لم يَحظى مكان جغرافي تَجَمَّعَ فيه فلسطينيي الشتات بحضور حزبي وتنظيمي وفصائلي كما حظي مخيم اليرموك. ففيه كانت كل الوان التيارات والمشارب، والقوى، والفصائل، والأحزاب، والمجموعات، والمنابر، والحلقات، ومن كل الأجناس السياسية، ومن عموم التيارات الفكرية والأيديولوجية من اقصاها لأقصاها، منذ قيامه مُنتصف العام 1954. وقد ضم بين ثناياه الأعداد الكبيرة من الأشقاء السوريين من الناشطين السياسيين والمفكرين والمثقفين، الذين كانوا على تفاعل تام مع الحدث الفلسطيني.
تاريخياً، ومن الجانب التوثيقي الدراسي البحثي الخالص، كان لحركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الإشتراكي، والحركة الناصرية، وبعض التيارات الإسلامية المحسوبة على عددٍ من القوى والأحزاب، الوجود الأهم في مخيم اليرموك وبين فلسطينيي سوريا والشتات بشكلٍ عام، قبل إنبثاق القوى والفصائل بلونها الفلسطيني الخالص، حيث لم يكن في حينها من خيارات أمام الشعب العربي الفلسطيني، سوى الإلتحام العضوي مع محيطه العربي في صراع البقاء من أجل مقاومة عملية تذويب الهوية الوطنية، والطمس القومي بعد نكبة العام 1948، وفي مواصلة النضال التحرري لإستعادة حقوقه الوطنية ووقف دولاب التوسع الصهيوني. لكن التطورات اللاحقة، والدروس المستخلصة، دفعت بكفاح الشعب الفلسطيني للإنتقال من الدور القومي العام إلى البحث عن الدور الخاص، وصولاً لإحلال منطق التوازن بين (الوطني/القومي)، وهو ما أشَّرَت له، وأشارت إليه سلسلة عمليات النهوض وانطلاق العمل المباشر مع تفتح بذور المقاومة على شكل "فصائل، تنظيمات، أحزاب، كتائب، سرايا …" من عموم دول الطوق المحيطة بفلسطين (سوريا، لبنان، الأردن) ومن القطاع وبعض مناطق الضفة الغربية.
وعليه، كانت تنمو كل يوم بذور الخصوصية الوطنية الفلسطينية، عبر الطروحات النظرية من قبل افراد وهيئات ومؤسسات وطنية فلسطينية آخذت بالتبلور، وعبر بعض النوى الفدائية، كان منها في سوريا تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية (التنظيم الأم للقيادة العامة) ومجموعة شباب الثأر (التنظيم الفدائي الأم للجبهة الشعبية) وفي القطاع نوى لحركة فتح بدءاً من العام 1954، وصولاً لإنطلاقاتها الكبرى فجر الأول من كانون الثاني/يناير1965 الخ..، كنتيجة منطقية لعدة عوامل، وقد بدأت بالإنغراس منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، وأنتَشَت في تربة مخيم اليرموك وعموم منافي الشتات الفلسطيني مع بدايات الستينيات، حيث إنطلقت الثورة الفلسطينية المُعاصرة، بمختلف تكويناتها الفصائلية. فكان التطور الفلسطيني، بروزاً جديداً للدور الذاتي الفلسطيني في إطار الدور القومي العربي العام، تأتى عنه ولادة الكثير من القوى الفلسطينية من تلاوين فكرية متنوعة. وصولاً نحو تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 28/5/1964.
ونُشير هنا بأن أول هيئة سياسية فلسطينية خالصة (باعتبار أن نواة حركة القوميين العرب نشأت عام 1949 بطابع قومي عربي) معنية بفلسطينيي سوريا، كانت قد نشأت عام 1951، كهيئة سياسية اجتماعية، وقد حَمَلت إسم اللجنة المركزية للاجئين الفلسطينيين في سوريا، ولعبت دوراً هاماً سنوات النكبة الأولى بين أوساط اللاجئين الفلسطينيين. وقد أسستها شخصيات فلسطينية في سوريا، وأتخذت لها مجموعة أهداف تتعلق برعاية مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وإعداده للكفاح من أجل العودة. وأقامت اللجنة مكتباً لها في منطقة السنجقدار وسط دمشق، إلى أن جرى حلها بعد أن جرى دمج عدد من الفلسطينيين منها في الوحدة الفدائية الفلسطينية في الجيش العربي السوري (الكتيبة 68). وقد رأس اللجنة أسعد قدورة (صفد)، ومن أعضائها عاطف موعد (صفورية قضاء الناصرة)، زكي بك التميمي (صفد وأصله من الخليل)، حيدر عبد الرحيم (عين كارم قضاء القدس)، صبحي بك الخضراء (صفد)، سعيد الجدع (الطيرة قضاء حيفا)، أبو يوسف الشوباصي (يافا)، عبد الله القاضي (صفد)، علي رضا النحوي (صفد)، الشيخ عبد الرحمن مراد (حيفا) وكان القاضي الشرعي الأول في مدينة حيفا قبل سقوطها عام 1948، سليم محمد بدوان (أبو جعفر/حيفا) ...ومعهم أخرين فاتني تَذكُّرهم.
وبالموازاة مع تلك الهيئة، تأسست مجموعة طلبة فلسطين بجامعة دمشق عام 1952 بقيادة الطالب في كلية الحقوق في الجامعة محمود عباس (أبو مازن) وضمت بعض الشخصيات التي لعبت أدواراً هامة في العمل الفلسطيني : نامق أبو عابد، عبد الله الدنان، عمر الحوراني، يحيى البنا، ظافر الخضراء، ومحمود المغربي، عادل عبد الكريم، وتُعد المجموعة المُشار إليها أول تنظيم فلسطيني خالص، نشأ بعد نكبة 1948. حيث لعبت تلك الهيئة دوراً هاماً في توليد الحراكات الوطنية داخل التجمع الفلسطيني اللاجىء فوق الأرض السورية، وساهم بعض قادتها في تأسيس حركة فتح، حيث انضمت غالبية أعضائها الى المجموعة المؤسسة لحركة فتح قبل وبعد الإعلان عن انطلاق قوات العاصفة.
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت