- د. طلال الشريف
حالة التوازن أو الإتزان الإجتماعي في مجتمعنا الفلسطيني الغزي مبنية على ثلاثة قواعد:
1- الوضع الإقتصادي
2- الفخر الوطني
-3 الوازع الدين
وهي بالمناسبة ، تشكل كل قاعدة منها، جدار حماية للشخصية الفلسطينية الغزاوية . أي أن الشخصية الغزية محمية بثلاث جدر حماية من الأخطار الإجتماعية أو الأمراض الإجتماعية.
والقواعد الثلاث هي "سياسة" أو تتداخل بها السياسة بشكل فج، وبكل معنى الكلمة، ولذلك الغزيون مجبولون بالسياسة وهمومها ومشاكلها، وليس لديهم أمراض تسمى أمراض نفسية، بل لديهم أمراض سياسية أو إجتماعية.
أنا شخصياً، لا، أؤمن، بالمرض النفسي، مهما، قيل عنه، وتوسعت مراجعه ومؤلفاته، فهو خيال في عقول الفلاسفة، ورجال الدين، لكن هناك مرض عقلي محسوس، نعم، له علاقة تشريحية وفسيولوجية وظيفية، هرمونية أو إنزيمية، والفارق بين الإثنين كبير.
الأهم مما يسمى بالمرض النفسي، وكذلك المرض العقلي، هو التوازن أو الإتزان الإجتماعي، الذي عندما تهتز، أو، تضطرب، قواعد بنائه، يحدث خطراً على الذات، وعلى المجموع.
إن أي خلل في إحدى تلك القواعد الثلاث، أو، جدران الحماية الثلاث، يحدث إضطراباً إجتماعياً ما، وتتضاعف خطورة الإضطراب بتتابع إهتزاز قواعد الإتزان الثلاث.
تعالوا نرى لماذا ينتحر الشباب من سن 18 حتى سن 40 في قطاع غزة؟؟ *
وللعلم أن محاولات الإنتحار كما سجلت الإحصائيات أكثر ب50 ضعف من قضوا بالانتحار وهذا مؤشر أخطر من الوفيات بالإنتحار
1- الوضع الإقتصادي أو جدار الحماية الأول:
الإقتصاد في قطاع غزة ليس له ملامح، أي ليس معروف المصادر وأوجه الصرف، وهو متعدد المصادر، ولا تحكمه حكومة مركزية لنظام دولة مستقر يمكن أن ترسم له الخطط وينشأ منه، أمن إقتصادي للمواطنين، والقطاع غير مستقر أصلاً أمنياً، أي تحت التهديد الدائم، بسبب الحصار والحروب والإشتباكات المتكررة، ولا يستطيع أحد التخطيط لمدة أسبوع، أو، شهر، ولذلك أكثر المتضررين من هذه الحالة هو المواطن وهذا مازاد شريحة الفقر والبطالة والعوز، في وقت تحاول سلطة حماس أن تتدبر دخلها بكل الطرق وجباية ما تستطيع من جيوب الناس، الذين أصبحوا واقعين تحت ضغط تجفيف الرواتب والخدمات من حصار إسرائيل ورام الله، لتدفعهم سياسيا لمواجهة حماس طوال 13 عاما، أو، عقابا لهم أيضا على خلفية مناطقية استلبست عقل الرئيس عباس وفريقه الحاكم في رام الله بداية بالتصدي لحماس وثانيا بالتصدي لفتحاويين معارضين للرئيس، أي هي سياسة فوق السياسة، وقطع الرزاتب والتقاعد المبكر، ما أصاب المجتمع الغزي بأمراض إجتماعية نتيجة إهتزاز الوضع الإقتصادي الذي نتجت عنه نسب البطالة المرتفعة جدا وتتراوح بين 50% - 70%، حاول شباب القطاع التمرد على تلك الحالة بحراكاتهم التي قمعتها حماس بشدة وبقبضة حديدية، دون إصلاح لنسب البطالة والفقر ناهيك عن الإعتقالات والإستدعاءات المستمرة لأجهزة الأمن للمواطنين والناشطين، ودون إستحابة لمطالب الشباب لإصلاح أوضاعهم الإقتصادية أو توفير فرص عمل للخريجين بمئات الآلاف، فهاجر البعض، وتضاعفت أحوال الباقين سوءاً وأغلقت أبواب الرزق والزواج في وجوههم، وحتى فرص العمل المتوفرة لدى سلطة حماس يستولون عليها لأتباعهم وبعض فرص عمل من رام الله لأتباع الرئيس وخدامهم السياسيين...
""ونتيجة كل ذلك سقط الجدار الأول، جدار الحماية الإقتصادي عن الشخصية الغزاوية""
2- الفخر الوطني أي جدار الحماية الثاني للشخصية الغزاوية:
مع ظهور التمييز في الوظائف والمنافع والعطاءات والهبات والولاءات والمساعدات منذ نشأة السلطة الوطنية لصالح أعضاء حركة فتح وتوزيع الأراضي والمنشآت والمنازل والسيارات والإعفاءات وانتقال الحالة السلطوية والفتحاوية للصراعات و المكاسب وتآكل هيبة السلطة بتقارير الفساد الدولية مثل تقرير روكار وفساد الحكم والواسطة والمحسوبية بدأ الفخر الوطني يتراجع رويدا رويدا في أذذهان المواطنين وبانقلاب حماس واستيلائها على السطة في غزة بالقوة رغم فوزها في الانتخابات ديمقراطيا وبدل استخدام الطرق الديمقراطية التي فازت على أساسها و بإستخدم القوة وسلاح المقاومة لطرد السلطة الوطنية من قطاع غزة تفاقمت الأوضاع كلها وإنكسر جدار الحماية الوطني كاملا على تلك الخلفيات وأهمها ظهور الوطنية الفلسطينية بالضعف والفساد مضافاً لها تساوق السلطة مع التنسيق الأمني وعدم وفاء الجانب الإسرائيلي ببنود إتفاق أوسلو، وطغيان مصالح الطبقة الحاكمة على مصالح المواطنين إنقرضت الهالة القدسية في ذهن الجمهور عن مناضلي الأمس ووجدوا أن المصالح الذاتية لأفراد وقادة السلطة قد طغت على قضية الوطن، فتآكل جدار الحماية الوطني في الأذهان، وانكسر تماما بعد الإنقلاب الحمساوي عندما أدرك الناس أن الصراع بين المناضلين والمقاومين أصبح على السلطة وليس على القضية الوطنية،
"ونتيحة ذلك إكتمل سقوط الجدار الثاني عن الشخصية الغزاوية، وهو جدار الحماية الوطني من عقل وأذهان الناس""
3- الوازع الديني
وهو جدار الحماية الثالث للشخصية الغزاوية:
في انتخابات 2006 هرع المواطنين الحمساويين ومستقلين وفتحاويين لصناديق الإقتراع ومنحوا حركة حماس أصواتهم لتفوز بالأغلبية وكان حسب تقديرات اللحظة الإنتخابية ونظام الإنتخابات المختلط الدوائر والقوائم بأن ثلث أصوات حماس كانت من خارج حماس والمتدينين أي من فتح والمستقلين وهماً منهم أن حماس الإصلاح والتغيير ستمنع الفساد والمحسوبية وعيوب سلطة فتح التي ملها الجمهور، وازدحمت المساجد شيئاُ فشيئا، وإنتعشت الروح الديتية في أذهان وسلوكيات غير الحمساويين وحتى استبدل غالبية من سكان قطاع غزة الأغاني بالقرآن الكريم والحفلات الإسلامية ورنات الجوالات بالآذان وانتشرت مصطلحاتهم في الحديث بين الناس، وامتد ذلك لفترة محدودة أخذت حماس تستخدم قبضتها الحديدة نحو الجمهور وبدأت التوظيفات يحدث بها تمييز خارق لصالح الإسلاميين وكذلك المشاريع التجارية وتجارة الأنفاق وبدأت تظهر علامات الثراء على الحمساويين بامتلاكهم للدورة الإقتصادية للقطاع وإحتكار المصارف والأراضي والعقارات والتجارة والمساعدات والإستثمار في كل شيء لطبقة الإسلاميين في تمييز مشابه لتمييز الفتحاويين في البدء وبطريقة أكثر شراسة من السلطة الاولى واكتشف الناس إنتهازية الاسلاميين ودعواتهم السابقة للتقشف وحب الحياة الآخرة ووجدوهم يعملون في التحارة والأموال وجمع الثروات ويخرجون من يعارضهم من الناس من الجنة ويكفرون مناويئيهم، ويمنحون صكوك الغفران لجماعتهم، وبدأ تراجع الناس عما كانوا بدأوا به للتحول نحو التدين وغادروا المساجد في تلك الفترة ورأووا علمانية الحمساويين الأكثر جشعا وتمييزا من الوطنيين،، وأنهم أيضا طلاب دنيا، فتآكل الوازع الديني في أذهان الناس وكرهوا حماس رغم تدين الناس المعتدل في الأصل، الذي عادوا إليه، وبحثهم من جديد عن وطنيتهم، ولكن، هيهات، فقد تفاقمت مشاكل الفتحاويين في داخل تنظيمهم، وانقسموا فريقين، وزادت العقوبات على الفتحاويين في غزة من قبل رام الله، واستمر وضع الناس وفقرهم بإزدياد، وتمكنت الراحة والأموال والمنافع من الحمساويين.
""فإنكسر في ذهن الناس جدار الحماية الثالث للشخصية الغزاوية أي جدار الحماية الديني""
الخلاصة:
هكذا يعيش أهل غزة كالريشة في الهواء، لا جدار حماية إقتصادي، ولا جدار حماية وطني، ولا جدار حماية ديني، فكلها تكسرت بسلوك أصحابها، وتشكلت الشخصية المهتزة في المجتمع الغزي الطبقي بالفعل الآن بفعل السياسيين ، تلك الحالة القابلة ليس للإنتحار فقط بل لإرتكاب جريمة القتل والسرقة والتزوير والتمرد، وكل ما يخطر، ولا، يخطر، على بال، وأصبح ديدنهم كيفية الحصول على المال لما يعانوه من فقر وبطالة وعنف وقمع وإهمال من الحكام، وغياب أي حلول أو مصالحة أو وحدة بين شقي في الأفق، لتأمين حياتهم، ومستقبل أسرهم، وهم طائرون في الهواء دون قواعد إرتكاز، ولن يتوقع أياً كان، كيف يتصرفون؟ أو كيف سيتصرفون؟؟ في لحظة، ما، أفرادا، أو، جماعات، فمنهم، من ينتحر، ومنهم، من ينجلط في سن مبكرة، ومنهم، من ينتظر فرصة لممارسة العنف والتمرد.
إحذروا الشخصية الغزاوية والعنف الكامن في داخلها أو خارجها، في كل وقت، فهي مهتزة إجتماعياً، بعد عقدين من الأزمات وفقدان جدر الحماية الشخصية، وسنرى الكثير غير المتوقع في تصرفاتهم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت