فلسفة مبسطة: فكر الشعب المميز جلب الكوارث لأصحابه وللإنسانية

بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة

 

*ضحايا التطهير العرقي للنازية، لم يترددوا بتنفيذ سياسة تطهير عرقية ضد الشعب الفلسطيني*

 

عرف عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من القرن التاسع عشر، رفضه لثوابت الايمان المسيحي ولكل الأخلاق السائدة. لن أدخل ولا يعنيني جوهر الصراع بين نيتشه والكنيسة المسيحية. ادعى نيتشه بفلسفته انه يرى ظاهرة مهمة وبالغة الخطورة على العقل البشري، تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم، وقد أطلق نيتشه على هذه الظاهرة تعبير " أخلاق القطيع ".. لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره (وهي ظاهرة تتكرر في مجالات عديدة أهمها المجال السياسي، وفي الخضوع غير المبرر لأنظمة فاسدة او لقيادات فاسدة)، وذهب نيتشه نحو ايجاد أطيقا جديدة بعيدة عن الأطيقا الكنسية (الدينية)، سماها " الرغبة بالعظمة". وان الوحيد غير العادي الموجود خارج "أخلاق القطيع" هو النجم الأعلى، أي السوبرمان، شخصا مميزا، أو مجموعة مميزة، وكم نحن شهود لمثل هذه الظواهر في عالمنا اليوم. حسب نيتشه يظهر "السوبرمان" كل عدة عقود أو قرن، وهو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا) يحق له حسب عقله، ان يعبر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوقه على القطيع. طبعا هذا لا ينفي انه هو شخصيا قائد القطيع. بالطبع نيتشه كان أشبه ببطل افلام الكاو بوي الذي ينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهه جيش من عشرات المسلحين.

كان نيتشه يؤكّد في فلسفته تقلّص التأثير للقيم التقليديّة، لأن "اللّه قد مات" (الجنائني مات) ويجب التّأسيس لقيم جديدة تعبّر عن القوّة والشّجاعة والنبل وتعبّر عن إرادة الإنسان الأعلى أو بالأحرى عن إرادة القوّة. جرى الربط بين فلسفة نيتشه والأيديولوجيا النازية، وان النازية اقتبست فلسفتها من النيتشية، عن الإنسان الأعلى والقوة والشجاعة والنبل، البعض يدعي ان هذه الفلسفة أنجبت شخصيّة هتلر. ليس بالصدفة ان نيتشة وفلسفته كان المفضل لدى الزعيم النازي هتلر، الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة انسانية رهيبة من أجل ابراز عظمة الفوهرر (الزعيم النازي)، او رغبة الفوهرر بالعظمة، بكونه السوبرمان لأرقى عنصر اثني ظهر فوق الأرض. وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتى اليوم، حتى من ضحايا السوبرمان النازي، الذين لم يترددوا بتنفيذ سياسة تطهير عرقية. وهذا ما يفضحه أيضا المؤرخ اليهودي الإنساني ايلان بابه بكتابه الهام "التطهير العرقي في فلسطين". وفي بروتوكولات حزب مباي، الحزب المؤسس لدولة إسرائيل، اعترض لافون (وزير دفاع آنذاك) على مشروع تهجير الفلسطينيين الباقين في وطنهم ولم يهربوا من المجازر، بقوله: "النازية هي نازية، حتى لو نفذت بأيدي يهودية". وكان بن غوريون قد قتال عن العرب الباقين في وطنهم فلسطين 48:"ننظر إليهم كما ننظر الى الحمير"!

اتهم نيتشة بكل شيء سيء في المانيا الجديدة، القصد المانيا الهتلرية، من بروز العسكرية المجنونة وحتى الملفوف المكبوس بشكل لا يرضي ذوق الطعام عند الألمان.

بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية، ومصير شعوب اوروبا وآسيا وشمال افريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان على سياسة العالم حتى اليوم بنسختها الأمريكية، التي أبقت قصدا دول الشرق ما دون الرقي ليبقى "السوبرمان الدوري" (إنكلترا وفرنسا وأمريكا) مسيطرا وعظيما، أحضروا لنا المتفوق الدوري ونحن نيام وما زلنا، جاء هذا المتفوق على شاكلة الحركة الصهيونية ليبقى العرب في إطار القطيع. ولكنه ليس موضوعنا الآن !!

المستهجن ان بعضنا ما زال يؤمن بالنيتشية ويتصرف حسب مفاهيمها، دون ان يفهمها ودون أن يعرفها ودون ان يفهم ان فلسفة الوهم الاستعلائية قادت شعوبا عديدة الى الانحطاط، وابقت شعوبا في قاع الرقي بأوهامها القاتلة انها تملك أرقى حضارة ... وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنهم انهم يتمتعون بالتميز البشري عن بقية أبناء شعبهم وتحركهم مشاعر الاستعلاء على القطيع.

الموضوع ليس سياسيا فقط وليس اجتماعيا فقط. هذه الظاهرة تنتشر على الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي، وسيادة الفكر الغيبي، فكر الخرافات والشعوذة، فكر تغييب العقل وتغييب المنطق، فكر التهريج بلا أي حس انساني أو القدرة على فهم سليم للواقع والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.

هناك حقا من يملك قدرات فكرية قد تتطور لو تخلص من الحلقات المغلقة التي تقيد فكره، لكن مجرد دخول النيتشية الى فكرهم وسيطرتها على عقولهم وتصرفاتهم، بوعي او بدونه للمضمون الحقيقي للنيتشية، أحالتهم الى نرجسيين مغرورين، مضرتهم أكثر من فائدتهم وصمتهم وعزلهم مكسبا كبيرا لمجتمعاتهم.

من المؤسف أيضا ان الكثير من المثقفين في أيامنا نيتشيين في عقليتهم وتصرفاتهم، دون فهمهم للنيتشية على حقيقتها، وينسون أو يتناسون انهم عاشوا جل عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرر ذهنيتهم من روح القطيع. ان النيتشية لا تظهر بقرار شخصي وحسب توقيت، بعد ان طار أكثر من نصف العمر داخل القطيع. انما هي مسار لمن يفتقد القدرة على التفكير ويدور في حلقة مفرغة من المقولات غير القابلة للنقاش، ومن العقائد التي توهمه انه سوبرمان في كل نشاطه وعقائده وكتاباته.

يعتبر فريدريك نيتشة من الفلاسفة غير العقلانيين، دعا في وقته الى القضاء على القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللاأخلاقية. كان يرى بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم "النيهيلية" ( العدمية )، التي تعني حسب نيتشه ان القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيره الانحطاط ، اتهم بذلك الأخلاق الدينية والنظريات الانسانوية على حد سواء ، بما في ذلك النظريات الدمقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوروبي ، وطور مذهب " ارادة السلطة " حيث يسيطر الأفراد " الأقوياء " القادرين على خلع الحواجز الأخلاقية ، هكذا توصل الى فكرة الإنسان الأعلى ( السوبرمان ) نافيا الأخلاق تماما ، وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي على شعوبهم في الحساب الأخير .

ملاحظة هامة: من المهم الإشارة الى ان معظم الباحثين بفلسفة نيتشه يرفضون الربط بينه وبين الفكر النازي، ويعتمدون على قوله " أرتجف عندما أفكّر في كل هؤلاء الأشخاص غير الجاهزين بعدُ لتلقّي أفكاري، ومع ذلك سوف يستغلّونها لسلطتهم" وانتقد المعادة للسامية. ويؤكدون ان نيتشه كان يكتب لإنسان المستقبل. رغم ذلك جرى الربط بين فلسفة نيتشه والأيديولوجيا النازية، وان النازية اقتبست فلسفتها من النيتشية، عن الإنسان الأعلى والقوة والشجاعة والنبل، وان فلسفتة أنجبت شخصيّة هتلر، النازية اعتمدت على القوة والاستعلاء القومي، وهي ظاهرة تتكرر في وقتنا بأشكال مختلفة.

نبيل عودة

[email protected]

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت