ما جرى من انقلابات وتطورات نوعيّة على واقع القضيّة العربية (فلسطين) والصراع العربي الصهيوني العقود الثلاثة الماضية وتحديدا منذ "مؤتمر مدريد للسلام " في أكتوبر 1991 يجب أن يدفعنا مرّة أخرى، إلى المنهج الثوري العلمي، في فهم الصراع الداخلي الفلسطيني وتحديد جوهر وماهية هذه التناقضات الداخلية الفلسطينية.
فاليوم يجب النظر إلى التناقض في "الساحة الفلسطينية" باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الصراع مع العدوّ الصهيوني غير مفصولًا عنه، أنه في قلب الصراع الوجودي بين الشعب الفلسطيني ومعسكره من جهة وبين الكيان الصهيوني ومعسكره من جهة أخرى. ومحاولة البعض عزل وتهميش "التناقض الثانوي" هو الذي ينتج سلسلة متواصلة من الفشل المتكرر في الوصول الى معنى حقيقي "للوحدة الوطنية" و "ترتيب البيت الفلسطيني" و"إعادة بناء م ت ف " وغيرها من مصطلحات وعبارات لا تعني أيّ شي إذ جرى تفرّيغها من مضمونها وجوهرها.
يتعّمد مثقفو وأقطاب السلطة الفلسطينية تضليل الناس باستعارات وصور قديمة وتقليدية عن معنى التناقض الداخلي باعتباره " ثانوي" في محاولة للتقليل من شأنه، لا من أجل فهمه وتعميق وتعزيز الوحدة الكفاحيّة الميدانية لمواجهة العدوّ الصهيوني ومخططاته الرّامية لتصفية الحقوق الفلسطينية، لأننا في الوقت الذي نسمع مثل هذه المواقف، عن التناقض الثانوي والمركزي، لا نرى كيف يتمظهر دورهم الكفاحي في ممارساتهم السياسية، أي أين "تناقضهم المركزي" مع العدوّ الصهيوني؟ نحن نرى شراكة أمنية واقتصادية بينهما!
يحاول مثقف السلطة التقليدي وحزب "حركة فتح" تضليل الجمهور الفلسطيني فيقدّم نفسه باعتباره الأكثر حرصاً على المصالح والحقوق الفلسطينية، ويقدم فهمه للتناقضات الداخلية بوصفها "خلافات مع حماس" أو خلافات داخلية بسيطة " أو يعزو أسبابها إلى "التدخل الخارجيّ " و"الإخوان المسلمين" ويوهم نفسه أنه يمكن حلّها عن طريق المصالحة بين القبائل الفلسطينية، أن هذا المنطق يريح الوعي الريفي الهجين ويأخذنا إلى قيم وطرق تقليدية بالية تشبه "قعدة العرب" و"تبويس اللحى" و"تصفية النوايا " وكل هذا سيحدث برعاية المخابرات العربية طبعًا.
لذلك يفشلون في الوصول إلى "حلول للازمة الداخلية الفلسطينية" إذ تعود القبائل إلى الحديث عن "أهمية المصالحة" أو تلوم قوى اليسار دور القبيلتين الكبيرتين، وترمي القصة كلها على " اليمين " وهذا في أحسن الأحوال.
اليوم، حين يشتد الصراع الدّاخلي الفلسطيني، أو يتوتر أكثر، يسبقه أو يرافقه تسخين مع جبهة العدو وارتفاع مستوى وتيرة الصدام الميداني. إن المواجهة مع الصهاينة في هذه المرحلة لن تضمن لنا علاقات وطنية آمنة وأفضل مع حركة فتح مثلا كما كان الحال في أزمنة ماضية . بل العكس هو الصحيح. فإذا قامت المقاومة المسلحة بتنفيذ عملية فدائية ناجحة او استطاعت إحدى مجموعاتها تصفية وزير صهيوني أو حققت إنجازا واختراقًا ما، استحقت الملاحقة والعقاب من حزب السلطة وأجهزتها، هذا يجري تحت يافطة "حماية المشروع الوطني الفلسطيني" و"المصالح العليا للشعب" وهو في الحقيقة حماية لمصالح ومشروع البرجوازية الفلسطينية وطغمة الكومبرادور الفلسطيني الذي عقد حلفه المقدس مع مؤسسات الكيان والنظام العربي الرّجعي.
كان ممكن أن تصح مقولات التناقض الثانوي والمركزي في ساحات الثورة، أي حين يكون الحوار والخلاف بين أقطاب الحركة الوطنية و(رفاق السلاح) خلافاً وطنياً حول الطرق والأساليب الأنجع لاستنزاف العدوّ وعزله، وحول الأولويات الوطنية، يتمظهر الخلاف في مواقف سياسية متباينة تتصارع سلميا داخل معسكر المقاومة.
خلافات يمكن حلها بالحوار والتوافق وتعزيز المشتركات وتغليب التناقض الرئيسي مع العدو، واعتباره الأولوية الوطنية رقم واحد، غير أن هذا الواقع اليوم لم يعد موجودًا في فلسطين المحتلة والشتات وقد تم تجاوزه من قطب السلطة اليميني في الضفة المحتلة، لأنه اختار أن يكون جزءًا من معسكر العدوّ وخصماً للمقاومة المسلحة وللحقوق الفلسطينية.
البعد الطبقي جوهر الصراع الداخلي
تجلى البعد الطبقي في الصراع
الداخلي الفلسطيني، وظهر في وضوح أكبر بعد اتفاق أوسلو عام 1993، أي بعد إحكام قبضة البرجوازية الكبيرة على كل مقاليد ومفاصل القرار السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية وبعد تأسيس سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود في الضفة والقطاع والتي تخدم أصحاب البنوك والشركات الكبرى، وبعد حصار الطبقات الشعبية الفلسطينية ومصادرة دورها وصوتها وبعد تدمير اتحاداتها الشعبية والنقابية والمهنية. هيمن تيار "السلطة / الدولة الفلسطينية" وأصبح أداة أمنية وسياسية من أدوات التصفية وشريكاً صغيرًا للعدوّ الصهيوني وللنظام الرجعي في الأردن والسعودية ومصر وغيرها.
من هنا يمكن فهم حالة الاستنفار الشعبي في المخيمات الفلسطينية التي بدأت تتحرك على الارض في منتصف التسعينات من القرن الماضي وتتملس موقعها وتطالب بحقوقها ، ان هذا القلق الشعبي عبر عن نفسه من خلال الدعوة إلى تنظيم وعقد مؤتمرات شعبية حاشدة عنوانها حق العودة للاجئين الفلسطينين . بدأت هذه الحراكات الشعبية في مخيمات الضفة تحديدًا (الفارعة والدهيشة وغيرها 1994 و 1995) ثم مخيمات اللاجئين والتجمعات الشعبية الكبيرة على امتداد الوطن وفي المنافي والمهاجر البعيدة..
ومن هنا أيضاً يمكن فهم صعود تيار المقاومة المسلحة، بعد اتفاق أوسلو تحديداً، وكيف اتسعت الحاضنة الشعبية للمقاومة، وكيف اكتشفت الجماهير الشعبية المفقرة انها تعرّضت إلى الخديعة والخيانة الكبرى (أوسلو) ولهذا بالضبط وقفت جماهير شعبنا ضد مشروع التسوية ــ التصفية ــ وفق الشروط الأمريكية الصهيونية ووقفت ضد سياسة الفساد والقمع في وقت واحد. فالشعب الفلسطيني يعرف بحسّه التاريخي وتجربته الكفاحية الطويلة العلاقة الوثيقة بين مواجهة العدو و بين الإصلاح الجذري ومهام تنظيف الجبهة الداخلية الفلسطينية وتأمينها. اذ لا يمكن لشعب ان يستأنف ثورته ونضاله بينما ظهره مكشوفًا في الداخل.
وهذا أيضاً ما يفسر لنا كيف نجحت حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006 ولماذا تنجح قوائمها الطلابية والنقابية في انتخابات مجالس الطلبة وغيرها، بغض النظر عن الموقف من حماس ومن صوابية وخطأ التصور الشعبي عن " البديل المطلوب"، غير أن المهم هنا هو جوهر الموقف الشعبي الفلسطيني، حين يؤكد انحيازه لخيار المقاومة المسلحة، وينحاز لنهج العودة والتحرير وينتصر لبرنامج الإصلاح الداخلي والوحدة الميدانية، وليس الى نهج الفساد والقمع والفشل!.
اجترار مقولات.. واقع جديد:
إن استخدام وإسقاط عبارات مثل "الوحدة الوطنية" و"مرحلة التحرر الوطني" وغيرها من مفاهيم، تساهم في تسويق الوهم حول إمكانية إصلاح العلاقة القائمة اليوم بين قوى المقاومة وبين طبقة السلطة الوكيلة للاحتلال. الحقيقة ان هذا إعادة انتاج للوهم ذاته حول ما يسمى "الانقسام في الساحة الفلسطينية" وسبل الوصول الى تسوّيات داخلية يعتبرها البعض ممكنة. ويريد تيار السلطة أن يقنعنا أن هناك امكانية واقعية لعلاقة وطنية وسوّية بين " أبو مازن " و " أحمد سعدات " مثلا ، كتلك التي كانت قائمة بين ياسر عرفات و جورج حبش في بدايات العمل الفدائي الفلسطيني حتى اجتياح بيروت 1982 . ان هذا الاسقاط هدفه تصوير ما جرى من خيانات وكوارث وجرائم بانها مجرّد خلافات بين وجهتي نظر!
لا يمكن أن يلتقي نهج الثورة والتحرير مع نهج السلطة والفساد والتبرير. لا يلتقي النهج الثوري الديموقراطي مع نهج السجون والتعذيب والتنسيق الامني، هذا مستحيل. ومن يريد وحدة ومصالحة مع سلطة غاشمة كمن يحاول حشر صورة في اطار ( برواز ) ليس لها ـ أو كما يقول ماو تسي تونغ مثل شخص يحاول ان يبري قدميّه لتلائم حذائه !
لقد حسمت البرجوازية الفلسطينية الكبيرة خيارها السياسي وانتهى الأمر. أصبحت تجلس اليوم في حضن معسكر العدو، تتعاون معه اقتصاديًا وأمنيًا وتقدّم تقاريرها للمخابرات الامريكية والاتحاد الأوروبي والكيانات الرجعية المهيمنة على الجامعة العربية وتحرص على سلامة كيانها السياسي ممثلًا في سلطة الحكم الذاتي المسخ وتجتهد في خلق "هوية فلسطينية" شكلانية وفارغة، يهمها الشكل والرمز لا الجوهر والوطن، ولذلك تكثر في الحديث عن "الدولة" و"الاستقلال" و"السيادة" و"القانون" كأنها أنجزت أو تقترب من إنجاز أهداف "المشروع الوطني" وهذا بالضبط هو دورها المحدد المرسوم في مشروع التصفية!
السلطة الفلسطينية هي سلطة طبقة بعينها. ليست سلطة محمود عباس بشخصه. بل بنهجه. وهي تخدم مصالح 1 % من الشعب الفلسطيني كما ان الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعمل لحماية هذه الطبقة ومشروعها ومصالحها وبنوكها وشركاتها ، الهدف تعزيز سيطرة هذه الطبقة على القرار السياسي في منظمة التحرير وكافة المؤسسات الفلسطينية. لذلك فإن الدعم المادي المباشر الذي يؤمن استمرارها يأتي من واشنطن والرياض وبروكسل، برعاية صهيونية مباشرة وعبر قنوات العلاقة القائمة بين معسكر واحد، أطرافه معروفة واضحة، وهو الذي يسعى لتصفية فلسطين، كل فلسطين، القضية والشعب والأرض والحقوق.
إن المعركة التي يجب أن تخوضها المجموعات والتيارات الثورية وطلائع المقاومة الفلسطينية المسلحة وحاضنتها الشعبية الكبيرة، يجب أن ترتكز على مهمة عزل وهزيمة مشروع السلطة الفلسطينية. دفن مرحلة اوسلو، وانطلاقة متجددة للثورة الفلسطينية التي تعتمد حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد لتحقيق مشروع الاكثرية الشعبية في العودة والتحرير الشامل.
خالد بركات
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت