الصورة الفوتوغرافية مُلتقطة عام 1940، اطفال فلسطينيين من ابناء مدينة حيفا، في حي وادي الصليب، هذا الحي الذي طالما سمعنا منه في طفولتنا من والدي المرحوم الحج أبو العبد، ومازلنا نسمع عنه وعن تفاصيل مدينة حيفا من والدتي أطال الله في عمرها.
والدي الحج (أبو العبد) رحمه الله، وقد أتقَنَ الصبر ولم تكسره الحياة، توفي وهو يحلم بالعودة الى مرتع ولادته، وطفولته، وفتوته، وشبابه، الى فلسطين، والى حارة الناصرة في حيفا حيث رأت عيناه النور، ووالدتي التي ولدت في حارة الكنائس ...
رحل والدي عن دنيا الحياة، وهو يحلم بالعودة الى حيفا الميناء، حيفا الفينري، حيفا ساحة الجرينة، والحليصة، ساحة الخمرة، وحيفا شارع الناصرة، حي الألمانية، ودرج الأنبياء، وشارع الملوك، وشوارع الصنوبر والمتنبي والحريري وابن المقفع وابن سينا ويافا، وشارع ستانتون، ووادي النسناس، ومسجد الإستقلال، وقهوة العجمي أسفل بناء العجمي، وقهوة الراديو في الطابق الأرضي من بناء شبيب في شارع الملوك بحيفا، مقهى المتروبول، والحمام الصغير وسط سوق الشوام لأصحابه عائلة كزبر وعائلة رنّو، وحمام الباشا ... ومدرسة السباعي، والمدرسة الإسلامية، وسوق الشوام، والسوق الأبيض، ومصنع الثلج في محطة الكرمل، والمقابر والنوادي والمرافق الحكومية والجمرك والأديرة والأراضي، مثل أرض البلان، أرض الرمل، الزحاليق، والأودية، كوادي السعادة ورُشميا والتينة والسياح، ووادي الصليب، والمحطة، والكنائس، ووادي الجمال، والحارة الشرقية، وكذلك الشواطئ، مثل شاطئ أبو نصور والعزيزية وغيرها من الأماكن. وسينما الأمين، ومنتزه "بستان الانشراح" حيث غنّت فيه ام كلثوم (وحازت على لقبها "كوكب الشرق" انطلاقاً من فلسطين)، وعرض يوسف وهبي وفرقته ابداعهم في التمثيل....
في هذا الحي، في الصورة الفوتوغرافية المرافقة، حي (وادي الصليب) ابصرت خالتييَّ (أم ماهر وام سمير) وخالي عبد، نور الحياة، كذلك شقيقتي الكبرى (أم ايمن)، وشقيقي الأكبر عبد الرحمن (الحج أبو السعيد)، وولد خالي المرحوم (ديب) في حارة البرج جانب هدار الكرمل. بينما تفتح عيناي شقيقي محمد على نور الشمس في بلدة (عنبتا) أثناء خروجنا عائلتنا القسري من حيفا. عائلة والدتي بقيت حتى الآن على أرض الوطن ومدينة حيفا، لكن تداعيات النكبة في حينها، والمآلات التي لاحقت من بقي من ابناء شعبنا في الداخل المحتل عام 1948، دفعت بالجزء الأكبر ممن تبقى في المدينة (ومنهم جدي وجدتي وكل عائلة والدتي) للإنتقال الى حي وادي النسناس. لكن والدي الذي غادر الوطن ووصل الى سوريا لفترة قصيرة على أمل العودة السريعة لفلسطين، بقيت كل اقاربه وعائلته الكبرى في منطقة طولكرم (شويكة + عتيل ...) وغيرها من قرى وبلدات الضفة الغربية في لواء نابلس (عزون + بيت سوريك + بدو...). وعموم فلسطين الى القطاع الصامد.
أنظروا معي جيداً، الى هذا الحي، حي وادي الصليب، الى الصورة الفوتوغرافية المرفقة، وكأنها تتحدث الينا، أنظروا الى مدرج النزول، الى اطفال فلسطين من الحيفاويين عام 1940، وكم يشبهون أحفادهم من أطفال مخيم اليرموك، في السحنة، والـــ (سيستم)، والحركة المتوقعة من خلال دفق الصورة، وطريقة اللهو واللعب، وكأني أَخالُ اسم عائلة كلِ واحدٍ منهم بالقياس والمقارنة مع أحفاد أبناء حيفا بين لاجئي فلسطين في سوريا من مخيم النيرب الى مخيم اليرموك الى لبنان.
الصورة الحية، غير المزورة ولا المصطنعة، تنطق بالتاريخ والحقيقة الكاملة، ومجرم من يقتل أو يحاول قتل التاريخ. فالتاريخ لايموت، ولايطويه النسيان، مادام هناك شعبٌ، يمتلك عمقه الوطني والقومي، شعبٌ حي مازال ينبض الدم الأحمر القاني في عروقه، ويواصل مشواره الكفاحي جيلاً بعد جيل، حتى وإن نائت به الظروف في هذا الزمن الأغبر.
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت