«مفاوضات الحل الدائم» .. تفكيك القضية إلى ملفات هامشية

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة
  • معتصم حمادة

 

يبدو أن السلطة الفلسطينية، بعد أن تيقنت بوصول تداعيات الرد التكتيكي على مشروع الضم عبر إعلانها «التحلل» من الاتفاقيات، إلى نهاياته بدأت تستجيب، بخجل، في الوقت الراهن، لنصيحة بعض العواصم العربية بألا تضيع فرصة الدعوة الأميركية للمفاوضات، كما هي في صفقة ترامب – نتنياهو، للوصول إلى «دولة فلسطينية»، سقفها السياسي وحدودها الجغرافية، رسمت بيد لجنة أميركية – إسرائيلية مشتركة.

النصيحة دعت السلطة للدخول في ما يسمى «الاشتباك التفاوضي»، وإحياء الجثة الهامدة اللجنة الرباعية الدولية مدخلاً لإستعادة الدعوة لاستئناف المفاوضات. وهو ما أقدمت عليه السلطة، حين كشف رئيس حكومة السلطة الفلسطينية، محمد اشتيه، النقاب عن «البديل التفاوضي» الذي تقدمت به السلطة إلى الرباعية الدولية في رسالة نشرت مجلة «الحرية» في عددها الأخير نصها الكامل.

ووفقاً لمصادر مصرية موثوقة وواسعة الإطلاع، فإن السلطة تقدمت إلى جانب الرسالة المذكورة بطلب استئناف المفاوضات، من النقطة التي وصلت إليها عام 2008، أي مفاوضات أنابوليس، التي أحيتها يومها وزيرة خارجية بوش الابن، كوندوليزارايس، واختتمها رئيس حكومة دولة الاحتلال أولمرت بحربه الدموية ضد قطاع غزة نهاية العام 2008 ومطلع العام2009.

المفاوضات.. أين.. وكيف؟

من يدافعون عن تمسك السلطة بالمفاوضات، يبررون ذلك أن الجانب الفلسطيني لم يتخلَ عن خياره السياسي للوصول إلى حل للصراع مع إسرائيل، وأن المجلس الوطني، في دورته الأخيرة جدد الدعوة للمفاوضات في إطار مؤتمر دولي بموجب قرارات الشرعية، وبمدى زمني، محدد وبما يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة في الدولة المستقلة.

غير أن ما جاء في قرارات المجلس الوطني شيء، وما يدور في الأجواء التفاوضية للسلطة الفلسطينية، وما جاء في الرسالة إلى الرباعية الدولية، وما تم إبلاغه إلى الدوائر الأوروبية بشكل رسمي، شيء آخر.

• مواقف السلطة في الدعوة للمفاوضات تتحدث عن مفاوضات تحت سقف قرارات الشرعية الدولية، وترفق بها مبادرة السلام العربية. ولا يحتاج المرء ليكون عبقرياً ليدرك مغزى الربط بين الشرعية الدولية وبين المبادرة العربية.

فالمبادرة فيها «إغراء» لإسرائيل بتطبيع علاقاتها مع الدول العربية مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة. لكن غاب عن بال المفاوض الفلسطيني أن الأحداث تجاوزت المبادرة العربية، وأن التطبيع بين إسرائيل و«معظم» الدول العربية، بات أمراً واقعاً، وأخذ أشكالاً مختلفة وأن ما تكشف عنه الصحف الإسرائيلية في هذا المجال، من شأنه أن يقول أن مبادرة السلام العربية، باتت هي الأخرى في موت سريري، مثلها مثل الرباعية الدولية.

في السياق نفسه، تتضمن المبادرة العربية إشارة شديدة الوضوح للتخلي عن حق العودة للاجئين، حين دعت إلى «حل عادل ومتفق عليه» (مع إسرائيل طبعاً) لقضية اللاجئين. وحتى لا نتهم بالتحامل على المبادرة العربية، نعيد القارئ إلى نص رسالة السلطة الفلسطينية إلى الرباعية الدولية، في تأكيدها استعدادها لحل قضية اللاجئين بموجب النص الوارد حرفياً في المبادرة العربية.

• كذلك تتحدث مواقف السلطة، ورسالتها إلى الرباعية الدولية لاستئناف المفاوضات، عن الاستعداد، في أية مفاوضات قادمة لتبادل متفق عليه للأراضي على حدود 4 حزيران 67. والتبادل هنا، كما هو واضح، يشير إلى الكتل الاستيطانية التي تنوي إسرائيل ضمها (بمفاوضات أو بدونها) في أية تسوية أو حل أياً كانت مواصفاته.

لذلك كان من الطبيعي أن يعلن وزراء خارجية فرنسا وألمانيا، ومصر والأردن، في بيان مشترك يوم 7/7/2020، عن استعدادهم للقبول بأية تعديلات في الحدود يتم التوافق عليها بين طرفي الصراع. في إدراك صريح وواضح أن «التعديل» في الحدود ماهي إلا شكل من أشكال الضم (الجزئي أو الشامل لا فرق) إنما بموافقة الجانب الفلسطيني، واستعداده المسبق للتنازل المجاني.

الجانب الفلسطيني يؤكد استعداده للعودة إلى المفاوضات وفق مبدأ «تبادل متفق عليه للأرض»، أي أنه يبقي باب الضم مفتوحاً، ولو مواربة. لكن من يضمن ماهي حدود التبادل هذه، وماهي آلياتها. ومادام الموضوع قد بات من حيث المبدأ قابلاً للتفاوض، إذن هو أصبح مشروعاً وجزءاً من الحل، وفقاً لمعايير الجانب الفلسطيني نفسه.

• قضية ثالثة شديدة الأهمية ترد في الدعوة لاستئناف المفاوضات، هي قضية القدس التي يرد الحديث عنها غامضاً، يوحي بالإستعداد لحل ما، قد يقود إلى التخلي عن أجزاء من القدس الشرقية المحتلة بذريعة الاعتراف بالواقع، حيث نجح الاسرائيليون بإغراقها بالمستوطنين اليهود، وحولوا وجودهم فيها، خلال سنوات الاحتلال وخلال سنوات الاعتراف الأميركي بها عاصمة لإسرائيل، أمراً شديد التعقيد.

إلى جانب هذا كله، يحق لأي مراقب أن يسأل: هل تعتقد السلطة الفلسطينية حقاً أن ميزان القوى الراهن، يوفر الظروف لمفاوضات متوازنة في أسسها وآلياتها ومرجعياتها، وهل تعتقد السلطة الفلسطينية أن الجانب الإسرائيلي الذي يشعر الآن بأنه ازداد قوة، بفعل الدعم الأميركي غير المحدود، وبفعل التحول الأميركي الاسترايتجي، وبحيث باتت خطة عمل البيت الأبيض هي نفسها خطط عمل حكومة الاحتلال،.. هل تعتقد باستعداده لاستئناف المفاوضات وفقاً لرؤيتها. نعتقد أن نتنياهو قدم الجواب سريعاً، حين هاتف رئيس حكومة بريطانيا، الذي كان نشر في الصحافة العبرية مقالاً يرفص فيه الضم، ويدعو لحل عبر المفاوضات. جواب نتنياهو كان واضحاً: «نعم للمفاوضات، وفق مبدأ رؤية ترامب».

وهكذا نكون قد وقفنا أمام مشروعين لاستئناف المفاوضات:

• مشروع السلطة (إن جاز التعبير) يقوم على استعادة مفاوضات أنابوليس، أي تحت سقف أوسلو ومحدداته لمفاوضات الحل الدائم.

• مشروع نتنياهو، أي «رؤية ترامب» بكل عناصرها.

وفق هذا المنطق يصبح مطلوباً من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، الذي أعلن عن انهماكه بإحياء الرباعية الدولية لدعوة الطرفين إلى المفاوضات، ويصبح مطلوباً في الوقت نفسه من المبعوث الدولي ملادينوف، الذي أعلن عن الهدف ذاته، أن يقنعا طرفاً ثالثاً (لماذا لا يكون الاتحاد الأوروبي وبعض العواصم العربية) لتقديم «رؤية ثالثة»، تجمع بين «رؤية ترامب» و«رؤية السلطة»، احتمال علينا ألا نستبعده من حساباتنا. فكثير من المؤشرات، الأميركية والإسرائيلية والأوروبية والعربية، يحمل في طياتها مثل هذا الاحتمال.

الحل الدائم وتفكيك القضية الوطنية

المفاوض الفلسطيني يدعو لاستئناف المفاوضات بموجب اتفاق أوسلو، الذي وصلت مفاوضاته في تموز (يوليو) 2000 في كامب ديفيد 2 إلى الطريق المسدود، وبقيت تراوح مكانها، دون أية نتيجة للجانب الفلسطيني حتى أيار (مايو) 2014، بينما بقيت بيد الجانب الإسرائيلي غطاء سياسياً، يتغطى به، وتحت سقفه، يمارس كل أشكال القمع، واغتصاب الأرض وتوسيع الاستيطان، خاصة وأن المفاوض الفلسطيني، نزع عنه صفته القانونية باعتباره دولة احتلال وعدوان وتمييز عنصري، وأسبغ عليه صفة بديلة استغلها إلى أبعد الحدود «شريكاً في عملية السلام»، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن إسرائيل لا تعرف معنى للسلام إلا إذا كان في خدمة مصالحها الاستعمارية وأطماعها التوسعية.

ودون أي استخلاص ذي معنى من رحلة الفشل الطويلة والمرة والمدمرة، يبقى المفاوض الفلسطيني على وفائه لأوسلو، ومفاوضات أوسلو، والرباعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، وتبادل متفق عليه للأرض، وحل متفق عليه لقضية اللاجئين.

إلى جانب هذا كله، وعلى خطورة هذا كله، لجأ المفاوض الفلسطيني إلى تفكيك القضية الفلسطينية، من قضية شعب تحت الإحتلال، له الحق الكامل في تقرير مصيره، وقيام دولته المستقلة وحق لاجئيه بالعودة، إلى مجرد «قضايا تفاوضية»، مفصول بعضها عن بعض، بحيث جرى تهميشها، وأفرغت من مضمونها القانوني والسياسي، وجردت من مرجعيتها السياسية، وتحولت إلى «قضايا» تفاوضية، مفتوحة على الإحتمالات المختلفة. منها على سبيل:

• الأرض: ما دامت مرجعية المفاوضات هي الشرعية الدولية بما في ذلك القرار 242 + 338، كما يقول الجانب الفلسطيني، فلماذا إذن التفاوض على رسم حدود جديدة، ولماذا لا يكون التمسك بالأرض الفلسطينية المحتلة بإعتبارها قضية متكاملة وجزءً لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، لا ينظر إليها منفردة، بل كرزمة واحدة لا مقايضة فيها بين حق وآخر، ولا مساومة فيها على هذا الحق أو ذاك.

تحويل قضية الحدود إلى قضية تفاوضية، تحت مبدأ تبادل محدود للأرض، يفتح الباب أمام تنازلات غير محدودة، ويجعل من الأرض الفلسطينية موضوعاً تفاوضياً، في ظل ميزان قوى مختل للجانب الإسرائيلي الممسك بالأرض، بقوة السلاح، وبقوة الإستيطان، يفشل في مقاومتها قوة المنطق، وقوة القانون، مجردتين من «القوة الميدانية»..

• المياه: لا شك أن طرح قضية المياه للتفاوض، ما هو إلا مدخل للإعتراف لأن قضية المياه قابلة للمساومة. ولا يحتاج المرء (مرة أخرى) ليكون عبقرياً ليدرك أسباب إصرار الجانب الإسرائيلي على وضع المياه على جدول الأعمال. المياه، كما هي الأرض، بموجب اتفاق أوسلو، هي قضايا متنازع عليها يتم التفاوض حولها للبت بمصيرها. الخطيئة الأصلية التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني بالقبول بهذا التعريف للأرض والمياه، هي الخطيئة التي أدت إلى ما أدت إليه من كوارث ونكبات، آخرها كارثة صفقة ترامب – نتنياهو. لكن، كما يبدو، فإن المفاوض الفلسطيني، وقد بات أسير قيوده، وأسير إلتزاماته، وأسير مصالحه الفئوية، مازال عند حدود موقفه من الأرض والمياه، كما وردت في اتفاق أوسلو، ومازال على استعداد للتفاوض عليهما، وأي تفاوض معناه التنازل هن جزء منها للجانب الإسرائيلي، الذي اكتسب الحق في هذا الجزء بإعتراف المفاوض الفلسطيني نفسه.

• الأمن: لم تعد قضية الأمن سراً من الأسرار. فالجانب الفلسطيني وافق وأكد، وكرر موافقته، وكرر تأكيده على الحل التالي:

- «دولة فلسطين» (بحدود وأرض منقوصة) منزوعة السلاح، أي تحت الهيمنة الأمنية لدولة إسرائيل.

- شرطة فلسطينية قوية التسليح لضبط الأمن داخل حدود «الدولة الفلسطينية»، ومكافحة كل أشكال الإرهاب، عملاً بإتفاقات عقدت مع 83 دولة، بما في ذلك المخابرات الأميركية. أي بموجب تعريف المخابرات الأميركية للإرهاب، وبما يشمل ضمنا، المقاومة الفلسطينية. لذلك لا غرابة أن تكون السلطة حريصة على التأكيد على «المقاومة السلمية» وعلى رفضها كل أشكال «العنف» و«الفوضى» (تعريفها للمقاومة).

- تواجد طرف ثالث (الحلف الأطلسي) إلى جانب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، على المعابر الفلسطينية، برية وبحرية، (وجوية إن وجدت)  اعترافاً من «الدولة» الفلسطينية بحق إسرائيل بأن تكون شريكاً، والطرف الثالث حكماً، وشريكاً في آن، لفرض الرقابة على الحدود الفلسطينية، للإشراف على حركة العابرين، وتوثيق «الإرهابين» منهم وهم في حسابات إسرائيل والحلف الأطلسي بالآلاف، خاصة من تمت الإشارة إليهم في «صفقة القرن»، أي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، فهؤلاء هم أجيال المقاومة المسلحة ( أي بتعريف أميركي إسرائيلي «أجيال الإرهاب» الفلسطيني). وكذلك الإشراف على من يسمح لهم «بالعودة» إلى مناطق السلطة الفلسطينية من اللاجئين الفلسطينيين، حتى لا يتكدسوا في مناطق «الدولة» ويتحولوا إلى عبء على عاتقها، ويتحولوا، في السياق، إلى مصادر «شغب»، أو أن يدفعهم الحنين إلى العودة إلى «البلاد» وتستعيد حركة اللاجئين حيويتها، خلافاً لما يتوجب الاتفاق عليه، أي إغلاق ملف الطلبات بين الطرفين بعد التوقيع على قضايا الحل الدائم.

متل هذه المفاوضات، رغم الإدعاء بأنها ستستند إلى مرجعية الشرعية الدولية (242 + 338) ومبادرة السلام العربية، إلا أنها مفاوضات مفتوحة على كل الإحتمالات السلبية، لأن مرجعيتها الأساسية أن الأرض، والمياه، أمور متنازع عليها، فضلاً عن أن إسرائيل ترفض الإعتراف بالدولة الفلسطينية وترفض الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، عملاً بالشرعية الدولية مواثيقها وثوابتها وقراراتها ذات الصلة.

وقبل أن نختم دعونا نستعيد ما قاله الفيلسوف الروماني العظيم باسبليوس ريناتوس:

«إن أردت السلم فاستعد للحرب».

أ

 

المصدر: قدس نت -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت