اعتادت واشنطن منذ زمن بعيد أن تعظ الآخرين بشأن حقوق الإنسان، لكن الاحتجاجات الحاشدة الأخيرة التي تجتاح شوارع الولايات المتحدة ضد التمييز العنصري ووحشية الشرطة، ومرض فيروس كورونا الجديد الذي يعصف بالبلاد، كانا بمثابة لطمة على وجه هذا البلد الذي ادعى كونه راعيا لحقوق الإنسان.
إن وفاة جورج فلويد المأساوية ليست سوى قمة الجبل الجليدي من انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل الأمريكي، لا سيما ما يُمارس ضد مجموعات الأقلية.
وعلى مدى العقود الماضية، سار سجل حقوق الإنسان في أمريكا من سيء إلى أسوأ بسبب سياسة التمييز العنصري المتواصلة، وتنامي التجاوزات في عملية إنفاذ القانون، وتفشي العنف المسلح، وتزايد فجوة الثروة اتساعا.
وفي كل أنحاء أمريكا خلال الوقت الراهن، يواجه الأمريكيون الأفارقة مخاطر أعلى بشأن الموت على أيدي عناصر الشرطة، بسبب لون بشرتهم. وتقول (مابينج بوليس فيلنس)، جماعة بحوث ودعوة، إن احتمالية مقتل الأمريكيين السود على أيدي رجال الشرطة تبلغ 2.5 ضعف احتمالية حدوث ذلك بالنسبة للأمريكيين البيض.
وفي جميع أنحاء أمريكا خلال الوقت الراهن، تفوق احتمالية وفاة الأفراد الملونين جراء مرض كوفيد-19 المتفشي بالبلاد، احتمالية ذلك بالنسبة للسكان البيض. وكشف مختبر أبحاث وسائل الإعلام العامة الأمريكية (ايه بي ام)، وهو مؤسسة غير حزبية، عن أن الأمريكيين الأفارقة يموتون بمعدل يبلغ 50.3 لكل 100 ألف شخص، مقارنة بـ20.7 للبيض.
وفي جميع أنحاء أمريكا اليوم، لا تزال الفرص المتساوية في الحصول على الوظائف غير متاحة للأقليات المحصورة في وظائف متدنية الأجور. ويمثل هؤلاء 58 بالمئة من العمال الزراعيين، و70 بالمئة من الخادمات ومدبرات المنازل، و74 بالمئة من حراس العقارات وحُمال الأمتعة، وذلك وفقا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي.
والحقيقة هي أن تلك مشكلات عويصة، وذلك بسبب مجموعة متنوعة من الأسباب، بينها تزايد الاستقطاب السياسي في البلاد. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن السياسيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، قد فقدوا الحافز والحكمة والقدرة على تجاوز الانقسام الحزبي وإحداث تغيير من أجل تحقيق الأفضل. ومما يعقد الأمر أن البيت الأبيض ذاته زاد الأمور سوءا.
ففي الوقت الذي يواصل فيه المحتجون الغاضبون الهتاف بشعارات مثل "حياة السود مهمة" و"لا أستطيع التنفس" في أكثر من 40 مدينة بالولايات المتحدة، اختارت الإدارة الحالية ألا تتواصل مع المتظاهرين، واكتفت باستعراض قوتها عبر تهديدات تزيد الموقف التهابا.
والمثير للسخرية هو أن ساسة واشنطن الذين يتعهدون بالرد بقوة على المحتجين، هم أنفسهم الذين علت أصواتهم تتهم شرطة هونغ كونغ بانتهاك حقوق الإنسان وهي تؤدي واجبها في منع مثيري الشغب المقنعين من سد الطرق وتخريب الممتلكات العامة والخاصة في المدينة الصينية.
وفضلا عن ذلك، كانت استجابة البيت الأبيض لمرض كوفيد-19 كارثة أخرى في مجال حقوق الإنسان. وتتصدر الولايات المتحدة دول العالم في الوقت الراهن بالنسبة لعدد الإصابات والوفيات.
إن سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان ليس فقط مشينا في الداخل، ولكنه أيضا مروع في الخارج.
لقد ارتكبت الولايات المتحدة كارثة تلو الأخرى في مجال حقوق الإنسان، في جميع أنحاء العالم خلال السنوات الأخيرة، فقد أسقطت نظام الحكم في العراق وقصفت المدنيين في سوريا، تحت ذريعة تعزيز ما تسميه واشنطن بالحرية والديمقراطية. ولقد قامت واشنطن بترحيل الآباء المهاجرين واحتجزت أطفالهم في الوقت ذاته.
ورفضت الولايات المتحدة رفع العقوبات الأحادية عن كوبا وإيران، مقوضة قدرة البلدين على مكافحة كوفيد-19.
إن أكثر الدول انتهاكا لحقوق الإنسان في العالم هي الولايات المتحدة، دون شك.
ورغم ذلك، واصل بعض الساسة في واشنطن، في سعيهم بدم بارد نحو فرض الهيمنة على العالم، استغلال حقوق الإنسان أداة سياسية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وخلق مزيد من الفوضى، وزعزعة الاستقرار في عالم تتزايد أزماته وتحدياته.
لقد كتب جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، ذات مرة يقول إن "حضن الولايات المتحدة ليس مفتوحا فقط لضم الغرباء الأثرياء وذوي الشأن، ولكنه مفتوح أيضا للمضطهدين والمظلومين في جميع الدول والأديان".
ولو كان جورج واشنطن يعيش بيننا الآن، لشعر بعميق الأسى نحو بلاده التي، بدلا من أن ترعى المضطهدين والمظلومين، أصبحت تتنمر ضد شعبها وضد شعوب العالم أجمع. يتعين على الإدارة الأمريكية الحالية والإدارات التي ستليها، الاطلاع مجددا على تعاليم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، فربما يتعلمون منهم شيئا.