سبعة عشر مليون مشاهدة مع باء ترفع الرجال رفعا

بقلم: سري سمور

سري سمور

ربما صار من المألوف أن يحظى شيء غير مفيد أو يطفح بتفاهة،، أو يخالف ما أقره الشارع، أو تأباه التقاليد والعُرف، بكثير من المتابعين والمتفاعلين؛ فهذه مسألة ليست جديدة، ولها أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية متنوعة.
ومن جهة أخرى فثمة ما هو جيّد ومفيد من أكثر من ناحية، أيضا له كثير من المتابعين والمتفاعلين والمتأثرين...أي ليست قاعدة مطلقة أن توجه غالبية الناس هو نحو ما لا يفيدهم في دينهم أو دنياهم؛ مع ملاحظة أن ما هو سطحي، أو يقوم على الإثارة والغرائب المزعومة أو الأغاليط له جمهور واسع وكبير ويكاد يكون عامل(وحدة) وقاسم مشترك بين وحدات جغرافية واجتماعية!

العّداد المفزع
كنا فيما مضى نلحظ اهتمام الناس بما هو قائم على الإثارة والسطحية من خلال بعض المظاهر؛ مثل خلو الشوارع وقت عرض مسلسل معين أو مباراة كرة قدم، أو من خلال طغيان هذه الأشياء على حديث الناس، وصولا إلى حرص بعض الشباب والفتيان على تقليد بعض المطربين والممثلين والمصارعين ولاعبي كرة القدم وغير ذلك، فنأخذ فكرة عامة عن حالة تمثل الفكرة السابقة:التفاهة والسطحية والأشياء الأقل أهمية بالنسبة لنا، لها جمهور واسع يخترق كل فئات المجتمع خاصة الفئة الشابة التي تمثل طاقة المجتمع، وغالبيته عندنا.

ولكن الآن ربما يمكن قياس الأمور بالعدّاد الذي توفره تقنيات مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، والذي يكشف مثلا في المرئيات ومقاطع الفيديو عن عدد المشاهدين، فنلحظ أن رقم عدّاد المشاهدات لأشياء من فئة (لا يزيد علما ولا يرفع جهلا، ولا يرفّه عن النفس بما يتوافق مع ضوابطنا الدينية وموروثنا الثقافي) هو رقم كبير.

طبعا من الإجحاف وصف كل المشاهدين والمتابعين بأنهم من طابور السطحيين التافهين؛ فهناك من دافعه الفضول المحض، أو حتى انتبه لرقم المشاهدات المُفزع فقرر أن يزيد الرقم(واحدا) ويعرف ما الذي يدفع هذه (الجماهير الغفيرة) لمشاهدة المحتوى؛ ومن جهة أخرى هناك مهارة أحيانا تتعلق باختيار عناوين وأوصاف تدفع المرء ليستطلع، وقد ينسحب قبل أن يكمل المشاهدة إذا لم تكن كما توقع أو كما يحب ويشتهي أو لم تجذبه...هذا مفهوم بخصوص العدّاد المفزع.

خطأ لا يحتمل
دعونا الآن من هذا ولنأت إلى ما فكرته في العنوان والوصف وحتى المحتوى؛ فكرة سامية حقا؛ كيف وقد قامت على الوعظ المستند إلى خير الهدي، أي حديث النبي-صلى الله عليه وسلم- لقد رأيت الرقم (17 مليونا) ولكن ربما خانني بصري والعدد هو (مليون وسبعة بالعشرة 1.7 مليون) وهو أيضا رقم ليس بقليل، وتخيل أنه يضم فئات عمرية مختلفة من الذكور والإناث ومن شتى أنحاء المعمورة، وقد لفت نظري الوصف أو العنوان وهرعت لأطلع على المحتوى...ففزعت ولم أقبل الخطأ وتوقفت عن متابعة البقية.

فقد قرأ الرجل حديثا نبويا وأخطأ في ذات الكلمة مرتين على الأقل خطأ لم أحتمله؛ ذلك أن من يريد نشر مادة كهذه يفترض به أن يضبط قراءة الحديث جيدا، خاصة فيما هو واضح ولا يقبل التأويل، وخطؤه أيضا ثقيل على اللسان.

الباء لا تجر بل ترفع
لقد كرر الرجل (يؤتى برجالٌ) ولا أريد أن أكمل الحديث ولا أرشد لرابط المقطع، حتى لا أساهم في رفع الرقم في عداد مشاهداته ولو قليلا...يفترض أن طالب المرحلة الابتدائية يعرف أن (الباء) تجر ليس فقط الرجال، بل الجبال...ومع ذلك ذهبت لأقرأ الحديث من مصادر مختلفة فلعل في الأمر ما لم أعلم به، فوجدت الباء تصرّ على أن تجرّ أولئك الرجال...واكتشفت مفاجأة سآتي لها لاحقا!

ولم يتوقف بحثي، فذهبت إلى آخرين تناولوا ذات الحديث، وقد قرؤوه بطريقة صحيحة، والباء جرّت(رجال) طبعا، وكيف يلحن من أوتي جوامع الكلم عليه أفضل الصلاة والسلام، والأولى بمن ينقل عنه ضبط ما ينقله للناس قبل نشره، ولكن أولئك الذين لم يقعوا في هذا الخطأ، ولا غيره، وهدفوا من قراءة الحديث والاستشهاد به، نفس ما هدف صاحب المشاهدات المليونية، لم يحصلوا إلا على عدد قليل من المشاهدات والتفاعلات، مقارنة مع صاحب الباء التي لا تجرّ بل ترفع الرجال رفعا!

مسئولية الناشر والمتابع

نحن نتحدث عن حديث نبوي، ويتم نشر قراءته بطريقة خاطئة على كل الدنيا؛ وكان يفترض قبل النشر على الملأ التدقيق في هذه المسألة، ولو أنها زلة لسان لما تكررت في ذات المقطع.

أما المتابع فهو ممن توجه إلى ما فكرته نبيلة، وأراد أن يتعلم شيئا يفيده في دينه ودنياه، ولكن لم يختر الطريق الصواب؛ فلا يكفي أن تكون نواياك سليمة، ولا يكفي أن يكون العنوان براقا وفكرته عظيمة، كي تندفع دون التثبت من الدقة والنقل...ونحن إذ سخرنا من قصة لا نعلم مدى صحتها عن رجل قرأ كلمة (كموج) واستفسر عن معناها(ما هو الكموج؟!) في بيت من معلقة امرئ القيس(وليل كموج البحر...) فالأولى أن يتثبتوا (الناشرين والمتابعين)من ضبط الأحاديث النبوية.

وهو ليس كذلك!
 والحقيقة أنه رغم أن الباء التي رفعت الرجال رفعا حصلت على ملايين المشاهدات، وحصل غيرها عند الضبط وجرّ الباء للرجال على بضعة آلاف فقط، قد أخطأ الناشرون للمقاطع (الغنية بالمشاهدين والفقيرة) الخطأ الأهم والمفاجئ(أشرت لوجود مفاجأة)...ألا وهو أن الحديث ليس بهذا اللفظ أصلا، أي أن الخطأ مركب، وأربأ عمن يعلم الناس دينهم، وينشر دروسه وعظاته ألا يضبط ما ينقله، أعلم أن الحديث ليس كالقرآن الكريم، وأنه يجوز أن نقول لفظا مكان آخر دون تغيير المعنى ولا جناح على المرء، حسنا، ولكن ما دامت الوسائل متاحة لماذا نأخذ بهذه الرخصة، فأنت لست في موضع خطبة مرتجلة أو كلمة مستعجلة، بل أنت يفترض حضرت وجهزت النصوص التي ستقرؤها على الناس.

على كل أختم بنص الحديث الذي كان موضوع هذه المقالة وقد رواه ابن ماجة في سننه عن ثوبان عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا.

،،،،،

بقلم:سري سمّور

تم النشر الجمعة 1 رمضان  1441هـ ، 24/4/2020م

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت