عزيري حسن، أعذرني، الخالصة مرّة أخرى!!!
اقتربنا من الخالصة على طرق صغيرة إلى حد ما في منطقة زراعية. هنا منحدرات نهر سهل الحولة. أتخيل عائلة حمد قبل عام 1948، أقاربي الفلسطينيين، مع القرويين الآخرين، الفلاحين، وهم يرعون مع أسرهم. أخبروني عن الحياة قبل أن يضطروا لترك كل شيء. لقد قاموا بزراعة الحقول وحصاد الحبوب ورعي الماعز وقطف الزيتون والبرتقال والليمون والبرتقال الذهبي والتبغ واللوز وما إلى ذلك.
أغلقت العائلات المنازل وأخذت معها المفاتيح – لقد رأيتها بأم عيني في تل الزعتر. ظنوا أنهم غادروا فقط لإنقاذ حياتهم أثناء الاشتباكات، لكن إسرائيل وضعت القوانين التي منعتهم من العودة.
عندما قُتل يوسف بجانبي في تلك الليلة، 22 يونيو 1976، بصاروخ أصاب منزل العائلة، خاطروا بحياتهم لمساعدتي على البقاء. دخل الجيش السوري لبنان بناءً على طلب من الحكومة. عزز ذلك الحصار الكتائبي حول تل الزعتر و قدم الدعم لهم ولحلفائهم. كنت "أنا ويوسف" نائمين عندما أيقظني الانفجار الصاروخي. حاولت إيقاظ يوسف لكنه كان صامتًا بجانبي على الفراش. حاولت أن أقف، كان ذلك مستحيلاً. كان القصف متواصلاً، لكنهم اعتنوا بي، وضمدوا جروحي الكبيرة وأعطوني الطعام والشراب بانتظام.
شكر خاص لنوفا، بوركت، لقد قررت البقاء بجانبي. أنقذت حياتي بفعل ذلك. خاطرت هي وكثير منهم بحياتهم في جمع المياه من الأحواض المدمرة. دمر القصف كل شيء في المخيم ببطء. كانت الأحواض الصغيرة هي أوردتنا الهشة. أصيبت بالرصاص أو انفجارات القنابل اليدوية التي انفجرت بها وكان الماء يسيل منها ولا مجال للسيطرة عليه.
كان من العار في تل الزعتر ترك المياه تجري بهذه الطريقة. لقد وفر الجميع الماء قبل الحرب. لم يكن لدى الجميع انابيب تنقل المياه الى المنزل. تم نقل العديد من البراميل على الرأس من أماكن مائية معينة إلى المنزل لتلبية الاحتياجات اليومية للعائلة الكبيرة. الطبخ والغسيل والاستحمام والحفاظ على نظافة المنزل. لقد كان عملاً شاقًا للنساء والفتيات. كان لدينا في منزلنا حوض في المطبخ والحمام، وقريب جدًا من المدخل. في العيادة، حيث عملت، لم تكن المياه مشكلة بالنسبة لنا بشكل مباشر. (هكذا كان الوضع قبل الحصار والحرب). أثناء العمل كممرضة، لم يكن علي أن أقلق بشأن المياه، لكنني تعلمت التوفير والحرص على عدم إضاعة قطرة. لم أفكر، قبل الحصار والقصف، بأن إمدادات المياه إلى المخيم كانت منظمة من منطقة بيروت المجاورة "سن الفيل". وهذا يعني أن المياه، خلال الحصار، قطعت على أساس يومي لعدة ساعات من قبل عدونا، عندما قامت الميليشيات الفلانجية بتشغيلها، في المساء، أحضر الناس براميل بلاستيكية وأي دلاء توفرت، وكانوا يضطرون لعبور المنازل التي قصفت في شوارع ضيقة مدمرة للوصول إلى الزوايا حيث غمرت المياه المنقذة للحياة.
في تلك الساعات كان الجميع أيضًا هدفاً للقناصين على أسطح المباني العليا التابعة للمنطقة اللبنانية المارونية حول المخيم. لقد كان من الخطر المميت أن تذهب إلى الماء؛ فقد تصاب بشظايا صاروخ. كانت المياه "قيد التشغيل" بشكل أساسي فقط في الليل، ساعد ضوء القمر القناصين أحيانًا، فكانوا احيانا يرسلون صواريخ خفيفة ليصيبوا بشكل "أفضل".
مات الكثير خلال تلك المهمة – مهمة جلب الماء لأشخاص مثلي والمصابين والمرضى وغيرهم ممن لم يتمكنوا من الذهاب. عمل "الجسم البشري" الجماعي لصالح كل المحتاجين. كان حزني كبيرًا جدًا، وبعد أن فقدت حملي (حمل سبعة شهور - كان ولدا) لم أكن أهتم كثيرًا بالنضال من أجل حياتي ولكن جاء الكثيرون إلى سريري وقالوا: يجب أن تعيشي، إذا تحدثت عن تل الزعتر في السويد / أوروبا في العالم الغربي، سيصدقونك. إذا شهدنا، نحن الفلسطينيون - سيقولون علينا "إرهابيين" ويقولون إننا نكذب.
قد تقول الآن: "لماذا كل هذا الكلام عن تل الزعتر"?. كنا في حيفا، في جولة في الجليل، توقفنا في الخالصة عندما تداعى كل ذلك. أنا أخشى العودة إلى الأفكار حول القصف، الانفجارات، أصوات القذائف، صيحات الناس الذين يموتون، صرخات أقارب يفقدون طفلًا محبوبًا آخر، زوجا، زوجة، والدا، عمّة، عمّا، إلخ. رائحة الموت، فقدان الحمل أثناء القصف، الأفكار المفجعة حول كيفية دفن جثمان يوسف وابننا المتوقع للتو في مكان ما من الأرض، أثناء القصف.
هناك أناس لم يتم العثور على جثثهم مرة أخرى ولم يتم وضعهم في قبر مناسب. أنا واحد من كل الأشخاص الذين مروا بهذه التجربة في تل الزعتر. إنه جرح آخر فينا، الناجين والأرواح والأجساد. كنا على الأقل 25000 نعيش هناك.
لقد التقطت صوراً، غادرنا المدينة اليهودية الآن وعدنا إلى حيفا. لقد كان يوما ثقيلا بالنسبة لي شخصياً وبالتأكيد لك ولفؤاد. رحلة طويلة في الضباب الرمادي الممطر. أتساءل ما هو رأيك عندما تسافر مثل هذه الرحلة، وترى فلسطين السابقة على شكل إسرائيل. لقد أخبرتنا القليل من ذكرياتك من القرى والمدن والأماكن في المنطقة. قصص من الأقارب الأكبر سنا، الاحتلال مع القواعد العسكرية، جوازات السفر الإسرائيلية تجعلكم مواطنين ذوي تأثير سياسي وعملي أقل من الوافدين الجدد، السكان اليهود. كيف تشعر حقا؟ ماذا تشعر حول قانون القوميّة منذ أكثر من نصف عام؟ لم تعد اللغة العربية لغة رسمية بعد الآن. أخبرتنا سميرة عن عيادتها في المستشفى، ولا يجوز لها التحدث باللغة العربية للمرضى العرب. يقول قانون القوميّة أنه يجب التحدث بالعبرية في كل مكان عمل. لاحظنا ذلك في المجتمع. كل يوم أمضيناه معكم أدركنا بعض الجوانب الجديدة والسيئة والحزينة للفلسطينيين منذ عام 1948.
كنا سعداء في ذلك المساء لكوننا مع أصدقائك في بيتكم.
عزيزتي سميرة، لقد قمت بإعداد وجبة لن ننساها أبدًا! كنتِ أنت الشيف! طعام فلسطيني رائع ولذيذ. منسف، كُبّة، معجّنات، توابل، تبولة، حمص، متبّل، تحلاية. كان كل شيء! ممممم!
مساء جميل - شكرا جزيلا! نبيذ فلسطيني جيد ومميز أيضًا، لا ينسى!
سميرة حمد(إيڤا شتّال)
(الحلقة الخامسة)
*** هذه الحلقة الخامسة من انطباعات الزعتريّة سميرة (إيڤا) حمد(شتّال)؛ من مواليد 1948 في مدينة جوتنبورج السويديّة، درست التمريض وبفضل نشاطها التحقت عام 1974 بالعمل التطوّعي في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، تزوّجت من يوسف حمد، الناشط السياسي، ابن قرية الخالصة شمال فلسطين، الذي استشهد خلال القصف على مخيّم تل الزعتر جراء قذيفة هاون أدّت بالوقت نفسه إلى إصابتها بجروح بالغة، نتج عنها بتر ذراعها الأيمن وكسور في الفخذ الأيسر. بعدها بأيام فقدت الجنين في شهرها الرابع. رفضت سميرة، رغم إصابتها، مغادرة المخيّم المُحاصَر رغم جهود الحكومة السويديةّ في العمل على إخلائها عن طريق الصليب الأحمر الدولي، أصرّت على أن تُقاسم الأهالي مصيرهم. عند خروجها عادت إلى السويد وأكملت علاجها ونشاطها في المجال الصحي، مساعدة أطفال اللاجئين القادمين من مناطق القتال ومساعدة النساء، ما زالت مرتبطة بمساعدة أطفال اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات لبنان، وما زالت تحمل رسالة المخيّم عبر البحار.
*** شكرًا للأديب الفلسطيني إياد شماسنة على ترجمة الرسالة من الإنجليزيّة للعربيّة.
*** تُنشر تزامنًا مع نشرها في صحيفة "المدينة" الحيفاويّة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت