- بقلم: فراس ياغي
كثيرا ما أشاهد مقارنات ليست بمكانها ولا زمانها وتحاول دائما أن تعكس مقياس ما تستشعره في مخيلتها وبما لا يحاكي واقع الأمر وفق منطق الأشياء أو حتى قانون "القياس" الشرعي، فلكي تُحاكي قضية مهما كانت طبيعتها فهناك عوامل أساسية يجب الإرتكاز لها، وحتى تقيس أمراً بأمر أو حدثاً بحدث فلا بدّ من تطابق في الظروف الموضوعية وفي الوعي المجتمعي الثقافي لتلك الظروف لكي تُحيل حالة تراثية على حدث حصل في الحاضر وسيستمر لمستقبل منظور مرتبطٍ بالتطور المعرفي للإنسان على هذا الكوكب، لذلك كانت مُجمل القضايا "القياسية" فيها تعسّف وبدَلَ أن يكون هناك إجتهاداً أو إبداعاً تحوّلت الأمور لمجرد إجترار تراثي لا يراعي طبيعة الواقع الموضوعي والذاتي الإنساني، في حين هناك خلط كبير بين مفهوم التعليم ومفهوم الثقافة، فمن درس في أوروبا أو الغرب عموما ليس بالضرورة أن يكونَ مثقفاً، هو مُختص ومهني في حقله المعرفي وقد يكون مُبدعاً، لكن عقليته لم تُغادر مربع حارته أو حيّه أو قريته أو مدينته وفي النهاية هي لا تُغادر مُربع العشيرة والثقافة القبلية السائدة.
الإنسان الفلسطيني وأي مجتمع في هذا العالم الحديث لا يمكن فصله بالمطلق عن واقعه العالمي والإقليمي، بل إنّ التأثيرات الدولية والإقليمية سَلَبتْ في كثير من الأحيان دور العامل الذاتي وحاصرته في دوائر مُغلقة لا إنفكاك منها إلا بكسر تلك الدائرة والدخول في دائرة جديدة. فلسطينياً، لا زلنا نعيش العالم التخيلي إن كان غربيّ الهوا أو تراثيّ التفكير، ولم نحاول أن نفهم أن ناتج العقلية ثقافة مُجتمعية تعكس نفسها بقوة على العامل الذاتي الذي يُعتبر أساس للتعاطي مع المعادلات القائمة دوليا وإقليما ومحليا، ومهما كانت طبيعة تلك المعادلة مؤامرة أو مبادرة، أقصد أن عدم الإهتمام للعامل الذاتي بكامل تفرعاته وإحتياجاته الطبيعية حتماً سيقود نحو نتائج كارثية، خاصة أن موازين القوى أصبحت تتحكم بحجم الكارثة التي قد تحصل، نكبة عام 1948 شاهد على ذلك، فرغم تماسك العامل الذاتي الفلسطيني وتوافقه في مقاومة مُخططات الحركة الإستعمارية الصهيونية المولودة والمدعومة من الغرب الأوروبي المستعمر ولاحقا من الإمبريالية الأمريكية المتوحشة، لم يستطع هذا العامل منع أو إيقاف تلك النكبة التي لا تزال آثارها ونتائجها تأخذ منحنى تصاعدي رغم كلّ شيء.
أقول ذلك فقط للإنتباه لعدم تضخيم العامل الذاتي في النتائج غير الحاسمة لبعض الصراعات القائمة مع الإحتلال ومن خلفة إدارة البيت المتوحش في "واشنطن"، وعلى أهمية رفض ومواجهة المؤامرات القائمة لتصفية القضية الفلسطينية ومنها إنهاء المفهوم الدولي "دولتين لشعبين" بالحديث عن استيلاء الإحتلال على 30% من جغرافية اراضي الدولة الفلسطينية الموعودة وفق قرارات الشرعية الدولية، إلا أن الحقيقة لها منحنى آخر وواقع مُختلف له إرتباطات راهنة دولية تُسيطر عليه أزمة صحية وإقتصادية سببها "كوفيد 19" من جهة، ومن الجهة الإخرى التخوف الكبير من نُخب الإستعمار القديم في أوروبا والبعض الأمريكي ونُخب الصهيوية العلمانية في دولة الإحتلال من نقل الصراع بسلب أل 30% من مفهوم الدولتين إلى مفهوم الدولة الواحدة، وبما يؤسس ذلك لمفاهيم "الترانسفير" و "الإبارتهيد" و "العنصرية"، ويدفع بإتجاه أكثر لقرارات تُحاكي الواقع وبحيث تكون إما مساوة لكل مواطني الدولة الواحدة وإما صراع وجودي سيأخذ أبعاد دينية حتماً.
إدارة "ترامب" لم تُعطي حتى الآن ضوء أخضر لسلب الأرض والجغرافيا والسيادة تماشيا خطته ووعوده للحكومة اليمينية الإحتلالية بسبب من الأزمات الإقتصادية كنتيجة لتأثيرات "كورونا" بوضع شرط التوافق الحكومي الإسرائيلي، و "نتنياهو" لا تَعنيه كل المفاهيم أعلاه بل يعنية "نتنياهو" الشخص وعدم ذهابه للسجن بسبب ملفات الفساد، وفي ذهنه شيء واحد، دولة إسرائيل الجديدة بحدود جديدة يرفضها الفلسطيني وبما يؤدي لاحقا لعملية "ترانسفير" للسيطرة على ما تبقى لهم "وليس لنا" من جغرافيا، والفلسطيني كسياسة وكمجتمع يراه "نتنياهو" في الضفة الشرقية لنهر الإردن حتى لو لم يُعلن ذلك، لأن سلب الأرض الفلسطينية وفقا لخطة "ترامب" نتائجها النهائية هي مفهوم الوطن "البديل" كخلاصة.
الفلسطيني كقيادة رسمية وغير رسمية وكنخب ترفض وتقاوم ذاك المخطط في حدود عامل ذاتي غير متبلور بإستراتيجيا واضحة، بل بإدارة "فن الممكن" المحاصر بدوائر دولية وإقليمية تتصارع فيما بينها في ملفات لم تُحسم بعد ولم تظهر نتائجها الحقيقية، فأولا، ملف "كورونا" والأزمات الإقتصادية هو من حسم بالأساس عدم الإستمرار بتطبيق خطة "ترامب" لكنه جمدها إلى حين ولم يُسقطها، ثانيا، ملفات الصراعات الإقليمية من المحيط إلى الخليج تفرض نفسها بقوة وتُشظي العامل الذاتي رغم كل المحاولات للإتفاق على الحد الأدنى وهو مواجهة سلب الأرض "الضم"، وثالثا، التيارات المتصارعة في العامل الذاتي الفلسطيني والتي هي إنعكاس واضح لطبيعة الصراع الإقليمي، بل هناك في كل تيار تجد مراكز قوى أفرزها الإنقسام منذ العام 2007 تبلورت وترسخت نتيجة مصالح شخصية بإمتياز وما نتج عن ذلك من فساد مُستشري في عَصَبْ العامل الذاتي الفلسطيني، ومراكز القوى هذه تستدعي بعضاً من المفاهيم الوطنية في الصراع فيما بينها بشكلٍ مُبطن لكنه ظاهر وواضح للكل الفلسطيني.
لست بصدد طرح جمل ثورية كبيرة كما يفعلها كثيرٌ من السياسيين في مقابلاتهم التلفزيونية والصحفية، ولست بصدد أيضا الإستخفاف بأي تحرك وطني يحاول البعض الفلسطيني إستدعائه في مواجهة سلب الجغرافيا والسيادة، لكن أشير إلى أن مفهوم "فن الممكن" يحتاج لتغيير في موازين القوى، وتلك الموازين لا تتغير إلا بالفعل الشعبي على الإرض، فِعلْ يَتأسس على برنامج وطني شامل سياسي ومؤسساتي مبني على هيكلية منظمة التحرير وبفعل فلسطيني ذاتي يعاكس صراعات الإقليم ويحاكي معادلة واحدة فقط، نختلف في كلّ الملفات لكننا نتفق على ملف القضية المركزية، قضية فلسطين.
العامل الذاتي الفلسطيني أساس مواجهة سلب الأرض "الضم"، وعليه أن يخرج من دوائر صراعات الإقليم ولا يُعادي أحد لكنه يتوافق مع مفهوم الأمن القومي العربي، شرط أن يكون الموقف العربي بدوله المختلفة داعم ومُساند بقوة لكافة الإحتياجات، أو بالحد الأدنى يصمت عن أخذ بعض تلك الإحتياجات من خارج الدائرة العربية لعدم قدرتها على تحمل تكلفة ذاك الإحتياج على أن لا يكون ذلك على حساب الإمن القومي العربي.
الإستيلاء على الأرض بالقوة "الضم" لم ينتهي ولن ينتهي في العقلية اليمينية المتطرفة في دولة الإحتلال، وأيضا خطة "ترامب" لم تسقط بعد، وكل ما جرى حتى الآن سياسة التأجيل والتجميد لأسباب تتعلق بدولة الخُطة وبدولة الإحتلال أدت لتقييد "نتنياهو" ومنعه من بوابته للخلاص الذاتي، ووضعت حد لِ جموح المستوطن السفير "فريدمان"، و "كوفيد 19" ونتائجه الكارثية الإقتصادية والصحية يُعزى له السبب الأساسي، أما العامل الأوروبي والصهيوني العلماني الذي عمل تحت عنوان إنقاذ إسرائيل من نفسها لبقاءها دولة "يهودية" نقية كان عامل مُساعد، في حين دول الإقليم ساعدت فقط حين طُلب منها التسهيل لتمرير التجميد وتحت عنوان أنّ "التطبيع" مع إسرائيل سيتوقف إذا نفذ "نتنياهو" قرار الضم.
هناك مقولة تقول "أعظم التحولات تأتي من أصغر التغييرات"، وهذا يتطلب الإبتعاد عن القصور العقلي وضرورة الإدراك الفكري لمفهوم العامل الذاتي وفق رؤيا تخلق وعي إجتماعي يتجاوز مرحلة الإنقسام وإستفحال الفساد، يقول الفيلسوف ومؤسس الماركسية "كارل ماركس" (ليس وعي الناس هو الذي يُحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك، الوجود الإجتماعي هو الذي يُحدد وعيهم)، وهذا الوجود في المجتمعات الفلسطينية بحاجة لصقل وثقافة جديدة أساسها تعزيز الرواية التاريخية الوطنية الفلسطينية، ومؤسسة جامعة وقادرة على تطوير نفسها وتغيير هياكلها بدماء جديدة تشمل جميع الأطياف ويكون عمادها الشباب الفلسطيني المُغيّب قسراً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت