- بقلم/ مصطفى النبيه
كأننا خارج السياق، يمضي بنا الوقت إلى حيث لا ندري، أربعون عاماً من الوجع والحرمان، وأنا قابع في زنزانتي، أصنع فرحي وأمسح حزني، أراقب الضوء، أصافح الهواء، أشم رائحة أهلي، أقرأ أسرار الوجوه التي أكلها الزمان من حولي، كيف سرق المحتل عمرها الزمنيّ وعزلها عن الكون ليحفر فجوات بينها وبين القادم؟ حتى وإنْ خرجتْ تبقى أسيرةَ زمنها المفقود.
يفيض بي الحنين، فكم أشتاق أن أمشي في الشارع، أن أرى الأرض والخضرة، أن أشاهد الطيور وأسمع حكاية أهل قريتي الطيبين، كم أنا ظمآنُ لسماع صوت أمي وصوت سعال أبي وهو خارجٌ لصلاة الصبح. كبر الحزن حتى أصبح أوطاناً، رحلت أمي وأبي عن عالمنا، فأنا الأسير الذي لم يتسنَ لي أنْ ألقي نظرة الوداع على والديَّ وهما يواريان تحت التراب، حبست دموعي أمام إخوتي في المعتقل.
فالحزن هو الوجه القبيح للحكاية، احتضار الروح، موت مؤقت يرافقني. أربعون عاماً مضت، وأنا أرى العالم يساق بإرادته إلى مذبح العبودية، أغرقوهم بالهزائم والخيبات، واستعبدوهم بالتكنولوجيا، ومنحوهم فضاء افتراضيا، عزلوهم ليصادروا أصواتهم ويوهموهم أنهم آلات محايدة، قطيع يساق إلى المقصلة، لو فكر وقال: "لا.. "، أخضعوهم للأمر الواقع، واستبيحت الأوطان، فما بين جوع وجوع، يخرج علينا المنهزمون المطبّعون ليتمسحوا بأحذية المغتصبين القتلة لأجل عظْمة. كبرت "الأنا" بين الناس، خفتت الأصوات التي تنادي بتحريرنا حتى أصبحت قضيتنا مسرحية ضعيفة تحمل انفعالا لحظيا، جمهورها محدود، خاننا الإعلام وتناستنا الجماهير المخدَّرة- حبيسة الفضاء الأزرق، وانقطعت أنفاس الفقراء الذين يركضون وراء رغيفهم الهارب.
تساقطت الأوراق واتضحت الرؤيا، ذاب الثلج أمامي وتغيرت ملامحي. وما زلت أنا الشاب الذي يحلم بثورة الجماهير. حملت الوجع وعشت ألوانا من الفقد والألم، امتدادا لأربعين عاماً، كنت وأنا بالسجن أرقب أختي الصغيرة التي كانت تزورني وألاعبها، كيف كبرت وتزوجت وأصبحت أما والآن هي جدة! وأنا- كما أنا- في قفصي، مرت السنون وأنا شاخص أتأمل صورتي بالأبيض والأسود، أتذكر معالم صباي وبداية شبابي في قريتي " كوبر" برامَ الله ، مازالت روح الثائر تسكنني، رغم أني هرمت وأصبح جسدي غير قادر على الصمود إلا أنني لن أتنازل يوماً عن حريتي..
فالحرية أن يعيش شعبي بسلام، أن نشعر بالأمان، أن نخرج من الموت باسمين واثقين أننا زرعنا سنابل للأجيال القادمة، وأننا سنحيا كما نريد، وسنُمضي الحياة بتلقائيتها حسَب الطبيعة الكونية، سنمارس براءة طفولتنا ، نزحف، نمشي، نضحك، نبكي، نتعلق بأشيائنا البسيطة، وفي صبانا يكبر خيالنا وتحلّق أفكارنا، وفي شبابنا نمضي في تحقيق أحلامنا حتى نستقبل خريفنا بالتدريج ونحن واثقون أننا نتنسم حرية حتى نصبح نخيلاً، لا أنْ نقفز إلى النهايات مرغَمين، بعد أن سرق الاحتلال ربيعنا ومازال يتلذذ بجرائمه أمام طغاة العالم الذين يباركون ذبحنا. يا أيُّها الإنسانُ الحر، كن نداً وإياك وأن تكون محايداً، فالحيادية خيانة.
نحن لم نختر أقدارنا، كان بالإمكان أن نحيا وألا يكونَ كلُّ ذلك ونعيشَ كباقي البشر بسلام.. استيقظُ صباحاً فأجد أمي تعد لي الفطور وعندما تواجهني المصاعب أبكي على صدرها كي أشعر بالدفء، ويطربني صوت أبي وهو يعلمني كيف أحب الحياة، ربما أصبحت طبيباً، أو عالماً، أو مهندساً، واحتمال أن أكون فناناً عاشقاً، أحب زميلتي في الجامعة، ونخرج أنا وأصدقائي لنعيش مغامرات الشباب، وعندما يكبر أبي وأمي سأكون ابنا باراً بوالديه أسهر على راحتهما، ويوم أن يأخذ الله أمانته سألقي عليهما نظرة الوداع التي حرمتُ منها، سأقبُّلهما قبل أن يرحلا عن عالمنا، واستقبل العزاء فيهما، سيكون لي عالمٌ آخر...
نحن لا نحب الموت، نحن نعشق الحياة، فلو لم يكن هناك احتلال، وشُطب الاستعمار من قاموس حياتنا، بالتأكيد ستتغير المعطَيات، فأنا إنسان عاطفي يحب الجميع، قنوع بما وهبني الله من نِعم، لم أفكرْ أنْ أسطو يوما على طعام أحد، لم أروّعْ لا طفلا لا شيخا لا امرأة، لا شجرة لا طيرا ولا حيوانا، ولدت فوجدت بلدي مغتصبا يقبع تحت عصابات الاحتلال الصهيونية، وهناك سجلٌّ من المذابح المرعبة بحق أهلي وشعبي وأرضي، انتصرت للوطن والإنسان، حتى تحيا بلادي حرة أبية.
فيا أيُّها العالمُ الأصم، استيقظْ من غفوتك وأبصر الحقيقة، من الذي يستحق العقاب: المحتلُّ الذي يذبّح ويروّع ويدمر ويشرد ويصادر الأراضي والممتلكات، أم الفدائيُّ الذي يحب وطنه ويدافع عن أهله وقضى عمره أسيراً في زنزانة الموت؟! عالمٌ لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم، وأكبر دليل حصار مليوني إنسان في قطاع غزة جنوب فلسطين لمدة تزيد عن أربعَ عشْرةَ سنة، ومازال الحصار مستمرا، حيث عاش أهل الجنوب السجن القسريّ، عزلوهم من ذاكرة العالم، فذاقوا ألوانا من عذابات الحصار حتى فقدوا قدرتهم على التحليق، عاشوا ضحية شرور تسكن أرواح عبيد السلطة في العالم، ركضت السنون ومازالوا صامدين..
تجاهل الناس حكايتهم، فجاء العدل الإلهيّ متمثلا بفايروس كورونا، حيث اعتقلت المخلوقات البشرية أنفسها لتحمي نفسها من موت قادم، وبدؤوا يتحدثون عن الظلم الذي وقع على غزة وعن حصارها، ربما تستيقظ الضمائر ويعود الإنسان لرشده، رغم حزني وألمي على ضحايا الوباء، إلا أنني ما زلت أحلم أن يغتسل العالم من عاره ويستيقظ من غفوته وينحني خجلاً أمام قضية الأسرى والحصار، فالسجن هو موت آخر، لونٌ من ألوان العبودية، ينتزع آدمية الإنسان ويجرده من أحلامه فيكفينا ظلماً.
خرجت من السجن بصفقة الأحرار، زرعت أرضي، وتزوجت الأسيرة المحررة" إيمان نافع". لم يرق للاحتلال- سارق الفرح- أن نعيش لحظة بأمان، تم اعتقالي وحُكم على بالسجن ثلاثين شهراً، وبعد انتهاء محكوميتي تفاجأت بقرار إسرائيلي يعيدنا إلى حكم المؤبد. كعادته يمارس الاحتلال جرائمه وبشاعته على الملأ، أمَا آن لنا أن نكسر أقفاصنا ونعيش بسلام ككل البشر؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت