- أسامة نجاتي سدر
كان حصانه يتعثر بالصخور ورأسه يلامس الأشجار اليابسة، وعينه لا ترى ما تستريح إليه ونفسه مضطربة وقلبه حزين، فإذا هو يعبر بوابةً كبيرة ليرى الأفق قد ظهر واخضرّت الأرض، والسماء أصبحت صافية والبهجة ملأت نفسه، وبدأ يتأمل المكان ويسعد بهذا الجمال فإذا بصوت يوقظه ويقطع عليه متعته، ومع النهاية الجميلة إلا أن تكرار الحلم أرّقه وتفسيره حيره.
كان الصوت هو داعي الواجب للخروج لملاقاة محمد وأصحابه فهم خرجوا لزيارة البيت الحرام كما يدّعون، وتتابع سفراء قريش وساداتها إليهم ليردوهم عنه؛ فما كان لهم أن يدخلوا مكة وهم يكفرون باللات والعزى ومناة وكافة آلهة قريش والعرب؛ وهو خالد بن الوليد صاحب الحرب وخازن أسلحتهم والقائد الذي لا يشق له غبار، خرج ومعه مئتي فارس مدججين بالسلاح ومن خلفهم الأحابيش (حلفاء قريش وجيرانها)، فوصل إليهم وهم يصلّون الظهر فراقبهم إلى أن انتهوا وقرر بأن الهجوم عليهم وهم يصلّون سيقضي عليهم قبل أن يستلوا سيوفهم ويحضّروا أقواسهم ويرفعوا الدروع، ولكنه لم ير تلك الأسلحة والدروع؛ هم لا يحملون إلا السيوف في أغمادها وكأنهم يستهينون بفرسان قريش وجنودها، أم أنهم يعظمون شعائر الله ويحفظون لمكة هيبتها.
وجاء موعد صلاة العصر فإذا بهم يتناوبون على الصلاة خلف محمد ويبقون على حذر فلا يمكن أن يباغتهم كما كان يخطط فقال لمن حوله: "إن القوم ممنوعون"، وجاء الأمر بعودة الفرسان دون قتال، فإذا قريش عقدت مع محمد حلفا يمنعون به الحرب عشر سنين وأن من يأتي المدينة مسلما يردّوه لمكة ومن يعود عن إسلامه ويفر لمكة يتركوه، ومرت الأيام وإذ بما ظنه أهل مكة ذلا للمسلمين ينقلب فتحاً إذ أصبح الفارّون من مكة يلجؤون إلى الجبال ويهاجمون قوافلهم، ولما اشتد النقاش بين زعماء مكة وخالد صامت قام فقال: "لقد استبان لكل ذي عقل أن محمد ليس بساحر ولا شاعر وأن كلامه من كلام رب العالمين"، هبط كلامه على أبي سفيان كالصاعقة وكأنما سقط آخر درعٍ للشرك، فقام وكاد أن يضربه ليتلقى صفعة أقوى من عكرمة بن أبي جهل: "مهلا يا أبا سفيان، فوالله خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه؛ أنتم تقتلون خالدا على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم".
وحلّ حول على اتفاق قريش مع محمد وها هو يشد الرحال نحو مكة معتمرا مرة أخرى، وسادة مكة يُخرجون أهلها منها ربما ليحافظوا على آخر أتباعهم وبقايا كرامتهم، ولربما أسرّ خالد لبعض أصحابه بأنه يتمنى أن يعود معهم إلى المدينة لكن مكة تعزُّ عليه، وعاد محمد إلى المدينة تاركا وراءه رسالة كتبها الوليد بن الوليد أخو خالد: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول الله عنك
وقال: "أين خالد؟" فقلت:" يأتي الله به" فقال: "مثله جهل الإسلام؟! ولو كان جعل نكايته وجَدّهُ مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له، ولقدّمناه على غيره"، فاستدرك يا أخي ما فاتك من مواطن صالحة".
انكسر آخر حاجز بين خالد والإسلام وأصبحت المدينة أقرب لقلبه من سواها، واشتاقت نفسه لصحبه من المسلمين ولرسول الله الذي عرفه منذ صباه وسمع عن صدقه وأمانته، ولقد استمع لشهادة والده في بداية الدعوة حين قال عن القرآن: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإِنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لُمْثمِر، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه".
بل لابد بأنه سمع عن حوار والده مع أبي جهل في الكعبة:
الوليد: ماذا ترى في شأن محمد ودعوته.
أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق!
الوليد: وكيف ذلك لا أبا لك؟؟
أبو جهل: كنا في صباه نسميه الصادق الأمين؛ أبعد أن تم عقله وكمل رشده نسميه الكاذب الخائن.
الوليد: فما يمنعك من الإيمان به؟ أبو جهل: تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، فأطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟، واللات والعزى لا نتبعه أبدا حتى لا تقول بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة.
فهو الرجوع للحق والرضوخ لأمر الله واللحاق بما فاته من نصرة الله ورسوله، ولعله يصطحب معه من يفرح بإسلامه النبي ويخفف عليه رهبة اللقاء معه، فمر على أصحابه وبدأ بصفوان بن أمية فقال:" يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن أكلة رأس، والأرض تتناقص من حول قريش فلو قدمنا على محمد فاتبعناه" فأبى صفوان
وقال: " لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته"، وطمع خالد بمرافقة عكرمة بن عمه فأبى هو الآخر، وفاز بصحبته عثمان بن طلحة رضي الله عنهما، وفي الطريق وجدا عمرو بن العاص هداه الله وخرج مهاجرا.
وتحادث الثلاثة عما دعاهم للإسلام بعد أن كانوا ممن يستهزؤون به ويعادون نبيه، وتساءلوا بينهم إن كان النبي سيغفر لهم ذلك، لكنهم كانوا مصرين على استدراك ما فاتهم وواثقون بأن الغلبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ودخل خالد على رسول الله: - السلام عليك يا نبي الله. (يتهلل وجه النبي ويسعد بقدومه) - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأبايعك على السمع والطاعة ما دمت حيا.
- قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير.
- استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله.
- إن الإسلام يجب ما قبله، غفر الله لكم.
وأدار النبي وجهه لأصحابه قائلا: "لقد ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها" ونصر الله الإسلام بخالد وسله سيفا على رقاب أعدائه وما كان ليغمده إلا هو جل جلاله.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت