الضابط الاسرائيلي المكلف بإعادة فرض حظر التجول، بعد انتهاء الساعات القليلة التي سمح بها الاحتلال للمواطنين بالتزود باحتياجاتهم خلال الانتفاضة الأولى بعد عدة ايام متصلة من الحظر، وصف مهمته تلك بأنها اشبه ما تكون بمشهد من معركة كربلاء، حيث اعتاد المواطنون قذف قوات الاحتلال بما تبقى لديهم من مخلفات الخضروات وهي تحاول إعادة فرض حظر التجول من جديد، لم تكن المواجهة تلك هي مشكلة قوات الاحتلال مع نظام حظر التجول بل أن العديد من قياداتهم حذرت من نتائجه المتعلقة بزيادة الانجاب لدى الشعب الفلسطيني، وما يسببه ذلك من تفاقم الصداع المزمن لديهم الناجم عن التغيير الديمغرافي، لجأت قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى لما يقرب من 1600 حالة حظر تجول منها على الأقل مائة حالة استمر الحظر في كل منها لمدة تزيد عن خمسة ايام،
وبالتالي بات لدي الشعب الفلسطيني مناعة مكتسبة وقدرة على التكيف مع حظر التجول. لم يقتصر الأمر على الانتفاضة الأولى بل جاءت الحروب المتكررة على غزة لتعزز من قدرتنا المناعية للسلالات المختلفة لحظر التجول، سيما وأن حظر التجول هو الآخر يعدل من جيناته طبقاً للظروف التي ينشأ فيها، لعل أقلهم حدة على بنيتنا النفسية هو ذلك الذي نذهب اليه بمحض ارادتنا دون أن يملي أحداً علينا شروطه، وأكثرهم وطأة ذلك الذي يحتم علينا اللجوء اليه أثناء عدوان على غزة دون أن يتكفل بتوفير شيئ من الأمن لنا، ولسنا من الملتحقين حديثاً بمدرسة "خليك بالبيت"، فقد سبق لنا أن رفعنا الشعار في وجه الموظفين بعد الانقسام وأجبرناهم على الالتزام به،
وبالتالي كنا قد اهتدينا للعنوان قبل أن يهتدي اليه الاعلامي زاهي وهبة ليجعل منه عنواناً لبرنامجه الممتع. لم يكن ضمن جيناتنا الوراثية ما يحمل صفة حب البقاء في المنزل، بل لا نبالغ إذا ما قلنا بأننا أكثر الشعوب انعتاقاً من هذا الحب لأسباب موضوعية، تتعلق أولها بارتباطنا الفطري بالعمل يضاف إلى ذلك حالة الترابط المجتمعي بما تحتمه علينا من المشاركة الواسعة في الأفراح والأتراح وكل شاردة وواردة من المناسبات الاجتماعية، والأهم من ذلك أننا نجد في الخروج منها فرصة للتحرر من تكدس الأنفس فيها، ورغم ذلك بتنا نتمتع اليوم بقدرة فائقة على التكيف سريعاً وقتما اقتضت الضرورة على ملازمة البيت وخوض غمار التجربة لأعمال كنا نعتقد أنها حكراً على المرأة.
الحقيقة أن تجربتنا العميقة مع الزم بيتك تدفعنا لأن نشفق على الشعوب التي عاشت الحرية طولاً وعرضاً، واضطرت اليوم هرباً من ذلك المخلوق الغير مرئي لأن تلتزم بيوتها وسط حالة من التذمر، وتحذيرات أطلقتها مراكز متخصصة ودراسات بحثية حول تأثير "خليك بالبيت" على الجانب النفسي للأطفال من جهة وآثاره السلبية على العلاقة بين أفراد الأسرة من جهة ثانية، وفي الوقت ذاته نشفق أكثر على الرؤساء من توسلاتهم لشعوبهم بأن يبقوا في منازلهم ويحرصوا على غسل أيديهم، وما أنفقته حكوماتهم في توعية مواطنيهم للإلتزام بالتباعد فيما بينهم، نشفق على الشعوب التي لم يكن السفر بالنسبة اليهم في يوم من الأيام أحجية عصية على الحل، ولا يدفعنا الحصار المفروض علينا منذ سنوات لأن نفرح بأن ما أصابنا خلالها يصيبهم اليوم، بل نتمنى أن يعودوا إلى حياتهم الإعتيادية اليوم قبل الغد. بقدر ما نتطلع أن ينصرف عنا هذا الوباء بقدر ما نتطلع أن يرحل عنكم لتستعيدوا عافيتكم وتنعموا بحريتكم، وأن تكون التجربة قد كشفت لكم حجم معاناتنا الممدة لسنوات طويلة بين حظر التجول والحصار، والمعاناة الأكثر ايلاماً للآلاف من أبناء شعبنا القابعين في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة بمعزل عن العالم وفي عزلهم الانفرادي، لعل التجربة تدفعكم لإنصاف القليل من العدالة التي ننشدها.
د. أسامه الفرا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت