من مدينة يافا عروس الساحل الشامي الفلسطيني، وبدءاً من نعومة أظافره، واصل مشواره في الحياة الدنيا، انتقالاً الى دمشق جراء النكبة الكبرى عام 1948، وصولاً الى العمل العسكري واحترافه، وانتقالاً الى المشاركة في معارك الجولان العربي السوري المحتل وقيادة السرية الخاصة بالإنزال (إبرار جوي) على موقع (تل الفرس) ، وحتى استشهادة في لبنان عام 1976.
ولد الشهيد العقيد مصطفى محمد أبو دبوسة في مدينة يافا (أم المدن) عام 1945، وحينما وقعت النكبة عام 1948، التجأت عائلته إلى الجزء الثاني من وطنه، الى سوريا، وأقامت في مدينة دمشق حيث أتم تعليمه، ثم التحق بالكلية الحربية ليتخرج فيها ضابطاً عاملاً في الجيش العربي السوري، ومن ثم تم نقله (إعارة) إلى ملاك قوات (حطين) في جيش التحرير الفلسطيني في سوريا عند تأسيس الجيش في أيلول/سبتمبر 1964، حيث استلم عدة مهام، كان منها مهمة رئاسة قسم الاستطلاع في قيادة قوات حطين، ومن ثم رئيس أركان الكتيبة 422 مشاة/صاعقة.
كان مصطفى أبو دبوسة، برتبة نقيب أثناء حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، حين أوكلت اليه مهمة قتالية على رأس سرية خاصة تابعة لجيش التحرير الفلسطيني، وتمثلت العملية العسكرية بالإنزال المحمول بواسطة طائرات هليوكبتر سورية من نوع (مي 8)، على موقع (تل الفرس) في الجولان العربي السوري المحتل، واستطاعت القوة تحرير موقع (تل الفرس) من القوات الصهيونية، وقد أجرت الوحدة القتالية التي تم انزالها على موقع (تل الفرس) تمارين مسبقة على عمليات الإنزال في الفترات التي سبقت اندلاع الحرب.
وقبل عملية الإنزال، وصباح السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وقبل انطلاق شرارات الحرب بساعاتٍ قليلة، التقى اللواء مصباح توفيق البديري قائد الجيش، مع الوحدة القتالية اياها، طالباً من المقاتلين البلاء الحسن، دون أن يعلموا المهام المطلوبة منهم وتوقيتها. كذلك التقى مع وحدات ثانية كان منوطاً بها انجاز عمليات انزال في مناطق مختلفة من الجولان العربي السوري المحتل (بعض مرتفعات ومواقع جبل الشيخ + وانزال كتيبة خالد بن الوليد على مقر القيادة العملياتية لجيش الإحتلال والواقعة بين قريتي : واسط، وكفر نفاخ، وسط الجولان + الهجوم على تل الشحم + واندفاع قوات القادسية في القطاع الجنوبي وصولاً للشواطىء الشرقية لبحيرة طبرية...). (لقاء حواري خاص مع اللواء مصباح البديري 2014).
وبالفعل، وعند الساعة 15,00 بعد ظهر اليوم الثاني لبدء المعارك، أي في اليوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وبينما كانت القوات السورية تتابع تقدمها في مرتفعات الجولان، انطلقت الطائرات العمودية من قواعدها تحمل مجموعات الإنزال الجوي من قوات حطين لتبدأ عملية تحرير تل الفرس (كان جيش الإحتلال قد أطلق عليه مُسمى تل زوهر). وكان جيش الإحتلال قد أقام فوق التل موقعاً دفاعياً على سفوحه الشديدة الانحدار وبنى فيه مرصداً حصيناً له أهميته، ويتألف المبنى من ثلاثة طوابق. وهو أشبه بقلعة من الصخور السوداء. وفي داخل المرصد ثلاثة محركات ديزل لتوليد الطاقة الكهربائية، وثلاثة نظارات مزدوجة لرصد بعيد المدى، كما توجد ثلاث فتحات خاصة بالرصد، تسد في أثناء الأعمال القتالية بقطع حديدية سميكة، وفي منتصف كل قطعة فتحة خاصة للرصد في حالات القتال. يبلغ طول التل 200 - 250م. وعرضه 100 ـــــ 150م. جدران المرصد سميكة لا تؤثر فيها رمايات الطيران والمدفعية ـ وفوقها مجموعة من الطبقات، والطبقة عبارة عن كتلة من الأحجار السوداء. يستطيع جيش الإحتلال أن يرصد أية تحركات على مسافات بعيدة، وهو مزود بالأجهزة اللاسلكية للاتصال بالقيادة وإبلاغها بسرعة عن أي تحرك مضاد. كما يحوي المرصد أجهزة قيادة وتوجيه الطائرات وكذلك أجهزة تشويش الكتروني.
انطلقت الطائرات العمودية في اتجاه تل الفرس، أبواب الحوامات مفتوحة، المقاتلون ينتظرون لحظة الصدام مع العدو، قائد مجموعات الإنزال، النقيب مصطفى محمد أبو دبوسة، يقول لهم: "اليوم يومنا يا رجال.. ونحن رجال جيش التحرير الفلسطيني.. أريد منكم عملاً بطولياً لنثبت وجودنا..".
كان المقاتلون يتطلعون من أبواب الطائرات العمودية، ومن الطاقات إلى الى الجزء المحتل من الجولان. اقتربت الطائرات العمودية من تل الفرس، وأصبحت فوق التل، ففتح جيش الإحتلال نيرانه عليها، وردَّ المقاتلون على النيران بالمثل، ووجّه قائد الطائرة العمودية الأمامية الأولى رشقة من الصواريخ إلى مصادر النيران المعادية، لقد كان جنود الإحتلال يوجهون نيرانهم إلى غرفة قيادة الحوامة وبابها، وعندما تابع العدو الرمي، رد قائد الحوامة برشقة أُخرى من الصواريخ، وفي هذه الأثناء جرح النقيب مصطفى في ساقه اليسرى، ولم يعلم بذلك سوى المساعد توفيق يعقوبي، الذي كان يجلس إلى جانبه، وما إن طلب قائد الطائرة الاستعداد للهبوط حتى قفز على الفور المجند محمد الدربي، الذي كان عند باب الطائرة، وتبعه قائد المجموعات، ثم بقية المقاتلين.
تمت عملية الإنزال على الجانب الشمالي الشرقي لتل الفرس، ودخل المقاتلون في معركة دموية مع مقاومات العدو، وبعد أن طوقت المجموعات التل، بدأت تطلق النار من رشاشاتها وتقذف القنابل اليدوية على جنود جيش الإحتلال، حتى تم احتلال تل الفرس.. وأعطى قائد المجموعات أمراً بتنظيم الدفاع الدائري حول التل، وكانت الضربات التي وجهتها قوة الإنزال من قوات حطين أقوى من رمايات الطيران والمدفعية ولم يكن العدو يتوقع إنزالاً بالطائرات العمودية. وقد أحدث الإنزال المفاجئ إرباكاً أشاع الموت والذعر في صفوف جيش الإحتلال.
ومضى الليل وأطل صباح يوم جديد. وفي الساعة 6,00 من يوم 8 تشرين الأول تقدمت سرية مشاة من الجيش العربي السوري باتجاه تل الفرس. وعند الساعة 7,00 وصلت عربة استطلاع، وأقامت مرصداً على التل لتأمين الاتصال بالقوات الصديقة. وهكذا قاتل رجال قوات حطين، في الالتحام به وجهاً لوجه، وحتى أن النقيب مصطفى قائد قوات الإنزال، الذي جرح في بداية العملية، لم يلق السلاح بل ظل يواصل القتال حتى تم اقتحام التل واحتلاله. وتقديراً من القيادة فقد منح هذا الضابط الشجاع وسام الشرف العسكري من درجة (فارس). ونوط الشجاعة لباقي عناصر القوة التي تم انزالها على موقع (تل الفرس).
وهكذا تم الإنزال على موقع (تل الفرس)، وقد أبلت هذه القوة التي تم انزالها بحوامات (مي 8) بقيادة الضابط (النقيب) في حينها مصطفى أبو دبوسة، بلاءً حسناً، واستطاعت اقتحام موقع (تل الفرس) الحصين، وتحريره، وأسر عدد من جنود جيش الإحتلال، وقتل عدد آخر، كان منهم قائد الموقع، الذي امتشق النقيب مصطفى أبو دبوسة مسدسه الأمريكي، وأهداه للقيادة العسكرية السورية، رغم أصابته خلال المعركة، بإصابة بالغة، ولكنه تعافى منها فيما بعد، وعاد للعمل ضمت قوات جيش التحرير الفلسطيني.
أسندت للعقيد مصطفى أبو دبوسة، مهمات قتالية جديدة، حتى استشهاده في لبنان بتاريخ 7/6/1976، واستشهد معه المقدم موفق هاشم الماضي (إجزم، قضاء حيفا). ويُشار هنا الى شقيقه الشهيد الملازم اول الطيار الحربي (ميغ 21) عدنان ابو دبوسة (مواليد يافا 1947)، والذي سبقه في الإستشهاد في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وهو يتصدى لطائرات العدو فوق سماء دمشق. وقد اطلقت وزارة التربية السورية اسم الشهيد مصطفى أبو دبوسة على احدى المدارس الثانوية بمدينة حلب، واسم شقيقه الشهيد الطيار الحربي عدنان أبو دبوسة على احدى المدارس الإعدادية بحي الميدان بدمشق.
(الصورتين : الأولى الشهيد مصطفى أبو دبوسة. والثانية للشهيد الطيار الحربي عدنان أبو دبوسة)
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت