عند عودتها إلى رحاب القدس، بالعمل على تأسيس أول مسرح ومركز ثقافي من خلال استئجار بناية لذلك.
"زاد إيماننا بأن تحويل بناية محروقة إلى مسرح ثقافي هو رسالة مهمة وهدف منشود. وهكذا تم التعاقد بيننا وصاحب البناية لمدة عشر سنوات بدءاً من تاريخ 28/11/1983 من أجل تحويلها إلى بناية مسرح ومركز ثقافي، ... وهكذا انطلقنا بكامل نشاطنا وبحماس منقطع النظير في البناء والترميم." ص 132 و 133.. تلتقي هنا بنضال وطني من نوع خاص، هو نوع من التحرير واقامة جزء من الوطن على بساط الوطن، مشروع ثقافي إنساني يُمهد السبيل لوتيرة مرتفعة من العطاء، من أجل بعث روح الأمل بالجماهير لغدٍ أفضل، تتظافر الجهود من اصحاب المشروع بالقيام بكل ما يقدرون عليه من عمل، وبدعم تطوعي من العمال والتقنيين الذين اقنعتهم فكرة بناء صرح وطني كهذا. فيتحول حلم ثبات فرقة الحكواتي المسرحية، إلى تجسيد مشروع صرح ثقافي عصري، يتيح المجال امام شتى أنواع الثقافة والفنون لتصدح في رحابه.
تكبُر مساحة العطاء، وتصبح ورشة العطاء الثقافي بأنواعها المتعددة قابلة للحياة، فمن إنتاج أعمال مسرحية جديدة لفرقة الحكواتي، إلى انشطار خلايا مسرحية جديدة من بين أعضاء الفرقة ذاتها، لتكوّن فرق أخرى تعمل على إنتاج مسرحيات خاصة بها، إلى إقامة ندوات ثقافية، فعروض لفرق مسرحية من عدة أماكن، لتتدفق الحياة متوهجة في عروقه، بألوانها السوداء والبيضاء والخضراء والحمراء، فلسطينية الهواء والتراب والدماء، عاشت فلسطين. فيقضُ مضاجع الإحتلال هذا النهوض العظيم، ويُأرق غفوتهم فيستنفرون عنصريتهم بشكل بشع كعادتهم، في عدائهم لكل ما هو فلسطينيّ وإنسانيّ، فتتوالى أوامر إغلاق مسرح الحكواتي، ومنها إلى منع عروض مسرحيات وندوات ولقاءات ثقافية هادفة.. كل ذلك تحت وطئ بوادر إنشقاقٍ داخلي، نشبَ من خلال صراع الأضداد المتفاعلة والفاعلة داخل الفريق الواحد، لتتعداه إلى صراع هدد وجود الفرقة وهذا الصرح الثقافي العظيم.. إلا أنها ما لبثت أن وجدت سبيلها، لوضع آلية تتيح للجميع أن يحقق ما يصبوا إليه، مع الحفاظ على خصوصية مسرح الحكواتي بمكانهِ ومكانتهِ.
يتضمن الكتاب صوّر عن مراسلات بين الكاتب وبعض الأعضاء من مؤسسي فرقة الحكواتي المسرحية، إضافة إلى نبذة عن النقاشات التي كانت تدور بين أعضاء الفرقة، كدلالة على مصداقية العمل الجماعي، لأناس قضو برفقة بعضهم من الوقت، أكثر مما يقضي الإنسان بين أهله ومُحبيه. كل ذلك تحت وطئِ ضغوض السياسات العنصرية القمعية، التي كان يتفنن الإحتلال في تنفيذها ضدهم، ناهيك عن المشاكل الشخصية لكل فرد من أفرادها.. مما يُشعرك بمرارة في الحَلق يَمتد لهيبها لعمق رئتيك، حتى في أوج السعادة الآتية بعد نجاح أي عمل كان.
يذكُر راضي كل المسرحيات التي أنتجها مسرح الحكواتي، تلك التي شارك فيها شخصياً ومسرحيات أخرى. ويعمَّد إلى ذِكر أسماء الممثلين والمخرجين وكافة العاملين فيها.. مع بعض التواريخ وأماكن العروض في الداخل الفلسطيني من هنا وهناك.. كما يُسجل مسيرة جولة العروض في الخارج، وتحديدًا في أوروبا الغربية والشرقية، ويضع أمامنا صورة عن واقع تلك البلدان وإمكانياتها الثقافية والإجتماعية، إضافة إلى طرح موقفه بكل وضوحٍ وجرأةٍ حول الأمور التي كان شاهداً عليها.. أمّا عن رحلته لعرض مسرحيته "عنتر في الساحة خيال" التي رقصت على خشبات المسرح في اليابان، وعن دقة العمل والتنفيذ الياباني واحترامهم للوقت، لتصيبهُ الدهشه، فيُسجل ذلك بتعابير شيّقة، واصفاً أبعادها مقيماً أحداثها بشكل موضوعي يبعث على الكثير من الأحترام وبعض القليل من الغيّرة والحَسد. ومنها إلى مقارنة ما لقيّ إبان مشاركته والفرقة المرافقة له، لعرض في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة. فبعد أن تم الإتفاق على عرض المسرحية في قاعة الجمهورية والتأكيّد على تزويدها بكل متطلبات العرض، نَقض المصريون وعدهم ونقلوا العرض إلى مسرح السامر، حتى أنهم لم يلتزموا بتنفيذ أي وَعدٍ من وعودهم، ليتبين له في نهاية المطاف حقيقة قيّم الإلتزام بالضيافة عند "العرب"، فيقول: "وبخاصة أنني عرفتُ الحقيقة المُرَّة أن إدارة المهرجان قدّمت قاعة مسرح الجمهورية لفرقة كويتية. وكان من حقِّي التساؤل: هل أعطوهم إياها لأنهم كانوا أكثر عروبة منَّا وأدَقّ منا في التخطيط أم أنّ المال الخليجي لعب لعبته؟" ص 265.
يُذكرني ما رواه راضي عن تجربتهِ المصرية بما كنت شاهداً عليه في مسرح الميدان ما بين عام 2000 و 2003، حيث كان العرض الاحتفالي الأول، يتم بحضور أفواج غفيرة من الناس، حتى تمتلئ القاعة وممر الدرج في الوسط وعلى الجانبين، وعندما كنا نقوم بنشر اعلاميّ ودعائيّ منظم، للترويج لحضور العروض التالية، وصلنا في نهاية بحث لتقيّم عدد كبير من العروض.. إلى نتيجتهُ تُثبت أنه لم يزد عدد الأشخاص الحاضرين في كل عرض عن ستين أو سبعين شخصاً. أي أنه هناك نزعة استغلالية تكمن في البعض من البشر.
وهناك حادثة طريفة يذكُرها الكاتب في سياق زيارتهم إلى تونس لعرض مسرحية "محجوب محجوب".. ص 115. لكني سأذكر ما جاء بعدها لصدقها وغرابتها في آن.. "وأذكُر أنّ النادل التونسي الذي كان يقدِّم لنا الطعام في فندق "تور بلانش" استغرب عندما علم أن أحد أفراد فرقتنا اسمه داود وأنه فلسطيني، والمقصود الممثل داود كُتاب. لم يكن يصدِّق أن هناك عَرباً مسيحيين فلسطينيين، وظنَّ أن فلسطين كلها مسلمة ويحتلها اليهود. ضحك عدنان طرابشي وكاد يقع على ظهره من شدّة الضحك مُعلقاً على ردّ فعل هذا المواطن قائلاً لداود: "إذا كنتم أنتم المسيحيين تُشكلون نصف عدد سكان الكرة الأرضية وفلسطين تحتوي على مئات الآلاف منكم ولا يعلمون هنا عن وجودكم، فكيف سيكون عليه الأمر إذا قلت لهذا المواطن الذي يجهل حالنا أنني درزي...." ص116.
تصطدم خلال إبحارك في عباب الكتاب بقفشات شعبية محكية.. "شنَّصَت معنا" ص55، و "يتَنَطوَط كالعصفور" ص61، و "بلا طول سيرة" ص 62، و "على قد الحال" ص82، ومن "المولد بلا حمص".. وغيرها وغيرها من المقولات الشعبية الفلسطينية المرتبطة بالسيرة الفلسطينية. تأكيداً على أن هذا الراضي راضياً بكل جوارحه عن اختياره المسرحيّ وإنتماءه الفلسطينيّ، ومشبع حتى الثمالة فيهِ.. من اساسهُ لراسهُ. أضف إلى ذلك أنه يطرح أفكاره، أي راضي، ومواقفه بكل جرأة ووضوح، في كل ما يتعلق بالإنتماء الوطني، الصراع الاسرائيلي العربي الوطني والرجعي بما له وما عليه، كما يناقش وعن قناعة راسخة، رؤيته القومية والأُممية وصراعها مع الامبريالية العالمية، وتواطئ الأنظمة الغربية والعربية الرجعية وغيرها معها، ولكن هناك حالة ثابتة لا لبس فيها، وهي أنك تجد فلسطين بروحها وعبق ذكرياتها وأصالتها في معظم صفحات الكتاب.
وهناك سلسلة من الحكايات الواقعية عن المخيمات ومسيرة العروض المسرحية فيها.. بداية من مخيمات الضفة الغربية المحتلة وصولاً إلى مخيمات غزة التي لا نهاية لمآسيها وعذابات الفلسطينيين فيها.. هي سيرة مخيمات بائسة وعروض تحاول جاهدةً أن تدخل بعضاً من الفرح، لقلوب أبناءها الصغار خاصة. وفي خضم كل ذلك لم ينسى أن يذكُر الفنان مصطفى الكرد والحانه الشجية من خلال مشاركته بعض أعمال فرقة الحكواتي، ومشاركته في أعمال أخرى تخص صاحب السيرة. وحين تصل إلى الفصل الأخير من الكتاب تُصاب بنوبة حزن على رحيل الفنان الفلسطيني الهوى، فرانسوا ابو سالم لتقرأها تحت عنوان "همسة وفاء.. إلى فرانسوا ابو سلم" فيذكر من خلالها سر تسميتهِ "لم أكن أعلم سرّ كنيته "ابو سالم" واكتشفت أن هذا الاسم ذُكر في أحد الدواوين الشعرية لوالدك الشاعر الطبيب "لورون غاسبار". كثيراً ما كان يعتبر بعض الكُتّاب ومتتبعي سيرتك ومسيرتك أنك من أصول عربية بسبب كنية "ابو سالم" التي التصقت باسمك،" ص 360
نعم لقد اسعدني كتابكَ حقاً يا صديقي، اسعدني وعمق جراحي، وزودني بسيرة مسيرة مسرح، تتوافق مع مسيرة والآم وطموحات شعبنا الفلسطيني، على مدى أكثر من اربعة عقود من الزمان، ووضعني أمام أسئلة مصيّرية، كان قد رددها الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، حين صرخ قائلاً "إلى أين تُبحر السفينة" في روايته التي حملت عنوان "السفينة"أيضاً.. وها أنا أعود لصرخته وارددها .. "إلى أين تُبحر السفينة؟" خاصةً في هذا الزمن الملعوّن!
يرويها: زاهد عِزَّت حَرَش
شفاعمرو آذار 2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت