التطبيع الفني، حلقة من مسلسل التخاذل الطويل..

بقلم: جهاد سليمان

جهاد سليمان

في 14 أيار 2018، افتتحت السفارة الامريكية أبوابها في القدس المحتلة، وسط مهرجان تراجيدي حضره عدد واسع من متطرفي اليمين واليمين الصهيوني الاستيطاني، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، بناء على اعتراف رئيس الولايات المتحدة الامريكية "دونالد ترامب" بالقدس عاصمة لاسرائيل وبنقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدس المحتلة في 6 كانون أول 2017.

كان الرئيس الأمريكي قد وعد خلال حملته الانتخابية بالإعتراف بالقدس المحتلة عاصمة "لإسرائيل" في حال فوزه برئاسة الولايات المتحدة الامريكية، الى جانب رزمة من الخطوات التي يفترض تنفيذها، والتي تصب بمجملها في خانة تصفية القضية الفلسطينية، والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، الامر الذي ترجم فيما بعد، من خلال ما بات يعرف ب"صفقة القرن" الامريكية، وما رافقها من اقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقطع المساعدات عن وكالة الغوث "الاونروا"، ومحاولة طرح تعريف جديد للاجئين الفلسطينيين، باعتبارهم فقط الذين ولدوا قبل نكبة عام 1948، بالإضافة لتشريع الاستيطان واعتباره لا يخالف القانون الدولي، وفي تنكر لحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، بعاصمتها القدس، ومنح اللاجئين الفلسطينيين حق العودة وفقا للقرار الاممي 194، أي في تنكر لجميع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، التي كفلتها القرارات الدولية، والتي اقرت في "مبادرة السلام العربية"، في وسط صمت مطلق للنظام الرسمي العربي، الذي اكتفى ببعض البيانات الخجولة، لم تكن ترقى الى مستوى الكارثة التي تحضر للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، بل للمنطقة العربية بأسرها.

وفي اعقاب الإعلان عن الشق السياسي من صفقة القرن بتاريخ 28 كانون الثاني 2020، التي اعتبرها الرئيس الأمريكي "ترامب"، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" انها الفرصة الأخيرة للفلسطينيين للوصول الى حل شامل لقضيتهم كما زعم، خرجت بعض الأصوات الصحفية المأجورة، التي بدأت تروج  لفكرة البحث الجدي للصفقة، والى التريث في موضوع الرفض، بل ذهب بعضها الى اعتبار الصفقة "مقبولة" محملين القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني مسؤولية إضاعة الكثير من الفرص كما زعموا لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، في إشارة لتحميل الشعب الفلسطيني استمرار الصراع القائم.

وعلى جانب آخر أطلت علينا بعض العواصم العربية، التي رفعت الاعلام الإسرائيلية على انغام نشيد "هاتيكفاه" الصهيوني، في لقاءات رياضية تطبيعية متنوعة، الامر الذي شكل مصدر استفزاز للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، خاصة في ظل التبجح الصهيوني، وعلى لسان وزيرة الثقافة والرياضة في الكيان الصهيوني "ميري ريغيف" والتي تحرض وعلى الدوام، على سفك دماء الشعب الفلسطيني، وتدمير منازلهم وسلب أراضيهم، بأن "اللاعبين الإسرائيليين" اصبحوا قادرين على التواجد في معظم العواصم العربية، معتبرة اللقاءات الرياضية في هذه العواصم العربية بأنها أحداث تاريخية.

وكعادتهم، خرج أصحاب الأقلام الصفراء، ليصوبوا جل جهدهم العبثي، للتبرير لهذه اللقاءات باعتبارها لقاءات رياضية، وهي بعيدة عن أي شكل من أشكال التطبيع، فيما تمادى آخرون لاعتبارها فرصة حقيقية من أجل الدفع بعملية السلام في المنطقة العربية الى الامام، وطالب البعض الاخر بتعزيز مثل هذه اللقاءات وتبادلها، في ظل صمت عربي رسمي مهين، مما  وضع جميع الالتزامات العربية والتوافقات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وخاصة فيما يتعلق بالتطبيع في مهب رياح الطائرات الصهيونية، التي باتت تجد لنسفها مدرجا في بعض العواصم العربية، مما دفع برئيس الوزراء الصهيوني المجرم "بنتيامين نتنياهو" للترحيب بهذا النشاط التطبيعي، على المستوى الرياضي والسياسي، بل استخدمه وفي اكثر من مناسبة لكسب المعارك الانتخابية، بمعنى استخدام حفنة المطبعين من العرب، كوسيلة للدعاية الانتخابية، في تصوير لمستوى النظرة الدونية، التي ينظر بها هؤلاء الصهاينة لمروجي التطبيع الهائمين "بديمقراطية إسرائيل" وتجربتها الزائفة.

واليوم تطل علينا حلقة جديدة من مسلسل التطبيع الطويل، وهذه المرة على المستوى "الفني"، والتي تروج له بعض وسائل الاعلام العربية، ذات الاتجاهات الواضحة والمفضوحة، من خلال مسلسل "إم هارون" و" المخرج رقم 7" التطبيعيين، والذين يروجون لفكرة التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني، ويشوهون الحقائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي"، و الذي يصب بشكل مباشر في خدمة رؤية "ترامب-نتنياهو"، الهادف لتصفية القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، وتحويل الكيان الصهيوني الى "دولة طبيعية" في المنطقة، على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتي اقرتها القرارات الدولية، وعمدتها دماء آلاف الشهداء الفلسطينيين والعرب واحرار العالم، وعذابات الاسرى والجرحى، كما تهدف الى كي الوعي الشعبي العربي، وإستبدال معادلة العدو والصديق.

كما بدا واضحا في الحلقات الأولى التي عرضت، والتي لاقت ترحيبا لدى الجانب "الإسرائيلي"، مما دفع ببعض القنوات العبرية، لترجمة بعض الحلقات، وبثها للجمهور "الإسرائيلي"، مما يدلل على خطورة المحتوى ومنهجية التضليل المتبعة والمدروسة، والخدمة المجانية التي تقدمها هذه المسلسلات التطبيعية ، خدمة ل"صفقة القرن" وما تخطط له الحكومة الصهيونية بدعم الإدارة الامريكية، من فرض السيادة الكاملة على الضفة الغربية، وشمال البحر الميت، وبسط السيادة الكاملة "الإسرائيلية" ومنع قيام أي دولة فلسطينية مستقلة وكيان سياسي فلسطيني.

وعلى الرغم من الموقف الشعبي العربي، الرافض لجميع اشكال التطبيع مع هذا الكيان المحتل والغاصب للأرض الفلسطينية، الا ان كرة التطبيع وعلى جميع المستويات آخذة بالتدحرج، في ظل الصمت المخزي للأنظمة العربية الرسمية، إزاء هذه الخطوات التطبيعية، وفي ظل شبه غياب  لدور الأحزاب والقوى العربية، للجم هذه الانحرافات بإتجاه شرعنة الاحتلال الصهيوني وتشويه الحقائق، والوقوف بحزم امام جميع هذه الطعنات التي توجه الى خاصرة الشعب الفلسطيني ونضاله المتواصل، وهذا ما يجعل منها خطوات خطيرة، من شأنها ان تشكل خرقا في الوعي العربي الشعبي، وتحرف البوصلة بإتجاه قلب الحقائق التاريخية والمستقبلية، حول شعب فلسطين ومستقبل قضيته الوطنية.

ان ما يحصل من انحدار ثقافي وسياسي، يتطلب دورا مسؤولا وحازما، من قبل الأحزاب والقوى العربية القومية واليسارية، كي تتحمل مسؤوليتها في اشهار الرفض المطلق، لجميع هذه المحاولات التطبيعية، والتي تبدأ بضرورة الضغط على الحكومات العربية لاقرار قوانين تجرم التطبيع مع الاحتلال الصهيوني بكافة أشكاله، والتحشيد الإعلامي بإتجاه جميع محاولات التطبيع والعمل على محاسبة جميع من عمل عليها ويروج لها، بالإضافة لتكثيف عملية نشر الوعي الثقافي والتحصين الفكري، بين أوساط الجماهير العربية، التي يمارس عليها عملية تضليل ممنهجة، أصبحت على شاشات كل اسرة عربية، وعلى هواتف كل مواطن عربي.

كما يقع على عاتق القيادة والشعب الفلسطيني، بمختلف قواهم وتوجهاتهم، مسؤولية كبيرة في مواجهة موجة التطبيع والهرولة، التي تقودها بعض الأقلام الصفراء العربية، والتي تبدأ بتكثيف التوجه والتواصل مع جميع الأحزاب والقوى العربية، للوقوف موقفا موحدا رافضا لهذه المحاولات الخبيثة، التي تصب في مصلحة المشروع الصهيوني في المنطقة، والى تكثيف العمل المشترك، مع جميع هذه الأحزاب لبث الحقائق الفلسطينية للجمهور العربي، وتغذية وسائل الاعلام العربية بالمحتوى الفلسطيني، الذي يكشف حقيقة ما يجري على الأرض الفلسطينية، وما حقيقة "صفقة القرن" المزعومة كخيار وحيد لحل القضية الفلسطينية، والمخاطر التي تترتب على هذه الصفقة على صعيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى صعيد المنطقة بأسرها، كما يتطلب العمل على تنشيط المحتوى الثقافي والفني الفلسطيني، وتشبيكه بأعمال ثقافية عربية، ودعم جميع المبادرات الثقافية والفنية التي من شأنها ان تشكل حصانة للوعي الجماهيري العربي، وسدا منيعا امام جميع هذه المحاولات لكي الوعي وحرف بوصلة الصراع القائم، بالإضافة لتكثيف الندوات واللقاءات والمبادرات التي تعرض مخاطر التطبيع وتأثيره، ودعم جميع حركات المقاطعة، وعلى جميع المستويات، في جميع دول العربية، والعالم.

كما يتطلب من القيادة الرسمية الفلسطينية، التقدم الفوري بإتجاه خطوات عملية للجم جميع هذه المحاولات التطبيعية، كجزء من الحرب التي تشن على الشعب الفلسطيني من خلال ما بات يعرف "بصفقة القرن"، لاستنهاض عناصر القوة الفلسطينية، وإعادة الثقة بين الشعب الفلسطيني وقيادته، وإعادة توجيه البوصلة العربية نحو المعركة الأساسية مع الاحتلال، والتي تبدأ بسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، ووقف العمل باتفاق أوسلو وملحقاته، من بورتوكول باريس الاقتصادي، ووقف كافة اشكال التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي تشكل الاطار الوطني للحركة الجماهيرية الفلسطينية المنتفضة، وتطويرها باتجاه انتفاضة فلسطينية ثالثة، تفرض على الاحتلال موازين قوى جديدة، وتفعيل مقاومة هذا الاحتلال بجميع الوسائل، ألامر الذي يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، في الوسط العربي والعالمي، ويشكل ضمانة الرد على جميع هذه المحاولات، التي تعتقد بأن "صفقة القرن" هي مصير محتوم على رؤوس الفلسطينيين، الذين لا يملكوا خيارا، سوى الرضوخ لجميع هذه الاملاءات التي تستجيب لمصلحة "دولة إسرائيل الكبرى" وتنسف جميع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها دولته المستقلة.

ان الحقيقة الوحيدة الراسخة في مجرى تطور التاريخ، هي حقيقة الشعب الفلسطيني، الذي يقاتل من أجل حقوقه الوطنية، والذي يضحي بالغالي والنفيس، في سبيل انتصار قضيته العادلة، التي تشكل الخندق الأول ورأس حربة الدفاع عن الامة العربية والإسلامية واحرار العالم، امام هذا المشروع الصهيوني الاجرامي، الذي لن يتوقف عند الحدود الفلسطينية، اذا ما انهار هذا المارد الكنعاني العظيم.

ان الحلقات الوحيدة، التي سيشاهدها الجمهور العربي، والتي سيكون جزء رئيسيا من صناعتها، هي حلقات الانتصارات المتتالية للحق الفلسطيني، والنضال الفلسطيني، في مسلسل الكرامة والعزة، التي خاضها ومازال الشعب الفلسطيني، ومعه جميع شرفاء الامة العربية والإسلامية واحرار العالم، والتي سيكتب نهايته بالنصر المؤكد، والحقيقة الراسخة بأن الشعوب العربية والإسلامية وجميع احرار العالم، ستبقى الصخرة الصلبة التي ستتحطم عليها جميع هذه المؤامرات والمحاولات الخبيثة، وستبقى كلمة فلسطين نغم على حناجر هذه الجماهير الحرة التي قدمت لفلسطين وللثورة الفلسطينية الدماء، وستبقى كلمات الرفيق الشهيد فوزي المجادي الكويتي الجنسية الفلسطيني الهوى احد أبطال القوات المسلحة الثورية الذراع العسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والذي استشهد على أرض فلسطين وروى ترابها بدمائه الزكية، التعبير الوحيد عن الضمير العربي الحي والرد الابرز على جميع أصوات النشاز المطبعة، التي لن تجد مكان لها الا في مزابل التاريخ، والتي ستلعنها الاجيال جيلا وراء جيل.

جهاد سليمان \ قيادي في الجبهة

الديمقراطية لتحرير فلسطين

2 نيسان 2020

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت