في يوم ميلاد فدوى طوقان الوجود وفلسطين في حياة الشاعرة

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه

***

 

ولدت الشاعرة فدوى طوقان في نابلس 17-3-1917 لأسرة عريقة وغنية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي، الأمر الذي فرض على الأسرة قيماً وسلوكات اعتبرت فيها مشاركة المرأة في الحياة العامة أمراً غير مستحب. وانعكس هذا على الحياة الشخصية لشاعرتنا التي لم تستطع إكمال دراستها فأُخرجت من المدرسة في وقت مبكّر جدّاً، اضطرت فيه إلى الاعتماد على نفسها في تثقيف ذاتها وكسر الشرنقة التي حيكت حولها باسم التقاليد والقوانين غير المكتوبة .

لم تتميز حياة فدوى طوقان بالانقلابات الكبيرة والمناصب المهمة، بل يمكن القول إنها لم تمارس شيئاً غير الشعر، هذا الشعر الذي تغذى على الفجائع والحرمان والموت والفراق والغضب المكبوت والثورة الصامتة . وقد شكّلت علاقتها بشقيقها الشاعر إبراهيم علامة فارقة في حياتها ، إذ استطاع هذا النبيل الساخر أن يدفع شقيقته إلى فضاء الشعر وحررها من ظلام حياة عادية كان يمكن أن تعيشها . كان عالم فدوى طوقان ضيقاً صغيراً ومحصوراً ، لم تخرج فيه إلى الحياة العامة ولم تشارك فيها سوى بنشر قصائدها في الصحف المصرية والعراقية واللبنانية ، وهو ما لفت الأنظار إليها بقوة ، وأهّلها لتدخل الحياة الأدبية الناشطة في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ومطلع الأربعينيات.

موت شقيقها إبراهيم ثم والدها ثم نكبة العام 1948 ، شكّلت ظروفاً مساعدة لخروج الشاعرة من قضبانها الحديدية، وجعلتها تشارك من بعيد في خضمّ الحياة السياسية في الخمسينيات ، ولكن هذا النشاط السياسي لم يتعدّ الاهتمام العاطفي ولم يصل إلى درجة الالتزام والانتماء الحزبي ، وقد استهوتها الأفكار الليبرالية والتحررية كتعبير عن رفض استحقاقات نكبة العام 1948 ، وهي مسألة غاية في الأهمية إذ أن شاعرتنا الكبيرة – وبسبب من اعتمادها على نفسها في تثقيف ذاتها – غرقت في الفلسفة الوجودية بشكل خاص والمدارس الفلسفية الغربية بشكل عام .

النقلة المهمة في حياة فدوى هي تلك الظروف التي دفعتها إلى أحضان لندن في بداية الستينيات من القرن الماضي ، ذلك أن رحلتها التي دامت سنتين ، فتحت أمامها آفاقاً معرفية وجمالية وإنسانية ، رحبة وواسعة ، وجعلتها على تماسٍ مع منجزات الحضارة الأوروبية ، فنّاً ومعماراً وأناساً وقيماً أخرى . وتعترف الشاعرة أن تلك المرحلة أثّرت عليها تأثيراً عميقاً على المستوى الشعري وعلى المستوى الشخصي . ويأبى القدر إلاّ أن يلاحق الشاعرة ، فيموت شقيقها نمر أثناء تواجدها في لندن .

ولكن فدوى حافظت على وتيرة حياتها الهادئة في بيتها الصغير على أحد هضاب جرزيم ، تكتب الشعر وتنشره ، تزرع الأزهار وتنتظر نموّها .

وشكّلت نكسة العام 1967 إحدى الدوافع المهمّة لأن تكسر الشاعرة مرة أخرى إيقاع حياتها الرتيب، فتخرج من جديد للخوض في تفاصيل الحياة اليومية الصاخبة ، فتشارك فيما عرف في حينه بوساطة بين وزير الحرب الإسرائيلي "موشيه ديان" والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتشارك أيضاً في الحياة العامة لأهالي مدينة نابلس تحت الاحتلال ، وتبدأ عدّة مساجلات شعرية وصحافية مع المحتلّ وثقافته .

هذا وقد أصدرت الشاعرة ثمانية دواوين شعرية هي على التوالي : "وحدي مع الأيام" ، "وجدتها"، "أعطنا حبّاً"، "أمام الباب المغلق" ، "الليل والفرسان" ، "على قمة الدنيا وحيداً" ، "تموز والشيء الآخر" و"اللحن الأخير" عدا عن كتابيّ سيرتها الذاتية "رحلة جبلية، رحلة صعبة" و"الرحلة الأصعب". وقد حصلت على جوائز دولية وعربية وفلسطينية عديدة وحازت على تكريم العديد من المحافل الثقافية في بلدان وأقطار متعددة .

تعتبر فدوى طوقان من الشاعرات العربيات القلائل اللواتي وصلن الشعر القديم بحركة الحداثة والتجديد، فخرجت من الأساليب الكلاسيكية للقصيدة العربية القديمة خروجاً سهلاً غير مفتعل ، ويمكن القول في هذا الصدد إنها جعلت من هذا الخروج أحد أهم نقاط قوتها ، محافظة في ذلك على الوزن الموسيقي القديم والإيقاع الداخلي الحديث ، وصاغت من ذلك قصيدة غنائية ناسبت ولاءمت نفسيتها التي تميل إلى التفجّع .

يتّصف شعر فدوى طوقان بالمتانة اللغوية والسبك الجيّد ، مع ميل شديد للسردية والمباشرة . وهي في تمركزها حول أسئلتها الوجودية ، فإنها تنكشف انكشافاً سافراً للأفكار المجرّدة ، وتتكئ في ذلك على مقولات جاهزة ، تجعل من بعض قصائدها وكأنها حوارات مع الأفكار ، أكثر مما هي تصوير للمشاعر .

جرأتها في مضامينها ، جعلتها تتقدّم في دروب المشهد الثقافي الشعري العربي، كما أن طرْقَها موضوع مكانة المرأة وعلاقتها بذاتها وعلاقتها بذوات الآخرين جعلها تتبوأ مكانة مرموقة بين الشاعرات العربيات، خاصة وأنها كسرت الصور التقليدية لمشاعر المرأة الشرقية ، وابتعدت بها عن كونها مجرد متلق لتدفعها إلى ممارسة الفعل وأخذ المبادرة ، انطلاقاً من داخل مهشمٍ ومهزوم.

فالحبّ عند فدوى طوقان أقصى قوة للمرأة ، من خلاله تمارس كل ما حُرمت منه تحت كل مسمّى . الحبّ ليس قوة سلبية ولكنّه يصدر عن سلبية ، ولهذا فهو طوق النجاة .. وعلى الرغم من التباس المفهوم في شعر الشاعرة واضطرابه ما بين حسية عالية وشفافية أخاذة ، إلاّ أن طَرْقَه والتركيز عليه جعل الشاعرة في مصاف الشاعرات اللواتي محضن هذا المعنى جل إبداعهنّ .

بالإضافة إلى كل هذا ، فإن شعر فدوى طوقان يتميّز بطاقة عاطفية مذهلة ، وهي لا تتأنّق في عرض هذه الطاقة التي تشدّنا إليها شدّاً ، ويمكن القول إن فدوى تجيد هذا اللون من القول ، الذي تختلط فيه الشكوى بالمرارة والتفجّع وغياب الآخرين .

شعر فدوى طوقان شعر غنائي متمركز حول ذاته ، شديد العاطفة ، سردي العرض ، يقدّم ذاته مباشرة دون وساطة ، وشاعرة كهذه لا بد لها – لتأكيد شكواها – أن تفلسفها ولو قليلاً .

***

     القسوة البالغة والقمع الكامل يؤديان الى نتيجتين متعاكستين تماماً: إمّا التشويه والتدمير وإما فعل يفوقهما قوة وجرأة. - بالمناسبة فإن عقلية الغازي او المحتل او الدكتاتور غالباً ما تتبنى القسوة البالغة للتشويه والتدمير، ولهذا تأتي لحظة غير متوقعة عندما يرتد ذلك عملاً ثورياً مبدعاً يكسر المعادلة المغلوطة - .

     أما فدوى، فإنها تعترف بكل جرأة وصراحة انها تعرضت لمحاولات التدمير والتشويه والقمع لهفوة مارستها وتمارسها كل مراهقة في حياتها . كانت "غلطتها" غلطة عادية، وكان يمكن لهذه الغلطة ان تعالج بطريقة اخرى لو لم تكن فدوى في نابلس المحافظة وفي الثلاثينيات من القرن الماضي، ولو لم تكن تنتمي الى عائلة ارستقراطية تنتمي سياسياً الى وطنها وثقافياً الى خارجه -باعتراف فدوى نفسها- .

     كان يمكن لهذه الغلطة ان تُسوّى لو لم تكن الطبقة التي تنتمي الى نفسها منقسمة على ذاتها، تعاني خللاً في توجهاتها وتحديد مرجعياتها، وتعلق فدوى على تلك الغلطة بقولها إنها لو عوملت بطريقة لينة آنذاك لما خرجت منها الشاعرة التي حطمت القمقم .  ولكن ذلك لم يكن، فقد قُمعت الصبية الصغيرة، وأُخرجت من المدرسة، وفُرضت عليها الخدمة في المنزل الشبيه بالقلعة، وقُطعت علاقاتها بكل الخارج الذي كان يضج بأحداث جسام .  وكان يمكن لهذه الصبية العليلة "الصفراء" أن تظل حبيسة الجدران وأن لا يسمع بها احد حتى تموت، ولكن الصبية الصغيرة تمترست خلف الرفض السلبي و"الكراهية" الصامتة لما يجري والصمت المطبق ايماناً منها بعالمها الداخلي الفني، كانت تشعر بشكل ما انها "مختلفة" .  يعجبها طنين النحل حول سدر الكنافة، وألوان زهر النارنج في باحة الدار، يخيفها الموت ويستوقفها، تكتشف الفروق في المعاملة بين البنات والاولاد، وتفتقد الحنان واللمسة اللطيفة، كانت تعتقد في قرارة نفسها أنها حقاً تستحق حياة اخرى، وتؤمن ايماناً مبهماً، ولكنه عميق وراسخ بأن حياتها تبحث عن محور تدور حوله، وفي قراءتنا لسير ذاتية لمبدعين آخرين نرى مثل هذا الايمان المبهم المبكر الذي يدعوهم الى تغيير وجهة حياتهم او اكتشاف مواهبهم والاصرار عليها .

     تقول فدوى إنها اخذت تقوم برحلات وعي داخلية وذلك بالنظر الى ورقة شجرة ما والتركيز عليها بحيث تخرج من مكانها وزمانها، ثم تعود الى واقعها عندما تُنادى لشأن ما، ان مثل هذه التدريبات الروحية ومحاولات كسر الشروط وقيود البيئة كانت الخميرة الاولى الابداعية لابتدار الشعر واجتراحه، وهو دليل حقيقي وحيّ على أن الموهبة الكبيرة تجد دائماً متنفساً لها .

     وكان رد فعل فدوى مختلفاً، أيضاً، على محاولات القمع والتشويه والتدمير، لم تصرخ ولم تبك ولم تدافع ولم تبرر ، وانما ردّت على ذلك بالصمت المطبق والتجاهل التام لمن حولها .  وبالإضافة الى هذا، كتاب نحوٍ أو أدب تقرأ فيه كلما اتيحت لها الفرصة - وبهذا فإنها تقدّم لنا قصة نموذجية عن إصرار المبدعين على حماية أرواحهم من الانهيار، وتسييج دواخلهم من الهجوم الخارجي عليهم، وهي في هذا مثل كل اولئك العظام الذين قرأنا عنهم وكيف صانوا انفسهم من الدمار
والتشويه - .

     ان هذه الرغبة العميقة في حماية روحها من الالغاء والتشويه والاعدام والتقزيم والتهميش جعلها تتشبث بكل قوة بما يبرر لها كينونتها وسبب وجودها ومعنى حياتها، ووجدت كل ذلك في حفظ الشعر اولاً ثم قوله، وبقول الشعر، شعرت فدوى انها تستطيع كسر كل الاطواق المتراكمة حولها، ومن عجب أن فدوى ومن خلال سيرتها لم تصف لنا احتفالها بأول قصيدة أو بأول بيت قالته قدر وصفها للسعادة التي كانت تحققها قصيدتها، بمعنى أن فدوى لم تتحدث عما يصاحب القصيدة الأولى من انفعالات بقدر حديثها عن أثر قصيدتها عليها اجتماعياً، ومعنى هذا ان الشعر لدى فدوى كان ردها العنيف والاقوى على القمع المتعدد المستويات الذي واجهته في صدر شبابها .  وأكثر من هذا، فقد امتنعت فدوى عن كتابة الشعر الذي كان والدها يطالبها به وكأنها تريد معاقبته به، وكأن حال لسانها يقول: هذا ما كنت تحرمني منه .  أو هذا ما حرمتني منه!!

     الشعر منح فدوى شرعية اخرى أو قل شرعية أولى، شرعية للعيش والوجود ومن ثم تبرير لهذا العيش وهذا الوجود، والشعر ايضاً منحها توكيداً لذاتها واحتراماً لها، كان الشعر اكتشافها الذي عرفته منذ البداية بشكل عصي على الفهم، حتى اضاءت لها العلاقة الفريدة المميزة مع شقيقها الشاعر الكبير المبدع ابراهيم، هذا الكنز بين جنبيها .

     وبادئ ذي بدء يجب ان نسجل اننا لا نكاد نرى علاقة فريدة ومميزة مثل العلاقة التي كانت بين ابراهيم وفدوى، شاعراً وشاعرة، شقيقاً وشقيقة، هذه العلاقة التي تراوحت ما بين أخوية مُحبّة وشفوقة، وبين زمالة نديّة فيها احترام واعتراف، وهي علاقة مميزة في شرطها الزماني والمكاني، ومميزة في شرطها الانساني كذلك .

     شاعر كبير منشغل بقضايا كبيرة ويعيش في مدينة كبيرة تختلف كلياً عن مدينته، يكتب لشقيقته "الصفراء"، يصحح اخطاءها مرة، ويدلها على مواقع البديع مرة، يشجعها على الكتابة حيناً ويمدح ما تكتب حيناً آخر، باختصار انه يكتشف الشاعرة في اخته، ولا يكتفي بذلك، ولكنه يشجعها على الكتابة والنشر، رغم ما يعرف من قساوة الظروف وشدة القمع، وإذا كان هذا دليل على عظمة ابراهيم الشعرية والروحية، فإنه دليلٌ، ايضاً، على تصدع الطبقة واختلاف مرجعياتها، ففي اللحظة التي يطلب ابراهيم من فدوى أن تشتري اسطوانة "موريس شفالييه" من الاسواق، يطلب إليها بذات الوقت ان تقرأ القرآن الكريم، وواضح ان ابراهيم يعكس ثقافة الطبقة التي ينتمي إليها، يطرب للجديد ويستسيغه ولكنه لا يريد ان يتخلى عن "القديم" ايضاً، تماماً كالطبقة التي ينتمي اليها، تلك الطبقة التي كانت تواجه عوامل تفكك وتحول، تُوّجت بانفجار ثورة 1936 التي قادها الفلاحون الفلسطينيون، ولم تستطع البرجوازية الفلسطينية في ذلك الوقت إلا أن تنخرط في الثورة متخلية عن الطروحات السياسية التي تمسكت بها منذ بداية العشرينيات .

     ان العلاقة الفريدة والمميزة التي جمعت بين شقيقين شاعرين من بيت واحد، بهذا الشكل، منح الشعب الفلسطيني تجربتين روحيتين طرحتا ثمراً طيباً، وكما يقول المثل الفلسطيني ان "البطن بستان" فإن هذا المثل ينطبق على تلك التجربتين انطباقاً كاملاً، فابراهيم اكتشف المفارقة في الواقع ووقفت فدوى عند حدود الذات الوالهة المتألمة، الصابرة المتأملة، وعلى عكس شقيقها، فإنها لم تُصَبْ منه بعدوى السخرية او الفكاهة، وكأن العالم تخلى عما فيه من فكاهة . ولا عجب، فإبراهيم خرج الى الشارع، رأى وانغمس عميقاً في الهم العام، فيما بقيت فدوى حبيسة نفسها وجدرانها واطواقها وقيودها، ولم تحاور غير نفسها، ولم تلمس غير قيودها، ولم تعش غير آلامها .

     واذا تميز ابراهيم بحدة الشعور وحدة التعبير، فإن فدوى، أيضاً، تعترف انها ذات "أحاسيس مشتعلة"
ساعدتها ليس في كتابة الشعر فقط وإنما جندتها لكسر حواجز كثيرة.

     ويمكن اعتبار كلاً من حياة الشقيقين وشعرهما تعبيراً أو انعكاساً للتاريخ السياسي والاجتماعي للشعب الفلسطيني؛ ففي اللحظة التي نجد فيها ابراهيم انعكاساً لهوية قومية وليدة تتجسد على الارض بفعل الواقع السياسي السائد، كانت فدوى تعبيراً عن تلك القوى التي تتصارع داخل المجتمع الفلسطيني للتعبير عن نفسها بشكل مختلف .  بمعنى آخر، كان ابراهيم تعبيراً عن الخارج الشكلي أما فدوى فكانت تعبيراً عن الداخل الفعلي، وبما ان العلاقة لم تكن قوية ولا منسجمة بين الطموح السياسي بتأكيد هوية ملموسة وبين القوى الاجتماعية القادرة على تجسيد ذلك الطموح، كان الانهيار الكبير عام 1948، وفي هذا العام استطاعت عدة عصابات صهيونية مسلحة أن تهزم "جيوش كثيرة" ارسلتها انظمة فاسدة .  بالاضافة الى هزيمة شعبنا الذي لم تقم جهة ما بإعداده اعداداً كاملاً او ملائماً لمواجهة الخطر الذي كان تحت الانف مباشرة ولا يحتاج الى كبير ذكاء لمعرفته او تحديد مصدره .

     مات ابراهيم تعبيراً عن موت القدرة على تحقيق الطموح السياسي بدولة فلسطينية، فيما تواصلت فدوى تعبيراً عن قوى اجتماعية مجهضة تناضل من اجل التعبير عن نفسها، واخذ مواقعها الحقيقية في سياق بناء مجتمع افضل، ومن هذا المنطلق تبدو العلاقة بين الشقيقين رمزية الى ابعد حد، وحقيقية الى ابعد حد ايضاً.  ومع الانهيار الكبير عام 1948، انهارت ايضاً القوى السائدة وقوانينها واطواقها، وبدأت قوى اخرى بالظهور والتعبير عن نفسها بكل جلاء، وفدوى كانت جزءاً من هذا السياق، وجدت نفسها تحمل قضيتها الذاتية التي اندغمت فيها بذات الدرجة قضية عامة هي الخسران والشكوى والألم .. وكأنها والتاريخ كانا على موعد.

     حمل صوتها الشعري، معاناتها، ولم تكن تدري أنها تحمل بذلك صوت المحرومين والمقموعين مثلها .  وانجبل صوتها بالخسران والفقد والشكوى، وما علمت أنها بذلك تعبر عن شرائح واسعة ذبحهم الواقع وقيدتهم الظروف.

     وبخروجها من "القمقم الحريمي" كما دعته، فكأنما كان ذلك شرطاً تاريخياً لخروج الجميع من قمقم الكذب والدجل والتغييب والتهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهكذا، التقى صوت فدوى الشعري مع ظرفه التاريخي، فالتحما، وإذا بالصبية العليلة التي قمعت وحوصرت، شاعرة مشهورة يشار إليها بالبنان.

     ورغم ذلك، ظلت شاعرة متوجسة، تنتظر الكارثة وتبكي لمنظر جميل، ونفسٌ شفافة مثل هذه لا تحتمل الحياة، فعاشت دون وظيفة أو عمل رسمي ودون زوج يرهقها وترهقه، ودون مَنْ يصدع رأسها بميراث أو بمال، بقيت تعبث بين أشعارها وأزهارها، وكلاهما ينبتان بالخيال والقليل من الماء والهواء.

***

     أما تواضع شاعرتنا الكبيرة الجمّ والعفوي فهو أول ما يستوقفك منها، هو تواضع تشعره من طريقة كلامها وتقديمها لنفسها وحديثها عن شعرها أو عن معارفها وأصدقائها، وهو تواضع يكاد يشعرك بأنها غير موجودة رغم حضورها الساطع والطاغي.

     وإذا اقترن تواضعها بحنانها وعواطفها الجياشة، فعندئذٍ تفرض عليك ما تفرضه الأم على أبنائها، وهي أم روحية لنا جميعاً، فعلى أشعارها كبرنا وتفتحنا وتعلمنا أو حاولنا زراعة حدائقنا الخاصة بنا في الساحة الخلفية من البيت.

     تواضعها الشديد جعلها تقدمنا على نفسها في الأمسيات الشعرية في أماكن مختلفة، رغم أننا لا نطاولها قامة، ولا ننافسها على قمة تتربع عليها، وتواضعها الشديد دفعها لأن تكشف عن رسائل إبراهيم إليها، وتواضعها الشديد دفعها إلى البكاء عندما سمعت السيد الرئيس ياسر عرفات يقول أثناء خطابه الأول في نابلس عام 1994: "نابلس جبل النار، نابلس فدوى طوقان" .

حينئذٍ بكت وقالت: "الشهداء وأطفال الحجارة أولى بالذكر" .

     تواضعها الشديد منعها من الإفادة الشخصية من علاقتها مع أولي الأمر والساسة وغيرهم، رغم سَعْيهم إليها من مختلف البلاد العربية، وعندما سألها الرئيس أبو عمار عن مطلبها، وكنتُ حاضراً، قالت: "ديروا بالكم على الأيتام والأطفال والمعتقلين" .

     ولأنها متواضعة، هذا التواضع الصادر عن نفسٍ اكتوت بالموت والحسرة، فهي ذات عاطفة مسرفة في التعبير عن نفسها، فهي تحب الأطفال حباً لا يكاد يوصف، تلعب معهم وتدللهم وتتلطف بهم تلطفاً فائقاً، وتكاد خلال ذلك تنسى كل شيء ما عداهم.

     هذه العاطفة المشبوبة، دفعت بها يوم نالت إحدى الجوائز الكبيرة خلال الانتفاضة، إلى دفع مبالغ مالية إلى عائلات الكتاب المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولحرقتها وحبها للأطفال، فإن ما تكرهه في هذه الدنيا هو الحرب التي تيَتّم الأطفال وتتركهم بلا معيل، ومن هنا جاءت كراهيتها الشديدة للاحتلال لأنه نقيض كل شيء، الطفولة والسلام والمحبة، وكل ما تؤمن به شاعرتنا الكبيرة. وهي رغم ميلها للمسائل الكبيرة والجدل العقلي إلا أنها تدرك ذلك أيضاً من خلال عاطفتها الجياشة والمشتعلة، ومن هم على هذه الشاكلة، يصعب عليهم الانضمام لحزب أو فكر محدد، إن ذوي العاطفة يحبون الأشخاص ولا ينقادون للأفكار بسهولة، ومن هنا، كان دفاعها عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومحبتها له، فقد رأت فيه رمزاً لأمل ومستقبل بالوحدة والنصر، ولم تر فيه برنامجاً سياسياً وفكرياً معيناً، رأت فيه قاسماً مشتركاً لكل عربي يحلم بالحرية والاستقلال والوحدة والنصر.

     وفدوى طوقان شاعرة دمعتها قريبة، تبكي حتى عندما تشاهد شجرة مثمرة، وكأن هذا الجمال لا يكتمل إلا بالبكاء، فهي تبكي وتحب أو تحب وتبكي، تستمتع وتبكي، وكأني بها امرأة يضيق قلبها على كبره بمشاعرها وشعرها، فلا تجد إلا البكاء ليكمل أو يعطر أو يبلل كل شيء.

     وإن امرأة مشغولة بكل هذا، لن تجد وقتاً للنميمة أو المشاعر الصغيرة التي تقتل فينا أحاسيسَنا العظيمة، ولهذا لم أسمعها يوماً تغتاب أحداً أو تصرِّح بكراهيتها لأحد ولم لا فقد طلبت الحب منذ يومها الأول، وفي اللحظة التي استطاعت أن تمنحه للآخرين لم تتوقف عن ذلك أبداً.

المتوكل طه

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت