من بين مشكلات الدراسات المستقبلية في تطوير نماذجها في إطار الدراسات المستقبلية هو في كيفية إدراج المتغير “قليل الاحتمال عظيم التأثير Low Probability –High Impact” خصوصاً عندما يشكل هذا المتغير نقطة تحول في اتجاه Trend معين للظاهرة موضوع البحث أو نقطة تحول للاتجاه الأعظم Mega-Trend للظاهرة.
ويتم تقسيم هذا المتغير إلى ثلاثة انماط:
1. نموذج الأوزة السوداء Black Swan؛ وهو الحدث غير المتوقع نهائياً. وبالتالي ليس هناك خطط لمواجهته، وهو أمر لا ينطبق على فيروس كورونا الذي يتوفر قدر غير قليل من الدراسات العلمية التي تنبأت به. [1]
2. النموذج المتوقع بدون استعداد لمواجهته Known but unprepared for، [2] أي متوقع ولكن لا يوجد استعدادات مسبقة لمواجهته، وهو ما ينطبق على الكورونا.
3. نموذج المتوقع وهناك استعداد لمواجهته Known and prepared for. وهو ما لا ينطبق على الكورونا أيضاً.
وتتم دراسة هذا المتغير بمناهج متداولة في الدراسات المستقبلية وهي المنهج الإرشاديHeuristic أو المنهج الحتمي Deterministic أو المنهج الاحتمالي Probabilistic، ولكل منها خطواته المنهجية المحددة. [3] ولا يتسع المقام للدخول في تفاصيل هذه المناهج. [4]
مما سبق، نقول إن الكورونا كان متوقعاً لا من العلماء فحسب بل ومن السياسيين أيضاً، لكن الخطط للمواجهة لم تتم لأسباب تستحق من الباحثين التأمل والبحث فيها.
أولاً: النظام الدولي بين الاتجاهات الأعظم ونقاط تحوله:
بالعودة للتاريخ الإنساني يتبين أن “العقل الإنساني” عبر التطور التدريجي تمكن في خاتمة المطاف من استيعاب الصدمات الكبرى (وبائية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم بيئية، أم غيرها)، وإعادة تكييف بُنياته بشكل يحافظ على أربعة “اتجاهات عظمى” لم تتوقف في التاريخ الإنساني على الرغم من كل نقاط التحول الكبرى والصغرى، ولم تثنها الصدمات أو نقاط التحول وتعرجات مسار الظواهر عن الاستمرار، وهي:
1. الحفاظ على الحياة الإنسانية: والدليل أن عدد سكان العالم لم يتوقف عن “اتجاه” التزايد في أي فترة من فترات التاريخ على الرغم من كل ما واجهته البشرية من “أعوام رمادة” أو حروب أو امراض أو غضب الطبيعة…إلخ.
2. التطور العلمي في مختلف مناحي الحياة: إذ تتراكم المعارف في مختلف العلوم والفنون وتجري غربلة النظريات والاكتشافات والإبقاء على بعضها أو تطوير البعض الآخر أو إحلال الجديد محل ما لم يعد مناسباً في الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والأدب والفن…إلخ، ولم يتوقف هذا التطور والتراكم العلمي ولو للحظة واحدة على الرغم من كل التطورات المفاجئة وغير المفاجئة.
3. التواصل بين المجتمعات وتطوير أدوات هذا التواصل من خلال تنامي نشوء المدن (تجمعات سكانية أكثر تواصلاً)، وتقريب المسافات (بأداوت المواصلات من الخيل إلى الكونكورد)، بل وإلغاء المسافات (بالفضائيات وشبكات الإنترنت)، وتؤكد دراسات الأثنروبولوجيين التاريخية هذه المسألة بشكل كبير. [5]
4. العلاقة الجدلية بين الإنسان والإنسان (والمجتمع والمجتمع الآخر)، والعلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة وما ورائهما، وتتمثل هذه الجدلية في علاقة مزدوجة تتمظهر بالصراع أحياناُ (بالحروب أو بالمظاهر الطبيعية السلبية من تلوث أو كوارث أو أوبئة وسواها)، وبالتصالح والانتفاع أحياناً أخرى (بالتعاون أو جني الثمرات على اختلاف أنواعها من الطبيعة).
بناء على ما سبق، فإن المشهد الدولي القادم بعد كورونا (كوفيد 19) قد يدخل الاتجاهات الأعظم سابقة الذكر في بعض التعرج أو التلكؤ، وقد يفرز مظاهر لم تألفها البشرية، لكني أميل إلى أنه لن يزحزح الاتجاهات الأعظم الأربعة عن مواصلة المسيرة، فلن تتوقف الزيادة السكانية (عند مقارنة عدد المواليد بعدد الوفيات حتى مع كورونا)، ولن يتوقف التراكم العلمي (فالعقل البشري قلق بطبيعته ولن يستقر أمام أي جديد، بل سيلاحقه للفهم والتكيف بل والتوظيف)، ولن تتراجع شبكات التواصل والاتصال بين الأفراد والمجتمعات، بل سيتم رتق أي فتق أصابها وعلى عجل، وأخيراً لن تتوقف ثنائية الصراع و”المماحكة” التاريخية بين الإنسان والإنسان وبينهما وبين الطبيعة وما ورائهما.
في ضوء ما سبق، سأولي بقية المقال للاعتناء بقسمات المشهد الدولي في ضوء الانكسارات العابرة لأحاول رصد المستقبل المباشر للمشهد الدولي (3 سنوات)، ورسم ملامحه العامة، على الرغم من أنه وصف لمشهد متحرك.
ثانياً: العلاقة بين إيقاع التغير والتحولات في المشهد الدولي وبين البعد البيولوجي الطبي:
إن الفترة الزمنية التي سيصل فيها العالم إلى عقار يلجم انتشار الفيروس، وبالتالي امتصاص آثار التكلفة البشرية والاقتصادية، مسالة متروك تقرير مدتها بيد المختبرات العلمية، فإذا رافق الفيروس العالم حتى سنة 2021 كما ترى بعض التقارير (تقرير الصحة العامة البريطاني)، [6] فإن التداعيات ستكون عميقة اقتصادياً وبشرياً، ولكن هناك مراكز علمية أكثر تفاؤلاً من هذه. [7]
ويبدو أن نتيجة الإحساس بالتداعيات الخطيرة على الجميع صرفت توجه الدول الكبرى باتجاه خبراء القطاع الصحي لمواجهة الأزمة، وهو ما قد يزيد من المنافسة بين هذه الدول من ناحية (خصوصاً شركات الأدوية، وما يترتب على ذلك من مكاسب تجارية وتعزيز القوة الناعمة للدولة)، لكنه قد يدفع باتجاه تكاتف الخبرات وتعاونها من خلال المشاركة في الاكتشافات ذات الصلة من ناحية أخرى. وهو الأمر الذي حثّ عليه عدد كبير من النخب العالمية، وتبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأييد من 188 دولة، [8] والأرجح أن هذا التوجه ليس محصوراً في الأقطاب الدوليين فقط، خصوصاً أن الفيروس غير منحاز لأحد في حربه لا طبقياً ولا قومياً ولا دينياً…إلخ مما يجعله عدواً “للجميع” وهو ما يعزز، بقدر ما، المواجهة المشتركة، وهو ما تؤكده تقارير وتوقعات مسؤولي الصندوق الدولي من أن هناك علاقة ارتباط عكسي بين سرعة الوصول للعقار وبين عمق الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناتجة عنه. [9] ولعل تبني أغلب البنوك المركزية لسياسات أكثر تيسيراً للسياسات النقدية يزيد من الحس التعاوني بين مختلف الدول دون أن ينفي بقاء قدر من التنافس أيضاً.
ثالثاً: التداعيات الاقتصادية والقدرة على التكيف مع ارتداداتها العكسية:
إن إيقاع التغير المتسارع يجعل انتقال الآثار أسرع، ويجعل القدرة على التكيف أضعف، في ظل الاضطراب الذي يتركه متغير قليل الاحتمال عظيم التأثير، وهو الكورونا في حالتنا هذه.
وبالنظر إلى السوابق التاريخية في تأثير الأوبئة على الاقتصاديات الدولية، نجد مثلاً أن السارس SARS كلف دول شرق آسيا في سنة 2003 نحو 2% من إجمالي ناتجها القومي في حينه، بينما زلازل اليابان سنة 2011 كلفت اليابان ما يوازي 235 مليار دولار، وتوقف الإنتاج في بعض من أكبر شركاتها، [10] وبقيت آثار الزلزال حتى سنة 2017، على الرغم من الإمكانيات الكبيرة لليابان على التكيف، ولا شك أن آثار الكورونا تفوق ذلك في حالة دول كثيرة.
ومن الواضح أن تداعيات الأزمة لا تتساوى في كل الدول (بشرياً واقتصادياً)، ولا في كل القطاعات (قارن قطاع السياحة أو شركات الطيران أو الشركات الكبرى مع قطاع البنوك أو البورصات…إلخ)، ولا في كل الأقاليم (قارن نسبة التأثير في أوروبا والولايات المتحدة والصين مع الدول الإفريقية أو دول أمريكا اللاتينية)، او بين الدول النفطية وغيرها من الدول حيث تراجعت أسعار البترول الى 20.84 دولار للبرميل مع الأسبوع الاخير من نيسان/ أبريل وهو أدنى مستوى لها منذ سنة 2000، بل إن الأسعار النفطية في السوق الأمريكي وصلت إلى حد السالب، وهي المرة الأولى التي يصل فيها التراجع هذا الحد. [11]
ولو نظرنا في أهم بورصات العالم سنجد من المقارنة بين الأسبوع الأول من شهر نيسان/ أبريل 2020 والأسبوع الأخير من الشهر ذاته أن نسبة الهبوط كانت مرتفعة في البداية ثم بدأت تتراجع بفعل تدخل الحكومة الأمريكية في أواخر آذار/ مارس بدفع نحو 2 تريليون دولار لمساعدة العمال (انضم إلى العاطلين عن العمل في شهر نيسان/ أبريل نحو 4.4 مليون عامل) والشركات (بسبب توقف العمل) على النحو التالي:
لكن شركات أخرى مثل الشركات المرتبطة بالإنترنت (للترفيه أو لعقد الاجتماعات عن بعد أو التعليم عن بعد…إلخ) حققت مكاسب كبرى، فارتفعت أسهم بعضها بنسب كبيرة مثل: Zoom (+146.1%)، وNetflix (+29.4%) وAmazon (+26.4%). بينما نجد أن شركات الطيران تضررت بشكل كبير لأن أكثر من مئة دولة أوقفت رحلات الطيران مما أدى لتوقف أكثر من مئة ألف رحلة مع الأسبوع الأخير من نيسان/ أبريل 2020. وكل ذلك يشير إلى تباين مستويات الآثار من قطاع اقتصادي إلى آخر. [14]
ومن بين المؤشرات التي يبدو أن قدراً كبيراً من الإجماع عليه هو أن عمق الأزمة الناتجة عن الكورونا متباينة بين الدول أيضاً، فالاقتصاديات القوية خصوصاً للأقطاب الدوليين تمكنهم على الرغم من الخسارة من تحمل أعباء الأزمة، لكن ذلك لا ينفي أن بعضها قد يعرف حالة ركود اقتصادي قدرها صندوق النقد الدولي بنحو 3% خلال بقية سنة 2020، لكن الصندوق يتوقع بأن النمو الاقتصادي في سنة 2021 سيصل الى 5.8% عالمياً في حالة الوصول إلى علاج للكورونا. [15]
أما في الدول النامية أو الفقيرة أو التي تعيش فترات عدم استقرار سياسي سيكون العبء عليها أكثر وطأة، فتدفق الأموال الخارجية نحوها تباطؤ بقدر كبير، كما أن تكاليف المواجهة مع الفيروس من خلال النفقات الصحية وتعطل الأعمال يزيد الأمور سوءاً، ونتيجة للمخاطر المحتملة في هذه الدول بشرياً واقتصادياً بدأ الاستثمار في هذه الدول يتجه نحو تضييق نشاطاته، فخلال الفترة من بداية أزمة الكورونا حتى أواخر آذار/ مارس سحب المستثمرون ما قيمته 83 مليار دولار من هذه الدول، وهو أعلى قيمة في تاريخ الاستثمارات الأجنبية، مما دعا 80 دولة حتى الآن للتقدم لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي للمساعدة، وهو أمر قد يدفع هذه المؤسسات الدولية للتعامل مع هذه الدول من خلال حقوق السحب الخاصة Special Drawing Right، على غرار ما جرى في أزمة سنة 2008، إلى جانب أن العديد من البنوك المركزية الرئيسية تعمل من خلال خطوط مقايضة Swap ثنائية مع دول الأسواق الناشئة، وقد تدفع المنظمات المالية الدولية هذا الاتجاه للأمام وتوسع نطاقه خصوصاً إذا طالت الأزمة، [16] لا سيّما وأن التقديرات الأولية تشير إلى أن الاقتصاد العالمي بحاجة لإنقاذ قد يصل إلى أكثر من 10 تريليون دولار، [17] مع ضرورة التنبه إلى أن معدلات النمو الاقتصادي العالمي من 2008 (الأزمة المالية) إلى 2020، لم تتجاوز خلال الـ 12 سنة معدل 3% إلا في ثلاث سنوات هي سنة 2010 (4.5%)، وسنة 2011 (3.4%)، وفي سنة 2017 (3.3%)، بينما باقي السنوات كانت دون 3%، مما يعني أن الاقتصاد العالمي كان يعاني الكثير من المشاكل قبل الكورونا، وعليه لا يجوز رسم صورة مستقبلية منفصلة عن بنية النظام الاقتصادي العالمي السابق للكورونا. [18]
وتشير معطيات التعامل الاقتصادي مع الأزمة، إلى أن الاتجاه التعاوني هو الأرجح دون نفي أن هذا الاتجاه يستبطن في أحشائه قدراً من التنافس، لكن الضغوط المالية والتجارية والنقدية تشمل الجميع، على الرغم من تباين وطأتها، من مكان لآخر، فهي مثلاً في قطاع غزة أثقل كثيراً منها في أي بقعة أخرى في العالم.
من جانب آخر، تبين أن هناك علاقة إيجابية بين مستوى الانخراط في العولمة وبين معدل زيادة دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وتشير الدراسات إلى إن زيادة نقطة واحدة في مؤشر العولمة يؤدي إلى ارتفاع دخل الفرد بمعدل 0.33 نقطة. [19] وهو أمر تدركه الكثير من الدول التي ستبقى حريصة على العولمة في بعدها الاقتصادي خصوصاً.
من الضروري بداية، وفي ضوء الحديث عن نهاية العولمة أو عودة المنظور الواقعي التقليدي للعلاقات الدولية في أعقاب الكورونا، أن نفرق بين ظاهرة العولمة كعملية إجرائية Process وبين المنظور المعياري لهاNormative ، أي ضرورة التمييز بين العولمة كتعبير عن تداخل وتشابك آليات واطراف المجتمع الدولي لتشكيل نسيج عنكبوتي Cobweb وبين المنظور المعياري القائم على تحديد من المستفيد ومن المتضرر والمحاكمة الأخلاقية والإنسانية لها، فالجزء الثاني (المنظور المعياري ليس هو ما أريد مناقشته هنا لأن الباحثين “قتلوه” بحثاً)، ما أريد التركيز عليه هو سؤال محدد: هل سيسير المجتمع الدولي نحو تمزيق خيوط عنكبوت العولمة بعد الكورونا كما يرى البعض؟
إن الارتداد إلى الترابط الآلي (العودة لمنظور الدولة القومية) مرهون بتراخي وتفكك مؤسسات الترابط العضوي (الترابط الاقتصادي والتقني وتقسيم العمل الدولي)، فهل يحتمل البناء العالمي حالياً تفكك مؤسسات الترابط العضوي؟
عند الحديث عن انتهاء العولمة أو التحول التدريجي عنها لا بدّ من الأخذ في الاعتبار عدداً من المؤشرات التي تشير إلى أن الأمر ليس بهذه البساطة في ظل الواقع القائم وعمق الاتجاه الأعظم للترابط العضوي، والذي يظهر في المؤشرات التالية (إلى جانب الاتجاهات الأعظم التاريخية التي أشرنا لها في بداية هذا المقال): [20]
1. الشركات متعددة الجنسية:
طبقاً لتقديرات الاتحاد الأوروبي تسيطر هذه الشركات على نصف التجارة العالمية، وحيث أن هناك 60 ألف شركة متعددة الجنسية ولها نحو نصف مليون فرع تغطي كل أرجاء المعمورة ويعمل منها نحو 162.4 ألف في الاتحاد الأوروبي، فهل ستفك هذه الشركات العملاقة مصانعها وفروعها التي تغطي الإنتاج والتسويق والخدمات ما بعد البيع…إلخ؟ قد تحدث تعرجات في نشاطات هذه الشركات كما حدث قبل حرب الكورونا عندما انخفض حجم التجارة العالمية 1.1% بين سنة 2018 وسنة 2019 الماضية وقبل الكورونا.
2. التجارة العالمية:
اتسعت التجارة الدولية من 1950 إلى 2019 من نحو 62 مليار دولار إلى نحو 19 تريليون دولار، أي بمعدل أكثر من 306 أضعاف. وبمعدل 4.4 أضعاف سنوياً، فالتراجع في هذا الحجم سيحدث بالتأكيد لكنه على الأرجح سيعود للانتعاش بمجرد اللحظة الأولى من الاطمئنان على جبهة الكورونا، فمن المرجح أن تعاود آليات السوق بنوعيه؛ اقتصاد السوق الاشتراكي الذي تتبنى دولته منظور العولمة حالياً، ومنظور السوق الرأسمالي الذي أثبت قدرة هائلة على التكيف المرن مع ارتجاجات الحياة الاقتصادية العالمية.
3. الاستثمارات الخارجية:
تبلغ قيمة الاستثمارات الخارجية دولياً نحو 1.3 تريليون سنة 2018 بتراجع للسنة الثالثة (أي قبل الكورونا) عن أرقامها سنة 2015، ولكن هذه المبالغ الهائلة والمشروعات الضخمة من العسير تفكيكها، بل قد تعرض الدول التي فيها هذه الاستثمارات مزيداً من الإغراءات على الجهات المستثمِرة لتبقى وتحول دون انهيار الاقتصاديات لهذه الدول بفعل أزمة الفيروس، بمعنى أن الاستثمارات كانت في حالة تراجع قبل الفيروس، لكن اعباء التوقف الاقتصادي قد تدفع بعض الدول لمزيد من التنازلات لجلب الاستثمارات، وهو ما يعزز مسار العولمة من جديد.
4. العمالة الأجنبية:
هناك نحو 164 مليون عامل أجنبي طبقاً لأرقام منظمة العمل الدولية يعملون خارج بلادهم، ويقومون بتحويل مبالغ هائلة سنوياً لاقتصاد دولهم، فهل سيترك هؤلاء أعمالهم؟ وثرواتهم؟ إنهم يتوزعون في مناطق الجذب (32% في أوروبا، و23% في أمريكا الشمالية، و13.9% في الدول العربية، و13.3% في دول آسيا الأخرى، و7.9 في إفريقيا و7.1 في الباسيفيكي…إلخ)، فقد يعود بعضهم أو تتلكأ حركة التزايد في أعدادهم، لكن التغلب على الكورونا سيعيدهم لمصانعهم لا سيّما في ظل الحاجة المتبادلة بين طرفي العمل.
5. الطلاب الأجانب والفروع الجامعية الخارجية (فروع الجامعات على غرار فروع الشركات متعددة الجنسية):
هناك 5.3 مليون طالب أجنبي يدرس خارج بلاده بزيادة 3 ملايين خلال الفترة من 2000-2020 (منهم حالياً 330 ألف طالب أمريكي خارج الولايات المتحدة)، وهناك على المستوى العالمي 255 فرعاً لجامعات أجنبية، فهل سيترك هؤلاء الطلاب جامعاتهم الأجنبية، وهل ستقفل الجامعات الأجنبية أبوابها، وهل تستطيع الدول تحمل استيعاب الطلاب العائدين والعمالة العائدة وكل ما يترتب على ذلك من خلل اقتصادي واجتماعي؟
6. شبكة المنظمات الدولية غير الحكومية:
خلال الفترة من 1990-2020 ارتفع عدد المنظمات الدولية ليصل إلى نحو 5 آلاف منظمة حكومية دولية إلى جانب ارتفاع عدد المنظمات الدولية غير الحكومية من 6 آلاف منظمة إلى 25 ألف منظمة تغطي تقريباً كل قطاعات الحياة، وأصبح لهذه المنظمات نفوذ سياسي وقانوني وانساني عابراً للحدود القومية…إلخ، فكيف سيتم تفكيكها؟
ذلك كله يعني أن تفكيك البنية التحتية للعولمة ليس بالأمر المتاح، لكن نهر العولمة سيبقى يتدفق دون نفي احتمال تعرض بعض روافده لتغيير في مجاريها أو في منسوب مياهها.
رابعاً: التداعيات السياسية بين العولمة والدولة القومية:
يتمحور النقاش السياسي بين الباحثين في موضوع التداعيات السياسية للكورونا حول نقطتين مركزيتين هما: مكانة الدولية القومية في السياسات المحلية والدولية، فهل أدت الأزمة إلى انكفاء الدولة عن انخراطها في الشأن الخارجي، دولياً أو إقليمياً، بشكل كبير أم أن الأمر خلاف ذلك؟ في هذه النقطة، يميل قدر غير يسير من الكتاب والباحثين إلى الاعتقاد بأن الكورونا قصم ظهر العولمة، وأن الانكفاء مرة أخرى نحو “الدولة القومية” والعودة بهذه الدولة لوظائفها التقليدية وتفكك النظم الإقليمية واستعادة مفهوم السيادة الذي صقله جان بودان Jean Bodin في القرن السادس عشر، وأن الكورونا سينتهي بتفكك بنية النظام الدولي القائم حالياً، وتتضح هذه الصورة في كتابات ستيفن والت Stephen Martin Walt رائد الواقعية الجديدة، وبشكل لا يتوافق مع آراء جوزيف ناي Joseph Nye (صاحب مفهوم القوة الناعمة) ويتوافق جزئياً مع آراء وليم بيرنز William Burns وغيره من المفكرين. [21]
أما النقطة الثانية فهي هل ستؤدي تداعيات الكورونا إلى تنامي النزعة الصراعية بشكل يعيد صياغة بنية النظام الدولي أم أن التنافس السلمي سيتواصل خصوصاً بين القوى الكبرى؟ بمعنى هل المجتمع الدولي في طريقه للعبة صفرية أم لعبة غير صفرية؟zero sum-game or nonzero sum-game.
بالنظر إلى الاتجاهات في بنية النظام الدولي المعاصر سنجد أنه “يعزز الترابط الاقتصادي والتقني” من ناحية، ولكنه ينطوي على تفتت سياسي واجتماعي متلاحق منذ 1945 من ناحية أخرى، [22] وكلا الاتجاهين يؤثر كل منهما على الآخر أو، كما ترى نظريات الاقتصاد السياسي المعولم مثل المؤسسية النيوليبرالية والمدرسة القروسطية الجديدة أو نظرية “عبر الحكومية” أنه لا يمكن فصل أي منهما (الترابط والتفتت)، ويكفي النظر في الجدول التالي الذي يبرز أهم مظاهر التفكك: [23]
إن المشهد القائم حالياً يعيدنا لنظرية إميل دوركهايم Émile Durkheim حول العلاقة العكسية بين الترابط العضوي Organic، والترابط الآلي Mechanical بين الأافراد والمجتمعات، وعليه فإن العولمة ستقاوم أي نكوص عنها، مستفيدة من الملامح التالية:
1. إن الترابط الاقتصادي والتقني الذي يمثل الترابط العضوي يضعف الترابط الآلي القائم على العرق واللغة والدين والمذهب…إلخ، ومعلوم أن الدولة القومية (نموذج صلح وستفاليا The Peace of Westphalia 1648) في جوهرها قامت على أساس الرباط الآلي أولاً، وتعززت ببعض الروابط العضوية، لكن العولمة تعلي شأن الرباط العضوي على حساب الرباط الآلي، ومن هنا جاء تهديدها لمكانة الدولية القومية خصوصاً مع فيضان الخارج على الداخل في كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعليه فإن العودة للترابط الآلي الذي أدى تفككه للتفتت الاجتماعي والسياسي لا يتيح المجال للدولة القومية لاستعادة عرشها بالسهولة التي تبدو للبعض، ومن المرجح أن الدولة التي تتمكن أولاً، كاتجاه فرعي، من إيجاد عقار للفيروس وتنجح في النجاة أولاً ستتعزز “قوتها الناعمة”، وستوظف هذه الدول، خصوصاً الكبرى منها، موضوع الفيروس لتعزيز مكانتها في إطار العولمة، لأن توظيفه Instrumentalise يعني تعزيز القوة الناعمة للذات، وهو أمر بديهي في إطار سياسة التنافس بين القوى العظمى، ويبدو أن الصين من خلال سرعة كبح تسارع الأزمة وتقديم المساعدات للدول الأخرى خصوصاً إيطاليا وغيرها (وهو ما لحقت به روسيا في إرسال مساعدات لإيطاليا) حسنت من هذه الصورة على الرغم من اتهامها بعدم “الشفافية” في بداية الأزمة، وهو ما قد يترتب عليه لاحقاً “بعض” التشنج في علاقاتها مع بعض الدول الأخرى على الرغم من دعوة رئيس منظمة الصحة العالمية World Health Organization إلى “عدم تسييس موضوع الكورونا”. [25]
وبالمقابل فإن قدرة الولايات المتحدة على مواجهة الأزمة بسرعة وإبداع تقني وإداري قد يعزز من احتمالات استمرار دونالد ترامب Donald Trump في البيت الأبيض، لكن فشله الكامل أو النسبي قد يضعف آماله في هذا الجانب، وهو ما سيكون له تداعيات سياسية خصوصاً على السياسة الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم ومن ضمنها الشرق الأوسط بقدر معين، فهو جعل من “الغواية الاقتصادية” العمود الفقري لخطته “صفقة القرن”. وفي ظل التداعيات التجارية والمالية العميقة لأزمة الكورونا مترافقة مع هزات أسعار البترول، فإن قوة الدفع لهذه الخطة سيصيبها بعض التراخي خصوصاً تجاه الفلسطينيين، بينما سيرى فيها الطرف الصهيوني فرصة، وهو ما تشي به عملية تشكيل حكومة “وحدة وطنية” في “إسرائيل” والاستعداد للبدء بضم مناطق مختلفة وواسعة من الضفة الغربية مستفيدة من الانشغال الدولي والإقليمي بهموم الكورونا.
2. إن الحاجة المتبادلة لأسواق القوى الكبرى بعضها مع بعض سيدفعها نحو اللعبة غير الصفرية non zero sum game أي المزاوجة بين توظيف المصالح المتعارضة بطريقة لا تؤذي المصالح المشتركة التي أصبحت ذات وزن كبير في سياسات هذه الدول، خصوصاً في بعدها الاقتصادي والمالي والنقدي، وهي من أهم ركائز العولمة.
3. قد تزيد أهمية المنظمات الدولية المتخصصة مثل منظمة الصحة العالمية على الرغم من تشنجات ترامب نحوها، إذ أن العالم أصبح أكثر إدراكاً لمخاطر الأوبئة وخصوصاً انتشارها عبر الحدود، وهو أمر قد يمتد لتعزيز منظمات البيئة وغيرها من المنظمات خصوصاً ذات الطابع الخدماتي سواء أكانت منظمات دولية حكومية أم غير حكومية، وهو ما يعزز العولمة من جديد.
4. البعد الأيديولوجي: إن معطيات الصورة السابقة تشير إلى التوجه نحو المركب الهيجلي Hegel’s complex القائم على دول تعتمد سياساتها على الجمع بين الاشتراكية (عدالة التوزيع)، وبين الرأسمالية (معدلات النمو)، وهو ما سيجعل العلاقات الدولية (بين الدول) أقل ميلاً للعنف فيما بينها، مقابل تواصل قدر من العنف الداخلي والحروب الأهلية في وضعية غير خطية Nonlinear، وهو تزاوج سبق لعدد من علماء العلاقات الدولية أن تنبأوا به مبكراً. [26]
5. يبدو أن الأزمة قد “هذبت” صورة المؤسسات العسكرية في أذهان الرأي العام العالمي نظراَ لإسهامها في محاولات محاصرة آثار الوباء، ومثاله الحي في هذا السياق لحاق روسيا بغيرها من الدول لمطالبة الجيش بدور أكبر في مواجهة الكورونا. [27] وهذه المهمة للقوة الخشنة سيمنحها المزيد من مساحة الحركة خصوصاً في دول العالم النامي، ناهيك عن احتمال تعزيز دورها اقتصادياً كما هو الحال في الصين ودول أخرى خصوصاً في الدول النامية.
6. يبدو إلى حد ما أن المنظور الآسيوي في العلاقات الدولية اكتسب “بعض” الألق على حساب النقد المتزايد للمنظور الغربي من خلال المقارنة بين سرعة التكيف الآسيوي خصوصاً في مراكز الأزمة الوبائية قياساً لتلكؤ التكيف الأوروبي والأمريكي، وهو ما وصفه البعض بأنه بداية عملية نزع التغريب de-Westernisation أو بداية لمنظور مركب يتمثل في نموذج الويست WEAST الذي طرحه مبكراً بعض الباحثين السياسيين، والقائم على أساس أن ثقافة مجتمع العولمة سيكون على المدى البعيد مزيجاً من ثقافة “الشرق East وثقافة الغرب West.ء[28]
7. إن الكورونا سيدفع قوى الترابط العضوي إلى تكييف نفسها في بداية الأمر، وسيدفع الترابط الآلي بعض الشيء، لكن الترابط التقني (المواصلات والاتصالات والإنترنت) والترابط المناخي (بالمناسبة فإن الكورونا نتيجة شله للمصانع والطيران والمواصلات البرية دفع لانخفاض حاد في نسبة العناصر الملوثة مثل ثاني أكسيد الكربون، بل إن الصين خفضت من استخدامها للفحم بنسبة تقارب 40% طبقاً لبعض التقارير)، [29] والمؤشرات التي أَشرتُ لها سابقاً ستكون استراتيجيتها القادمة هي ليس وقف العولمة بل “تنظيمها أكثر”، والتنبه لأبعاد جديدة بغض النظر عن التقييم المعياري لها، فـ”العنكبوت” باقٍ، والنسج مستمر وبطرق جديدة وقديمة، وقد تُحدِث الصدمة بعض الارتداد لمدة عامين أو أكثر ثم تعود الاتجاهات الأعظم لتفعل فعلها، فكما وجد العالم في عصبة الأمم مخرجاً بعد الحرب العالمية الأولى والأمم المتحدة بعد الحرب الثانية، سيتكيف مع الزائر الجديد ويواصل مسيرته، مع الإقرار بأن ذلك سيحمل معه الكثير من الأوزار، [30] فلا شك أن تفاوت نسب الفقراء الذين تغطيهم المساعدات الاجتماعية والصحية بين الدول سينعكس على مستويات الاستقرار فيها، وهو ما يؤكد تفاوت الآثار على الأوضاع الداخلية، كما أن عدم معالجة الكورونا في الدول الفقيرة يعني احتمالات عودته في الدول الغنية، وهو ما يستدعي مزيد من التعاون الدولي قد يقود تدريجياً إلى تزايد ظاهرة الديبلوماسية “عن بعد” بتزايد عقد المؤتمرات الدولية عن بعد.
8. إن الأزمة دفعت العديد من الجهات الدولية للمطالبة بتخفيف العقوبات وسياسات الحصار على بعض الدول لتمكينها من مواجهة الوباء كما هو الحال في إيران أو فلسطين (في الضفة الغربية وقطاع غزة) وغيرهما في ظل الضغوط الإنسانية، وهو ما اتضح في مواقف المرشَّحَين الديموقراطيين الأمريكيين جو بايدن Joe Biden وبيرني ساندرز Bernie Sanders في مناشدتهما ترامب لتخفيف الحصار. [31] وعليه فالعالم قد يتقارب لمواجهة الفيروس لكنه قد يتباعد مؤقتاً ليحمي كل طرف نفسه من أوزار الوباء.
9. ستبقى الأبعاد الجيوسياسية على حالها لأن الفيروس لا يستطيع تغيير الجغرافيا. وعليه لا بدّ أن تلتفت أوروبا لجنوبها المتوسطي وجوارها الروسي، وقد تظهر بعض الشقوق في جدران الاتحاد الأوروبي أو في العلاقات الأوروبية الأمريكية لكن النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي متشابك إلى حد يصعب تفكيكه بالشكل الذي يجري الترويج له. فمثلاً ليس بالأمر السهل تفكك الاتحاد الأوروبي، وإنما قد تقود الأزمة إلى إعادة هيكلة بعض مؤسساته أو التنبه أكثر لجوانب معينة من باب رد الفعل الطبيعي، وبالمقابل لن تتخلى الصين عن مشروعها العولمي أو مشروع “مبادرة الحزام والطريق”.
الخلاصة:
1.سيتجه العالم بعد لجم تفشي الكورونا إلى إصلاح الأضرار الاقتصادية المترتبة على الكورونا والتي أدت إلى انخفاض معدل دخل الفرد في 170 دولة، لكنها لن تتمكن من ذلك إلا باستثمار هياكل العولمة القائمة مع محاولة الاستمرار في التنافس القومي لدفع مسارات العولمة باتجاه مصالح الدولة القومية، وهو ما سيدخل بعض آليات العولمة في مساومات قاسية قد تتخللها تشنجات سياسية دون الوصول بها لمرحلة الصدام المباشر بالوسائل الخشنة. لكن بعض الدول، كالتي تعتمد اعتماداً كبيراً على النفط، قد تعاني مزيداً من عدم الاستقرار بسبب تضافر شلل الحياة الاقتصادية نتيجة الكورونا من ناحية والهبوط الكبير في عائدات النفط (العراق، والسعودية، وفنزويلا، والجزائر، وليبيا، والمكسيك، والإكوادور، ونيجيريا،…الخ)، وبعض هذه الدول مثل المملكة العربية السعودية التي تعهد ولي عهدها محمد بن سلمان قبل أربع سنوات ببناء اقتصاد متحرر من الاعتماد على النفط، وبدأ بمشروعات لا يمكن إنجازها دون بيع النفط بسعر 80 دولاراً للبرميل بينما هو يرواح حالياً عند 20 دولاراً ستعاني أيضاً، وربما تضطر لمراجعة سياساتها ومشاريعها. [32] وهناك دول عربية كانت تعتمد بشكل كبير على السياحة كأحد أهم مواردها الاقتصادية، لكن نهاية نيسان/ أبريل 2020 سجل خسائر للقطاع السياحي لدول الشرق الأوسط تقدر بنحو 40 مليار دولار يضاف لها 14 مليار خسائر شركات الطيران، وهما قطاعان مهمان للدول المركزية مثل مصر وتركيا وإيران. [33]
2. إن الوصول إلى عقار للتخلص من الكورونا، يمر بمراحل اكتشاف العقار ثم تجريبه ثم إنتاجه على نطاق واسع ثم توزيعه، وهو ما يعني أن الكورونا سيرافق الاقتصاد العالمي لفترة لن تقل عن سنة واحدة، وهو ما يعني استمرار الآثار السلبية التي قد تتسبب بآلام اقتصادية حادة لا سيّما في الدول الفقيرة لفترة تطول او تقصر طبقاً لآليات التكيف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل دولة، وطبقاً لسرعة الوصول للعقار الشافي وعدم مواجهته مرة أخرى في السنة القادمة 2021.
3. نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ستسهم في سرعة أو تباطؤ إيقاع التكيف في بنية النظام الدولي، فإذا فاز ترامب للمرة الثانية فإن الأداة الاقتصادية في العراك الدولي ستعود مجدداً وسيكون الشرق الأوسط والصين وأمريكا اللاتينية المسرح الأكثر إحساسأ بذلك، وفي حالة فشله فإن الرئيس الديموقراطي القادم سيعمل على إعادة تقليص مساحة الفجوات التي خلفها ترامب في شبكة العلاقات الدولية للولايات المتحدة خصوصاً مع أوروبا والصين وبقدر أقل في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار لا بدّ من عدم استبعاد وقوع موجات من العنف في الولايات المتحدة اذا استمر ارتفاع نسب البطالة واستمرار الحجر الصحي في بعض الولايات دون غيرها.
4. إن الهزة العميقة التي أحدثها فيروس الكورونا تنبه الدول النامية، ومنها الدول العربية، إلى ضرورة إدراك أن بناء التكتلات الإقليمية المبنية على أسس سليمة هي الدرع الواقي على المدى البعيد لتأثيرات كل المتغيرات “قليلة الاحتمال عظيمة التأثير”، وعلى الرغم من القصور الذي ظهر على التنظيمات الإقليمية في مواجهة الكورونا، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، إلا أن الحكم على وظيفة الاتحاد الأوروبي لظاهرة لم يتجاوز عمرها 4 شهور هو حكم متسرع، ونعتقد أن الاتحاد الأوروبي قد يستجيب للأزمة بعد امتصاص الصدمة والمفاجأة في سرعة انتشارها.
5. نظن أن المِسْحة السلمية في شبكة العلاقات الدولية ستضغط بقوة أكثر من مرحلة ما قبل الكورونا، وقد يظهر ذلك في أشكال تنظيمية دولية جديدة تعزز هذه المِسْحة أو تعمل على تكييف البُنى القائمة بما يتناسب مع هذه النزعة، دون نفي أن النزعة الصراعية ستبقى قائمة ولو بحدة أقل من فترة ما قبل الكورونا. وبناء عليه، قد يكون الدور الاقتصادي والاجتماعي الخدماتي للقوة الخشنة هو الأكثر إلحاحاً في أدبيات العلاقات الدولية لا سيّما أنه لعب دوراً في هذا الجانب في الكثير من الدول ولو بقدر متباين.
بقلم: أ.د. وليد عبد الحي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت