رحلة إلى فلسطين
في شهر كانون الأوّل، سافرت برفقة إيفا إلى فلسطين. كانت إيفا قد تلقّت دعوة للمشاركة في احتفالات مرور 50 عامًا على تأسيس الهلال الأحمر الفلسطيني. صارت الرحلة حقًّا ذكرى يستحيل محوها، وبخاصّة بفضل أصدقاء إيفا الفلسطينيين.
بداية، انتظرنا حسن في مطار اللد، وصلنا إلى حيفا، حيث نزلنا عند أصدقاء فلسطينيين(سميرة وحسن)، اصطحبونا للتعرّف إلى مختلف الأماكن. من ثم، ذهبنا إلى القدس لمدة يومين، وتابعنا رحلتنا نحو نابلس، لننهيها في رام الله.
في حيفا، استطعت معايشة معنى أن تكون فلسطينيًّا في إسرائيل. هناك أنظمة كثيرة تهدف إلى جعل الحياة أصعب. على سبيل المثال، منع التحدّث باللغة العربيّة في أماكن العمل، وهو ما قد يؤدي إلى حالات عسيرة. تتمّ مُحاربة هذه الأنظمة من خلال المحافظة على الاعتزاز وعلى الرّغبة في المقاومة. تظهر المقاومة بقوّة من خلال الثّقافة: المؤلّفون، النحّاتون، الرسّامون، وغيرهم، يُظهرون مقاومتهم من خلال أعمالهم. يُنتجون لوحات وتماثيل فائقة الجودة الفنيّة، ضد الاحتلال. تُحفِّز الذّاكرة.
التضامن الدّائم الذي يبديه الفلسطينيّون تجاه إيفا هو خير دليل على أنّهم لا ينسون. استطعت أن أختبر الاحترام والرِقّة اللّذين أبدوهما طيلة الوقت. قضينا وقتًا في منزل سميرة وحسن عبادي (زوج من الفلسطينيّين) کرّسا جلّ وقتهما لمرافقتنا. فرافقانا في جولة عبر مختلف المدن، كما ودُعِيت إيفا إلى إلقاء كلمة في أحد الاجتماعات التي تنظّمها جمعيّة أدبيّة تلتقي مرّة أسبوعيًّا لمناقشة الكتب، والالتقاء بالأدباء، وما إلى ذلك (نادي حيفا الثقافي ح.ع.) يجري كلّ ذلك تحت شعار المقاومة. كذلك، نشرت الصحف العربيّة مقالات كبيرة تحتفي بقدوم إيفا (بالأخصّ صحيفة المدينة الحيفاويّة)، وأُقيمت الولائم على شرفها. رافقنا ذانك الصديقان بسيّارتهما من حيفا إلى القدس، ومن ثمّ اهتمّوا بتنظيم نقلنا بسيّارة أصدقاء من القدس إلى رام الله، ومن ثمّ إلى نابلس، قبل العودة إلى رام الله. كانوا جميعهم كالملاك الحارس، يسهرون على تحرّكاتنا لئلّا نواجه المصاعب.
تستحق القدس فصلًا كاملًا لها وحدها. نزلنا هناك في نزل للسّائحين في وسط البلدة القديمة، داخل الأسوار العتيقة. كانت تجربة يصعب هضمها ونسيانها. سرنا عبر درب الآلام، ومنعنا رجال شرطة مسلّحون من دخول منطقة المسجد الأقصى (بناءً على ساعات العمل، كان من المفترض أن يكون الدّخول مُتاحًا، إلّا أنّ رجال الشّرطة يقرّرون فتح وإغلاق المداخل بحسب نزواتهم ومزاجهم). إستطعنا أن ندخل منطقة كنيسة القيامة، وكانت مذهلة. كذلك استطعنا أن ندخل (بعد نقطة تفتيش صارم) إلى منطقة حائط المبكي. كانت القدس حافلة بالأحداث في ذاك الأسبوع، إذ وافق نزولنا في المدينة عيد الأنوار اليهوديّ، مما أدّى إلى تحرّك مجموعات كبيرة من اليهود المحافظين عبر أسواق المنطقة الإسلاميّة. كان أولئك، دون شكّ، محافظين جدًّا، واستدللت على ذلك بفضل ثيابهم، وشعرهم، وقبّعاتهم، بالإضافة إلى حجم العائلات وتعداد الأطفال فيها. أمّا المجموعات الكبيرة الأخرى، فكانت لجنود الجيش الإسرائيليّ. تحدّثنا بعض الشّيء مع بعض الباعة في الأسواق - استخدمت أنا بعض الإنجليزيّة، في حين مرّنت إيفا عربيّتها. تجلّت تجربة الحياة في الأرض المحتلّة بوضوح، من خلال أشياء عديدة، من جملتها أن تكون دومًا على أهبة الاستعداد: أتتحدث إليّ لأنّك مهتمّ بالقضيّة الفلسطينيّة، أم لأنك عميل الموساد؟ طرح أحدهم هذا السّؤال علینا، بشكل مباشر.
بفضل مساعدة بعض الأصدقاء الذين اصطحبونا بالسيارة(آدم عنبوسي ح.ع.)، استطعنا الذّهاب إلى بيت لحم، إلى فندق معروف جدا وهو ال Walled Off Hotel، وهو معروف بالأساس لكونه متحفًا مثيرًا حول تاريخ فلسطين، وأيضا لكون نوافذ الفندق تواجه الجدار الذي بنته إسرائيل لمنع الفلسطينيّين من التحرّك بحريّة. لإتمام هذه الرحلة (القصيرة، إذ تستغرق حوالي ال 30 دقيقة)، اضطُرِرنا إلى عبور عدّة حواجز إسرائيلية. في تلك الأثناء تحديدًا، استطعنا المرور دون مشاكل (مع إظهار جواز السّفر من حين إلى آخر). ولكن في أحيان أخرى، ليس الأمر بتلك السّهولة، حيث التّفتيش مطوّلًا، يفتّشون السيارة بأكملها وببطء، وقد يطول الانتظار ساعات. وفي بعض الأحيان، يغلقون الحاجز ولا يدعون أحدًا يعبره. يستحيل ترقّب أيًّا من تلك الأمور، إذ يعود ذلك كلّيًّا إلى رغبات الجنود، وكل شيء يراقبه جنود بسلاح ثقيل، كانوا عمومًا صغار السنّ، وبغالبيّتهم نساءً، عفوًا، فتيات في سنّ ال 18. في بعض الأحيان، لاحظ سائقو السيّارات أنّ هؤلاء الجنود/الجنديّات لم يتكلّموا العبريّة بطلاقة، بل تكلّموا بلكنة روسيّة (فهناك هجرة كثيفة لليهود الروس). من الواضح أنّهم /أنهنّ كانوا/كنّ من القادمين الجدد إلى البلاد، إلّا أنّهم كانوا يملكون الحقّ في اتّخاذ قرارات بخصوص الفلسطينيّين الذين يعيشون هناك في أرضهم منذ أجيال. أحيانًا، قد تصل هذه القرارات إلى حدّ اختيار الحياة أو الموت، إذ ليس من النّادر أن يُغتال الفلسطينيّون أمام الحواجز. لكن "العادي" والشائع هو اتّخاذ القرار بخصوص السّماح بالعبور، أو إجبارهم على الانتظار (وقد يكون لمدة 3 أو 4 ساعات)، أو تفتيشهم، أو ببساطة، رفض السّماح لهم بالعبور. وكلّ ذلك بحسب رغبات الجنود.
من ثمّ اصطحبتنا زميلة فلسطينيّة(نضال رافع ح.ع.) إلى متحف محمود درويش(رام الله)، الذي كان أديبًا فلسطينيًّا شهيرًا (وناشطًا وعضوًا رفيعًا في فتح). الأمر المثير (وإن لم يكن خارجًا عن المألوف) هو أنّ إحدى الفتيات اللّاتي يعملن في المتحف، عند سماعها عن إيفا، اتّصلت بوالدتها هاتفيًّا لتكلّم إيفا. فقد كانت أمّها هي الأخرى في تلّ الزعتر!
سميرة حمد(إيڤا شتّال)
(الحلقة التاسعة)
*** هذه الحلقة التاسعة من انطباعات الزعتريّة سميرة (إيڤا) حمد(شتّال)؛ من مواليد 1948 في مدينة جوتنبورج السويديّة، درست التمريض وبفضل نشاطها التحقت عام 1974 بالعمل التطوّعي في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، تزوّجت من يوسف حمد، الناشط السياسي، ابن قرية الخالصة شمال فلسطين، الذي استشهد خلال القصف على مخيّم تل الزعتر جراء قذيفة هاون أدّت بالوقت نفسه إلى إصابتها بجروح بالغة، نتج عنها بتر ذراعها الأيمن وكسور في الفخذ الأيسر. بعدها بأيام فقدت الجنين في شهرها الرابع. رفضت سميرة، رغم إصابتها، مغادرة المخيّم المُحاصَر رغم جهود الحكومة السويديةّ في العمل على إخلائها عن طريق الصليب الأحمر الدولي، أصرّت على أن تُقاسم الأهالي مصيرهم. عند خروجها عادت إلى السويد وأكملت علاجها ونشاطها في المجال الصحي، مساعدة أطفال اللاجئين القادمين من مناطق القتال ومساعدة النساء، ما زالت مرتبطة بمساعدة أطفال اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات لبنان، وما زالت تحمل رسالة المخيّم عبر البحار.
*** شكرًا للأديب الفلسطيني سهيل مطر على ترجمة الرسالة من الإسبانيّة للعربيّة.
*** تُنشر تزامنًا مع نشرها في صحيفة "المدينة" الحيفاويّة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت