انتهجت الدول الاستعمارية الكبرى في بدايات القرن التاسع عشر سياساتها العدوانية التآمرية للسيطرة على المنطقة العربية ، ونهب وسلب ثرواتها ومواردها وإرادتها وتقسيمها كحصص ومناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا ، وزرع كيان بشري غريب في قلب هذه المنطقة لتجزئة هذه المنطقة ، والوقوف في وجه أي نهوض وتطور فيها ، حيث أصبحت فلسطين من ضمن حصة " بريطانيا " وأصدرت وعدها المشؤوم ( وعد بلفور) والذي ينص على إقامة " وطن قومي لليهود في فلسطين " والذي نادى به نابليون سابقا ، وتعهدت بريطانيا في حينه في تنفيذ هذا الوعد من خلال احتلالها العسكري المباشر لفلسطين ، ووضعتها بعد ذلك تحت الانتداب وإدراج وعد بلفور في إطار الصك لإكسابه قوة وشرعية دولية ، واستخدمت كل الوسائل لتحقيق ذلك عبر تسهيل " الهجرة اليهودية " وتشجيعها وتسريب الأراضي لليهود للسيطرة عليها وتوفير كل أشكال الدعم العسكري من تدريب وسلاح لهم من أجل تعزيز وجودهم وسيطرتهم واتبعت سياسات القمع وبقوة ضد الشعب الفلسطيني في ثوراته وانتفاضاته التي خاضها ، وسياسة " فرق تسد " للمس بالنسيج الاجتماعي والوطني وتفكيكه من أجل تنفيذ " وعد بلفور " الذي أعطى الحق لمن لا يملك لمن لا يستحق ، وهذه السياسات أسهمت في وضع الأسس للمشروع الصهيوني في فلسطين ، وعملت على تثبيت دعائمه إلى قيام هذا الكيان في الرابع عشر من أيار عام 1948 .
تسلمت أمريكا بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية راية الرعاية والدعم لهذا الكيان الغاصب بعد عجز بريطانيا ، والدور الذي لعبه " اللوبي اليهودي " داخل أمريكا وتضمنت البرامج الانتخابية للأحزاب الأمريكية تعهدات بقيام هذا الكيان على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه ، وتجسد ذلك في المؤتمر الذي عقد نيويورك حيث لعبت بريطانيا وأمريكا دوراً في صياغة قرار التقسيم 181 لتثبيت هذا الكيان ، وتم الإعلان عنه وبعد ساعات اعترف به الرئيس الأمريكي ترومان في حينه وعمل على تسهيل الهجرة اليهودية ، وتجسد التحالف الصهيوني الأوروبي الأمريكي من خلال المؤتمر الصهيوني (مؤتمر بالتيمور) الذي انعقد في مدينة نيويورك متعهداً بإنشاء دولة لليهود وتثبيت دعامتها في فلسطين وتشجيع الهجرة إليها بمثابة وعد بلفور آخر .
استندت السياسة الخارجية الأمريكية من خلال رؤساءها وإداراتها المتعاقبة إلى قاعدة أساسية انطلقت منها وهو الالتزام بأمن " إسرائيل " وتفوقها النوعي وتجسد ذلك بتقديم كل أشكال الدعم المالي بمليارات الدولارات والدعم العسكري المتواصل لضمان التفوق العسكري على غيرها من دول المنطقة ، وحماية برنامجها النووي الغير معلن وحمايتها أيضا في المحافل الدولية وغطاء سياسي لها ولسياساتها العنصرية والاستيطانية واستخدام الفيتو عشرات المرات ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن يدين " إسرائيل " والتي اعتبرت الولاية الأمريكية الـ52 وكقاعدة استعمارية متقدمة في عمق الوطن العربي لحماية المصالح الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغاز وغيرها من الثروات ، وتجسيداً للتحالف الاستراتيجي والمصالح الإستراتيجية المشتركة ، والدور الذي يلعبه اللوبي الصهيوني في صياغة القرار الأمريكي ، واستناداً إلى ذلك اتسمت المواقف الأمريكية بالانحياز التام والفاضح لهذا الاحتلال.
وفي تطور لافت على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية منذ تولي إدارة ترامب انتقلت العلاقة من الانحياز الفاضح إلى الشراكة مع الاحتلال وتجسد ذلك من خلال جملة الإجراءات التي أقدمت عليها فيما يتعلق بالملف الفلسطيني والمخالفة للإدارات المتعاقبة و للقانون الدولي واستبدال قرارات الشرعية الدولية بقرارات وتعليمات أمريكية ، بداية تم تشكيل وفد أمريكي صهيوني لإدارة العملية السياسية تبنت الموقف والرواية الإسرائيلية بالكامل فتم اعتماد القدس عاصمة لإسرائيل ، وتم نقل سفارتها بذكرى يوم النكبة ، وهذا له دلالاته ومضامينه وتجفيف مصادر وكالة الغوث لإنهاء دورها كمقدمة لإسقاط وشطب حق العودة وتشريع الاستيطان وإنهاء " حل الدولتين " ، ووقف كل أشكال الدعم عن الشعب الفلسطيني وبما فيها مستشفيات القدس وقرار الكونغرس اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية منظمةُ إرهابية في إطار تجريم النضال الفلسطيني ووسمه بالإرهاب ، وإغلاق مقر تمثيل المنظمة في واشنطن وإغلاق القنصلية ودمجها في السفارة وضمها لهضبة الجولان السوري المحتل ، وتحفيز إسرائيل على ضم الأغوار وشمال البحر الميت والمستوطنات ، والانسحاب من بعض المنظمات الدولية كمجلس حقوق الإنسان واليونسكو وغيرها من السياسات والإجراءات التي تصب في مصلحة الاحتلال ولحمايته.
أردت في هذا المقال أن أركز على جملة من مفاصل ومحطات العلاقة الأميركية - الإسرائيلية وتسليط الضوء عليها وانعكاس ذلك على المواقف الأمريكية التي اتسمت بالانحياز التام والشراكة الكاملة والتي تتبنى فيه سياسات ومخططات الاحتلال .
وكما قال شاعرنا محمود درويش : " أمريكا هي الطاعون " .
الولايات المتحدة تتخبط بسياستها وإجراءاتها المعادية للشعوب وحقها في تقرير المصير ، وكل تلك السياسات والمواقف ستعجل في عزلة الولايات المتحدة دولياً ، فعلينا أن ننتظر تبدلات جوهرية في الخريطة الدولية وموازين القوى وأشكال ومضامين التحالفات القادمة ، فربما نشهد تنقلات جدية في طبيعة النظام الدولي ، فانتظروا .
بقلم : حكم طالب *
كاتب فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت