المحكمة الجنائيّة الدوليّة بين مباشرة التحقيق وثغرات التشويق

بقلم: فؤاد بكر

فؤاد بكر

صدر تقرير المحكمة الجنائية الدولية في 30 نيسان/أبريل 2020 بخصوص أهلية اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الإقليمي على أرض فلسطين، "أي غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية" من منظور المحكمة، بعد أن اقتنعت المدّعية العامة فاتو بنسودا بوجود أساس معقول للبدء بالتحقيق، استناداً إلى المادة 53(1) من نظام روما الأساسي، بعد أن طلبت من الدائرة التمهيدية في المحكمة النظر في نطاق الاختصاص بموجب المادة 19(3)، مع مُراعاة المادتين 19(2) و19(4) من القانون نفسه بخصوص الوضع السليم لإجراء التحقيق. ولكن ما هي الثغرات التي يجب الانتباه إليها في التقرير، رغم جمال سياقه العام، كونه لخدمة الشعب الفلسطيني؟

أجاب تقرير المحكمة الأخير على أسئلة المشاركين والمُقدّمين آراءهم منذ شهر آذار/مارس الماضي حول نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الإقليمي في أرض فلسطين، إذ أشار إلى أنه بموجب المادة 12(2) من نظام روما الأساسي، يجوز ممارسة المحكمة الاختصاص الإقليمي على أرض فلسطين، (أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزَّة).

إن من أهم الأسئلة التي طرحها مُقدّمو التقارير إلى المحكمة الجنائية الدولية هي انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي، لكونها تغيب عنها صفة الدولة كاملة العضوية في القانون الدولي.

وقد أجابت المدّعية العامة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تنظر إلى أهلية الدولة لإمضاء النظام الأساسي، لأنه ليس من مهمتها، بل هو مهمة الدول الأطراف للنظام الأساسي، وأن المحكمة الجنائية الدولية ليست مسؤولة عن ذلك.

 وبما أنه إلى الآن لم تتقدّم أية دولة طرف بطلب اعتراض على انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية ونظامها الأساسي، فلا تستطيع المحكمة معارضة فلسطين على الانضمام، استناداً إلى المادة 77 من اتفاقية فيينا، التي تنصّ على أنه يحق لكل دولة تقديم اعتراض على إيداع صكّ الانضمام إلى أي معاهدة أو اتفاقية للكيانات.

بعد تقديم هذا الرد، انحدرت الحجّة أمام الشكوك حول آلية انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واعتبرت المدّعية العامة فاتو بنسودا أنه إذا تمّت الشكوك بانضمام أية دولة طرف، وقدّمت دولة أخرى طرف الطعن في مصداقية الانضمام، فتقوم الأجهزة المُختصّة في المحكمة الجنائية الدولية بإبراز مُستنداتها، وإذا كانت كاملة ومُطابقة للقوانين، لا تعود الدولة مُقدّمة الطعن دولة طرفاً في نظام روما الأساسي.

بقيت المسألة الثانية، ألا وهي الجَدَل حول ما إذا كانت فلسطين كياناً أم دولة. يُجيب مكتب المدّعية العامة على هذه المسألة بوضوحٍ تام، بأن فلسطين دولة غير مُكتمِلة العضوية في الأمم المتحدة، وعارضت المعايير التي وضعها مونتيفيديو في ما يخصّ السيادة والاستقلال، إذ أشار إلى أن معايير منتيفيديو غير ثابتة ومُتقلّبة بين حين وآخر، ولا ينبغي أن تقتصر الدولة على مُجرّد تقييم تجريبي لوجود عامل الاحتلال على أرضها، إذ اعتبر أن السيادة لا تقع على الدولة المُسيطرة، بل تقع عليها السيادة العكسية، ثم إن آخر مَن اعترف بسيادة فلسطين هو الإمبراطورية العثمانية، التي أعطت الانتداب الحق في التصرّف بمعاهدة لوزان في العام 1923، حيث كانت السيادة مُلْحَقة بالدولة التي كانت تملك الأراضي قبل الانتداب. وقد تحوّل الكلام اليوم من البحث في السيادة الفلسطينية إلى حقوق الإنسان في الاحتلال الإسرائيلي.

أشارت المدّعية العامة إلى أنّ الأرض الفلسطينية ليست أرضاً من لا شيء، بل هي خالية من سيادة دولة أخرى، وأن فلسطين كانت تمتلك السيادة قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، ثم علّقت السيادة على أراضيها لفترةٍ من الزمن، ولم تلغ سيادتها، وأن ما نتج من ذلك الإهمال هو تقاعس المجتمع الدولي عن تطبيق القوانين الدولية وإقرار الحقوق للشعب الفلسطيني حول تقرير المصير.

ولا بد من الاعتراف بأن هناك ما يزيد على 138 دولة اعترفت بالدولة الفلسطينية، ويجب أن يُعطى هذا الوزن قيمته في العلاقات الدبلوماسية والدولية، إلا أن أبرز ما يوضح ذلك المِنَح الدراسية المُعطاة إلى الشعب الفلسطيني، وعلى نطاق واسع من الأراضي الفلسطينية، فهي ليست إلا دليلاً واعترافاً غير مباشر بالدولة الفلسطينية.

ولكن الثغرات الموجودة في هذا التقرير هي ما أشارت إليه المدّعية العامة فاتو بنسودا بأن اتفاقية أوسلو هي التي حفظت حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وبموجبها سمح لفلسطين بالانضمام إلى نظام روما الأساسي.

الرد على ذلك بسيط جداً، ألا وهو أن أوسلو هي التي زادت عملية المستوطنات الإسرائيلية، ولولاها لم نكن اليوم أمام المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المُرتَكَبة بسبب اتفاقية أوسلو.

فلو لم تكن أوسلو لما توسّعت المستوطنات الإسرائيلية بهذه الدرجة، بل كان الاحتلال الإسرائيلي ليتقيّد باتفاقية جنيف الرابعة لحقوق الإنسان، من ناحية حماية المدنيين في الأراضي المحتلة، ويتحمّل مسؤوليّته الكاملة عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي يواجهها الشعب الفلسطيني. وقد اعتبرت فاتو بنسودا أن اتفاقية أوسلو لم تمنع المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة اختصاصها الإقليمي.

يبقى الموضوع الأهم، وهو غموض الأراضي في التحقيق. ففي الشكل العام، ستباشر المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في أرض فلسطين، بما فيها الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزَّة، باستثناء المناطق الاقتصادية الخالصة التي لم تدخل ضمن اختصاصها. ولم تشر المحكمة إلى هذه الأراضي، ولم تعلن عنها علانية كاملة، ولم تحدّدها، بل جاء النص المُتحدّث عنها مُخبَّأ بين النصوص في جملةٍ عابِرة قد لا يقف عندها قارئ ولا ينتبه إليها إلا مُدقّق.

نطالب الحكومة الفلسطينية، ووزارة الخارجية الفلسطينية خصوصاً، بتوضيح المناطق الاقتصادية الخالصة التي لن تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، والتي تحدّثت عنها.

وأخيراً، أنتظر ردّ جواب المحكمة الجنائية الدولية عن هذا الاستفسار، بعد أن قدّمت لها تقريراً يُبين هذه المسألة، طالباً شرحاً وجيزاً مفصلاً لها. من المعتاد أن هذه الأجوبة تطول وتستغرق يومين بالحد الأدنى، ولكن جائِحة كورونا تزيد من أيام انتظار الجواب، نظراً إلى تعطيل أجهزة المحكمة الجنائية الدولية بسبب الوباء المُنتشِر.

فؤاد بكر

قاضي في المحكمة الدولية لتسوية المنازعات

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت