بسم الله الرحمن الرحيم
في حين يحتفل العمال في كل أنحاء المعمورة بيوم العمال العالمي، تجسيداً لإنجازات ثورتهم وتضحياتهم ضد الظلم والاستبداد والاستعباد الذي مارسه رأس المال بتعظيم أرباحه على حسابهم، يظلُّ عمال فلسطين ينظرون لهذه المناسبة الأممية بمشاعرٍ من الحزن، مرتهنين بمرارة لقمة العيش التي بالكاد يحصلون على الفتات منها، في ظل ارتفاع مستوى الفقر ومعدلات البطالة والتي بلغت في فلسطين نسبة 25% من القادرين على العمل حتى نهاية عام 2019، منها 15 % ضفة 45% غزة بواقع 343,800 عاطل عن العمل منهم 215,100 شخص في قطاع غزة و128,700 شخص في الضفة، وما تبعها من تداعيات جائحة كورونا وإعلان حالة الطوارئ والحجر الصحي والمنزلي، وإغلاق العديد من المؤسسات والقطاعات التشغيلية، وما ترتب على ذلك من تداعيات وانعكاسات أثرت سلباً على أكثر من 560 ألف عامل وعاملة من الذين يعملون في سوق العمل المحلي ومعظمهم فقد مصدر رزقه من نصف شهر مارس حتى الآن.
كيف يستطيع عمال فلسطين أن يحتفلوا بالأول من أيار؟! ومازالت تقهرهم الظروف وتعصف بهم المتغيرات والأحداث التي تنال من الفئات الهشة والضعيفة، فالعمال الذين يعملون في سوق العمل المحلي برغم دورهم في العملية الإنتاجية وفي الحركة الاقتصادية، إلا أنهم لا يزالون الأكثر تضرراً والأقل استفادة في الظروف الطبيعية، في ظلِّ ضعف التشريعات وصعوبة تطبيق القوانين التي تنظم علاقات العمل، وغياب قوانين الحماية الاجتماعية والتأمينات من المخاطر، فبالكاد كان العامل يستطيع أن يوفر متطلبات وحاجات أسرته في الظروف الطبيعية بسبب تدنى الأجور في سوق العمل المحلي، فقد سجلت الإحصائيات حسب تقرير مركز الإحصاء الفلسطيني 2019، أن عدد العمال الذين يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجر (1,450 شيقل) حوالي 109,000 عامل منهم 24,300 في الضفة الغربية، (يمثلون حوالي 10% من إجمالي المستخدمين بأجر في القطاع الخاص في الضفة الغربية) وبمعدل أجر شهري 1,038 شيقلا، مقابل 84,400 مستخدم بأجر في قطاع غزة، (يمثلون حوالي 80% من إجمالي المستخدمين بأجر في القطاع الخاص في قطاع غزة) بمعدل أجر شهري لا يتجاوز 700 شيقل"، أجور -لا تكفي- لتوفير أدنى متطلبات العيش لأسرة صغيرة أو تغطية النفقات الطبيعية في ظل الغلاء لكل مناحي الحياة، أو تغطية مصاريف التعليم لأبناء العمال أو الرعاية الصحية لأسرهم...،
واقع العمال في فلسطين مؤلم ما بين عامل يعمل بدخل محدود أو عاطل عن العمل من الجنسين من الشباب والخريجين، رغم ما لديهم من طاقة وقدرة مذهلة على العمل، وسوق العمل لا يستوعب عمالة أو يستحدث فرص عمل جديدة، وهو في حالة تراجع في العديد من القطاعات الإنتاجية وانخفاض في ساعات العمل، هذا حال سوق العمل المحلي بالقطاع الخاص.
وهناك ابناؤنا العمال الذين يعملون في إسرائيل داخل الخط الأخضر والمستوطنات والذي يبلغ عددهم تقريباً 133,300 عامل وعاملة، في ظروف وشروط عمل فيها تمييز واضح ضد عمالنا لصالح العامل الإسرائيلي، وقد سجُل الكثير من الانتهاكات للقوانين والتشريعات في التعامل معهم وآخرها تداعيات جائحة كورونا حيث تعرض بعضهم لأبشع سلوك ضد الإنسانية، حيث قام جنود الاحتلال بإلقاء العمال الذين اشتبه بإصابتهم بفايروس كورونا على الحواجز بدون معالجتهم أو فحصهم ليتم إسعافهم فلسطينياً، ورغم ذلك استمر العامل بالعمل ليحافظ على فرصة عمله ولقمة العيش، في ظل التحديات والمخاطر من حولهم أو أثناء تنقلهم في سوق العمل الإسرائيلي وإمكانية نقل العدوى لهم ولأسرهم.
وحتى اللحظة لا يوجد خطة صحية واضحة لحماية العمال داخل الخط الأخضر، وما زالت سبل الوقاية لهم في العمل لا ترقى لمعايير السلامة والوقاية والتباعد بينهم خاصة في أماكن الإقامة أو أثناء تنقلهم أو في ورش العمل، وهذا التهديد بالخطر يحتاج لتدخل من أجل الحفاظ على صحتهم واستمرار عملهم بدون نقل العدوى أو تهديد حياتهم وحياة من حولهم، وللعلم يساهم عمال الخط الأخضر شهرياً في الحركة الاقتصادية بحوالي 666.500.000 شيقل، حيث يبلغ متوسط دخل العامل شهرياً حوالي 5000 شيقل، أي ما يزيد عن نصف مليار شيقل من أجور العمال تعزز الاقتصاد المحلي.
هذا التوصيف لواقع العمال الفلسطينيين يأتي في إطار محاولة تشخيص وتحليل الواقع وأثر المستجدات على العمال في الأول من أيار ، فعمال فلسطين يحتاجون للرعاية والتدخل الحقيقي في تخفيف أعباء الحياة ومتطلباتها عليهم، وتقديم الدعم والمساندة لهم ليستطيعوا مواكبة تطور العمال وتطلعاتهم في العالم، فالعامل الفلسطيني أغلى ما نملك في ظل ضعف الموارد والمواد الخام والمصادر لإنجاح الاقتصاد، فالقوى البشرية تمثل عنصر الانتاج والطاقة الحية التي يملكها مجتمعنا، والاهتمام بها وحمايتها واجب وأولوية لدعم وإنعاش اقتصادنا المحلي، وحماية أفراد المجتمع، فالإنسان العامل فرد مؤثر بالمجتمع ويشكل السواد الأعظم منه ونصرته وحفظ كرامته من نصرة الوطن وكرامته.
إنصافاً للعمال وتقديراً لجهودهم، ودورهم في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يجب إعادة النظر في العديد من القضايا؛ لحماية مستقبلهم وتعزيز صمودهم، بالتدعيم والثناء، والتكريم، وتطوير التشريعات والقوانين التي تؤمّن علاقات عمل سوية متوازنة وتحميهم من المخاطر في الأزمات وذلك بخطوات عملية للتدخل والعلاج بهدف تحسين الواقع العمالي من خلال:
- تحمّل المسئولية وتقديم المساعدة للعمال المتضررين بشكل دوري ومنظم وعادل وبدون تمييز لمساندتهم في توفير احتياجاتهم ولوازم أسرهم، بما يعزز صمودهم وثباتهم.
- إعانة العمال وابنائهم في التعليم والرعاية الصحية المجانية والمدعومة كحق أصيل لهم ولأسرهم من حقوق الإنسان في ظل الظروف الصعبة.
- ضرورة تطوير القوانين والتشريعات الاجتماعية العمالية، والعمل على تطبيقها بعدالة لإنصاف الفئات العمالية الهشة والضعيفة وحمايتها بالقانون من هيمنة واستغلال واستبداد بعض المشغلين، في ظلّ الظروف الصعبة، وعدم توزان قانون العرض والطلب.
- إعادة النظر في منظومة الأجور في سوق العمل المحلي والعمل على تحسين وتطبيق الحدّ الادنى للأجور، فالأجور مصدر مالي للعيش الكريم وشريان الحياة للدورة المالية وحركة السوق والانتعاش الاقتصادي.
- من المهم أن يتم تفعيل قرار بقانون الضمان الاجتماعي باعتباره أحد القوانين المهمة التي توفر الحماية الاجتماعية والتأمين من المخاطر للعمال في سوق العمل وإجراء التعديلات المناسبة من خلال الحوار بين الأطراف المعنية.
- ضرورة العمل على متابعة العمال داخل الخط الأخضر، والعمل على تطبيق القوانين عليهم بشكل عادل وملاحقة المشغلين لتحصيل حقوقهم وفق الأصول، والعمل على استرداد الأموال المتراكمة منذ عام 1970 الخاصة بالتأمينات الاجتماعية، فلا يجوز أن يعاني العمال الفقر في الحجر الصحي والمنزلي، ولهم أموال متراكمة في صناديق التأمينات الاجتماعية الإسرائيلية.
- ضرورة العمل على وضع ضوابط قانونية لتنظيم سوق العمل غير المنظم بما يوفر حماية لأكثر من 57% من العمال في سوق العمل المحلي، فمنهم 62% من الذكور و38% من الإناث ، ويعملون في ظروف عمل تفتقر لأدنى الضوابط القانونية، فمعظم العاملين في هذا القطاع لا يحصلون على أيّ من الحقوق في سوق العمل سواء مكافأة نهاية الخدمة، أو إجازة سنوية مدفوعة الأجر، أو إجازة مرضية مدفوعة الأجر، فقط يحصلون على أجور، معظمها أقل من الحد الأدنى للأجور.
- يجب الحفاظ على حريات العمل النقابي واستقلاليته وتعزيز الديمقراطية النقابية، والنضال النقابي السلمي بعيداً عن الفئوية والتجاذبات السياسية بما يحقق مطالب وتطلعات العمال والارتقاء بهم نحو الأفضل.
يتطلع العامل الفلسطيني للكثير من الآمال انطلاقاً من بيئة عمل لائقة ومستقرة، لواقع اجتماعي وثقافي يقدر جهوده وينظر له بتقدير واحترام لمكانته، ويراعي خصوصيته، وظروفه في كل الميادين والمحطات التي يعيشها شعبنا من تضحيات، فالفئة الأكبر والأكثر تأثيراً في الواقع والمجتمع والأكثر تضحية وتضرر هم العمال، وهم مفخرة المجتمع والأمة وملح الأرض وسواعدها السمراء التي تبني بانتماء وإخلاص وولاء لله والوطن، وتحتاج من يشجعها ويقف بجانبها ويتبنى مطالبها وينهض بها نحو الأفضل بكرامة وكبرياء ورصانة.
أخيراً بالإمكان لعمالنا أن يحتفلوا كالآخرين بعيد العمال إذ ما شعروا بقيمتهم ومكانتهم في المجتمع وحققوا أدنى متطلبات العيش الكريم وإذا ما أنصفتهم القوانين والتشريعات واحتضنهم المجتمع بالقيم الجميلة والتكافل والتعاضد الاجتماعي وساندهم في كل التحديات والظروف الصعبة ...
عاش الأول من أيار عيد العمال العالمي كل عام وعمالنا في فلسطين والعمال في كل انحاء العالم بألف خير
د. سلامه أبو زعيتر
• عضو الأمانة العامة في الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت