كتب نشأت الوحيدي الناطق باسم مفوضية الشهداء والأسرى والجرحى بالهيئة القيادية العليا لحركة فتح في قطاع غزة وممثل فتح في لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية : كنتُ قد التقيت في منتصف نيسان 2002 بالمغفور له بإذن الله الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى وزير الداخلية الفلسطينية الأسبق في فندق فلسطين بغرب مدينة غزة بناءاً على طلبي للاطلاع وتوثيق شهادته الهامة حول المجزرة الإرهابية التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية في قرية الطنطورة التي تقع في قضاء مدينة حيفا جنوباً كونه كان من أبرز المطلعين على تفاصيل تلك المجزرة الرهيبة وكان آنذاك برتبة لواء ركن ولا أزال أحتفظ بالمذكرة التي كتبها لي بخط يده حول المجزرة التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية بتاريخ 23 / 5 / 1948 في مسقط رأسه ومسكن عائلته في قرية الطنطورة لعشرات العقود من السنين .
وقبل البدء بسرد ما جاء في المذكرة أود الإشارة إلى أن المغفور له الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى من مواليد قرية الطنطورة في قضاء مدينة حيفا بفلسطين المحتلة عام 1948 في 15 / 3 / 1929 كان أول قائد لجيش التحرير الفلسطيني وكان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من 1984 – 1991 وكان مديرا عاما للدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية من العام 1971 حتى العام 1984 وتم تعيينه وزيرا للداخلية في حزيران 2002 ومنحه الرئيس محمود عباس أبو مازن نجمة الشرف من وسام الرئيس الشهيد ياسر عرفات تكريما وتقديرا لمسيرته النضالية وله العديد من المؤلفات العسكرية والسياسية وقد ترأس المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وتحديدا في الشق الأمني من العام 1993 إلى 1999 وقد فارق الحياة بصمت المناضلين في العاصمة الأردنية عمان في يوم الاثنين الموافق 9 / 3 / 2020 .
وعودة إلى تفاصيل مجزرة الطنطورة التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية الإرهابية ومنعاً لأي التباس فقد أشار الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى إلى أنه لم يكن موجودا في فلسطين وقت المذبحة ولكن كان في سوريا يتبع دورة للضباط في معسكرات قطنا بالقرب من العاصمة دمشق ، وأنه كان قد علم لأول مرة عن المذبحة بالصدفة عندما سمع حديثا من ضباط في جيش الإنقاذ كانوا تجمعوا مع قواتهم في معسكرات قطنا قادمين من المنطقة الوسطى في فلسطين لإعادة التنظيم .
وفي اليوم التالي تأكدت له الأنباء عن المجزرة من سماحة الحاج أمين الحسيني رحمه الله عندما التقاه في فندق أوريان بالاس في دمشق والذي قال في حينها بحسب الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى أن الهيئة العربية العليا أصدرت بيانا حول المذبحة في قرية الطنطورة ونُشر في الصحف السورية آنذاك .
وأفاد اليحيى في المذكرة التي كتبها لي أن جميع المعلومات التي وصلته حول المذبحة التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية في قرية الطنطورة هي قليلة ومشوشة وأحيانا مقلقة ولم يهدأ له بال حتى وصلت أول مجموعة من عائلته لاجئة إلى سورية ليعرف منهم تفاصيل المذبحة وكانت عائلته تقيم في حيفا لعدة سنوات ثم انتقلت منها بعد سقوطها عائدة إلى الطنطورة وكان نصيب أبناء عائلته أن يشتركوا في معركة الطنطورة بكافة فصولها وأن يصيبهم ما أصاب بقية سكان القرية .
وأكد في المذكرة التي كتبها بخط يده ولا أزال أحتفظ بها أن مذبحة الطنطورة كانت في 23 / 5 / 1948 ولم تأخذ البعد الصحيح في الإعلام الفلسطيني والعربي والعالمي بل كان العكس تماما إذ تعرضت للتعتيم الكامل عقودا طويلة من الزمن مع أنها كانت من أكثر المذابح التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني وحشية .
وجاء في إفادة الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى أن أحد أشقاءه كان من الذين ساهموا في الدفاع عن القرية وهو مهندس معماري وكانت مهمته أثناء المعركة هي الإشراف على المستوصف وإخلاء الجرحى واسعافهم وقد كتب عن المذبحة فور تحرره من السجن تحت عنوان ( مذكرات أسير ) وجاءت كفصل من كتاب ( من أثر النكبة ) للأستاذ محمد نمر الخطيب وربما هذه المذكرات كانت هي الوثيقة الأولى والوحيدة التي تحدثت عن مجزرة الطنطورة والتهجير والاعتقال .
وأضاف نشأت الوحيدي الناطق باسم مفوضية الشهداء والأسرى والجرحى بالهيئة القيادية العليا لحركة فتح في قطاع غزة وممثل فتح في لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية أن اللواء ركن عبد الرزاق اليحيى كتب في مذكرته أن الوضع ظل هكذا حول المجزرة إلى حين التقى بالكاتب والباحث الإسرائيلي ( تيدي كاتس ) الذي عرض عليه مشروعا لدراسة عن مذبحة الطنطورة لنيل درجة الماجستير من جامعة حيفا وأنه شجعه وساعده في التبويب والمعلومات وتسمية الشهود ليكون الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى الشاهد الأول حيث تمكن الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس من إنجاز دراسته التي أحدثت عند نشرها زلزالا إعلاميا بحسب وصفه محليا ودوليا وفي داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي خاصة أن الباحث إسرائيلي يهودي ليستمر الباحث كاتس في عمل دراسات حول مذابح أخرى مثل مذبحة أم الزينات .
وأوضح اليحيى أول وزير للداخلية الفلسطينية وأحد أبرز المطلعين على تفاصيل المذبحة التي ارتكبتها المنظمات والقوات الإسرائيلية في قرية الطنطورة في 23 / 5 / 1948 أن من مجمل المعلومات التي توفرت حول المذبحة يمكن الحديث من خلال ثلاثة مشاهد رئيسية وقعت جميعها بعد وقف إطلاق النار وانتهاء المعركة ويتمثل المشهد الأول في قيام مجموعات من الإسرائيليين في بعض حارات القرية بقذف القنابل اليدوية وإطلاق النار على السكان في بيوتهم من الأبواب والنوافذ .
ويتمثل المشهد الثاني في قيام مجموعات أخرى من الجنود الإسرائيليين بعمليات إعدام لأعداد من الأسرى وذلك بصفِّهم أمام جدران المنازل ووجوههم تجاهها وإطلاق النار عليهم من الخلف وفي روايات لشهود عيان أنه جرى في بعض المواقع دفن جثث السكان والأسرى الذين تم إعدامهم في المكان .
وكشف اليحيى عن المشهد الثالث وهو أكثرها بشاعة ووحشية ويتمثل في عملية الإعدامات بالجملة والتي وقعت عند المقبرة بالقرب من مصنع الزجاج المهجور وجرى تنفيذها في الرجال على دفعات أمام أهالي قرية الطنطورة وقد حدث هذا بعد أن قامت القوات الصهيونية بجمع سكان القرية في المكان المذكور وقاموا بفرز الرجال والنساء والأطفال وإجبارهم على حفر خندق طويل عميق ثم قاموا بصفهم على أنساق متعاقبة موازية للخندق بدءاً من حافته ثم قاموا بإطلاق النار على الأهالي من الرشاشات نسقاً بعد نسق مع إجبار كل نسق على إلقاء جثث النسق الذي سبقه في الخندق ليظل هذا الإرهاب مستمرا حتى وصول أوامر خطية مع مراسل عسكري على دراجة نارية تنص على وقف الإعدامات التي كان شهودها الأطفال والنساء .
وجاء في مذكرة الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى التي تلقيتُ منها بعد أيام من لقائي بسعادته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته في مايو 2002 نسخة بخط يده في أن الإسرائيليين قاموا بعد المذبحة بتهجير أهالي القرية قسرا مشيا على الأقدام إلى قرية الفريديس وقاموا بالاستيلاء على مقتنيات السكان من الأموال والمصوغات الذهبية ومن قرية الفريديس قاموا بنقل الرجال إلى معسكرات الاعتقال ودمروا قرية الطنطورة بالكامل ولم يبق منها سوى مقام لأحد أولياء الله الصالحين ( المجيرمي ) ومبنى كبير يعود لعائلة اليحيى كانت بنته على شاطيء البحر مباشرة في عام 1882 ويضم مطحنة للحبوب اشتهرت بها القرية على مر السنين .
وقارن الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى في مذكرته التي لا زلت أحتفظ بها بين ما حدث في قرية الطنطورة في العام 1948 وما ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلي من مجازر وحشية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني في جنين في 3 / 4 / 2002 وجاء في المقارنة أن هناك تشابها كبيرا في طريقة وأعمال القتل والإعدامات وتدمير البيوت على ساكنيها وفي المقابر الجماعية وترويع الناس وسرقة مقتنياتهم وتهجيرهم وسوق الرجال إلى المعتقلات كما نجد تشابها في موضوع الإعلام والتعتيم على الأحداث ففي مخيم جنين جرى إغلاق المخيم أمام وسائل الإعلام ، كما وضعت العراقيل أمام لجنة تقصي الحقائق الدولية ومنعت من الوصول للمخيم وهوجم أعضاء اللجنة من قبل المسؤولين الإسرائيليين وألصقت بهم تهم مختلفة وكذلك كان الحال في قرية الطنطورة من حيث التعتيم الإعلامي طويل المدى على المذبحة ونفي المعلومات حول وقوعها .
وأشار الوزير اليحيى في المذكرة إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قامت بمهاجمة الباحث تيدي كاتس بعد نشر رسالته في الماجستير إلى درجة التهديد بالمحاكمة وإلى لعبة قانونية خبيثة للنيل من الدراسة مبينا أن ما جرى في 1948 وما يجري مثله الآن ليس من صنع فرد بعينه أو أفراد ولا هو مجرد ردود أفعال على نشاطات فلسطينية كما يقال ولكنه أبعد وأعمق من هذا بكثير فقادة المنظمات الصهيونية قبل وبعد احتلال فلسطين لم يخضعوا أبدا لأحكام أهوائهم أو طبائعهم الذاتية ولكن هو سلوك دائم يخضع لمخططات موضوعة ومدروسة لتحقيق أهدافهم وهذا هو سبب التشابه بين مذبحة الطنطورة ومذبحة مخيم جنين .
ورأى أنه من المهم جدا في متابعة موضوع مذبحة الطنطورة وغيرها من المذابح القيام بجمع أكبر قدر من المعلومات وتوثيقها بهدف تعميق المعرفة وإيجاد المرجعية التاريخية الموثوقة والتي يمكن الاعتماد عليها من قبل الدارسين والباحثين واستخلاص القوانين والمفاهيم والدروس والعبر وكذلك لصياغة التعريف الفلسطيني على معلومات مؤكدة وحقائق صحيحة لنتمكن من التخطيط للمستقبل على فهم للحقائق ومجريات الأمور بعيدا عن العاطفية والاسترضاءات والمزايدات مستفيدين من تجاربنا الغنية وبذلك نتمكن من العبور من الذكرى والذاكرة إلى الحاضر .
واختتم الفريق ركن عبد الرزاق اليحيى رحمه الله شهادته حول المذبحة التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية في قرية الطنطورة في 23 / 5 / 1948 بأنه يؤمن بقدرات شعبنا الفلسطيني وامكانياته وبأن التاريخ كما يقول بعض المفكرين هو سجل لما استطاعت الشعوب إنجازه وليس ما عجزت عنه وأن قوة العقل أقوى من قوة السلاح مؤكدا أننا بحاجة إلى ثورة في عقل الثورة .
وجدد نشأت الوحيدي الناطق باسم مفوضية الشهداء والأسرى والجرحى بالهيئة القيادية العليا لحركة فتح في قطاع غزة وممثل فتح في لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية الدعوة إلى توثيق الأحداث التاريخية والمجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني والعمل على بناء المكتبات القادرة على النهوض بالقضية الفلسطينية وإنعاش الذاكرة بما يخدم الأجيال الفلسطينية .