الإعاشة، الكرت الأزرق أو كرت التموين، الذي أصبح الآن ومنذ عدة سنوات كرتاً ابيض، كان ومازال يحتَلُ مكاناً مُميزاً جداً في سيرة النكبة واللجوء والتعتير. فهو شهادة ووثيقة اللاجىء في الهيئة الدولية الأولى في العالم مُمثلة بالأمم المتحدة، والشاهد التاريخي (وكالة الأونروا) التي تعتبر أكبر وكالة من وكالات ومؤسسات هيئة الأمم المتحدة منذ تأسيسها، وطريقه لإثبات حالة اللجوء والحصول على مساعدات وكالة الأونروا بجوانبها المختلفة وخصوصاً منها التموينية والصحية ودعم الإغاثة الإجتماعية. فهو بمثابة الوثيقة الدامغة لدراما اللجوء والنكبة، وبطاقة العائلة بالمعنى التوثيقي في السجل المدني، والحافظ لسجلات فلسطينيي النكبة واللجوء وأحفادهم، والذين يُشكّلون نحو (65%) من أبناء فلسطيني في الداخل وفي دياسبورا المنافي والشتات.
كرت التموين أو الكرت الأزرق أو الأبيض حالياً، كان طريقنا إلى مراكز الإعاشة لإستلام الحصص التموينية من طحين كندي أبيض أو مايوازيه، ومعلبات ورز وسكر وعدس، وزيت وسمن ... ونعومة (وهي مادة مُستخرجة من الطحين والسميد)، وقد بقيت تلك الإعاشات تتدفق حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي إلى حين تم إقتصارها على حالات العُسر الشديد. بل وكانت تزيد، خاصة منها الطحين الأبيض .... والمسألة هنا ليست مساعدة إنسانية، بل تعبير عن التزام المجتمع الدولي بالقضية الفلسطينية الى حين انجاز الحل العادل والحقيقي بعودة كل لاجىء فلسطيني الى أرض وطنه التاريخي.
مركز إعاشة اليرموك كان في البداية في الأليانس (حي الأمين) ثم أنتقل لمدخل اليرموك، وبعدها إنتقل بشكل نهائي عام 1966 إلى مكانه المعروف باليرموك حتى الآن بالقرب من مسجد فلسطين في المنطقة التي باتت تسمى بمنطقة الإعاشة، والتي نالها الحظ الوافر من التدمير في المحنة السورية، بما في ذلك تدمير مركز توزيع الإعاشة.
كان لعملية إستلام الإعاشة كل شهر فولكلورها الخاص، من أولها لأخرها، مع صيحة المنادي المعروفة لصاحب بطاقة إعاشة لإستلام الحصص التموينية لعائلته "فلان ابن فلان خمسة وطفل" على سبيل المثال، لتحديد كميات الحصة من المواد الغذائية، مع ذكر عدد الأطفال لتحديد عدد أكياس الحليب الجاف في الحصة، ومن ثم إلى إستكمال نقلها للبيت.
كما كانت مناسبة لفتيان المخيم وحتى أطفاله، يتراكضون لإستلامها مع ذويهم، حيث تحميل تلك المأونة على العربات التي تجرها الأحصنة في حينها أو على الحمير، وهي تميل وعلى متنها أكداس التموين ومن حواليها عشرات الأطفال مشياً أو ركوباً على جنبات تلك الطنابر في حارات المخيم وأزقته
.
هناك أسماء مميزة أخذت شهرتها في مخيم اليرموك، بجلب الإعاشات للناس أبو نايف دخل الله من الجاعونة، وأبو صطيف من شارع صفد، رحمهما الله ...
في سيرة الإعاشة، لم تذخر امهاتنا وسيلة إلا وعملت من خلالها على إستثمار وإستخدام كل مايتم توزيعه مع الإعاشات، بما في ذلك أكياس الطحين الفارغة. حيث كانت تجري عملية إعادة تدويرها وإستخدامها حتى كملابس داخلية للصغار.... وكل من تلك الملابس عليها طبعة كيس طحين (US) أو كندا إلخ.. إنه شعب المستحيلات ... شعب النكبات الذي واصل الحياة، وواصل الكد والعمل، يحفر طريقه بالصخر الصلد والقاسي، وبأظافره... لكنه دفع في النهاية، وفي غالبية مواقع شتاته العربية الأثمان الباهظة التي تنوء تحتها الجبال ...
وفي سيرة الإعاشة، دَخَلَ مُصطلح (الخبز الفلسطيني) على قاموس الناس في عموم دمشق الشام، فُكلُ خبزٍ أُنتج على يد أمهاتنا من خلال طحين الأونروا بات خُبزاً مُميزاً ومحبوباً عند أهالي دمشق الشام، حيث قامت العديد من الأفران ومازالت حتى الآن بإنتاجِ خبزاً مشابه له تحت عنوان خبز فلسطيني.
أجيالُنا والأجيال التي سبقت بقليل عاصرت توزيع الإعاشات من قبل الأونروا وهي مشدودة بقوة للحلم الوطني الفلسطيني وحق العودة، وأجيال أزمة اليرموك الأخيرة تُعاصر الآن توزيع معونات وسلل غذائية فيما يريد من تأمر على المخيم إنهاء المخيم ووأد حق العودة.
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت