تحت ظلال "سجن" كوفيد19

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه
  • المتوكل طه

***

لستُ سعيداً بأنّ العَالَمَ أصبح يعيش أياماً مُمضّة كالتي عشناها ونعيشها منذ قرن، وأعني"الحبس"و"السجن"و"منع التجوال"و"الحصار"و"الحَجْر"و"إلاغلاق"و"التقييد "و"الأسْر" و"منع التنقّل" و"العَزْل" و"الاحتجاز" و"التوقيف" و"الكَبْت" و"الاعتقال".. وما إلى ذلك من مفردات سوداء، فرضها، ولا يزال، الاحتلالُ الإسرائيلي على شعبنا الفلسطينيّ.

وفي هذه الأيام، أيام الكورونا، وجد العالَمُ نفسه "محبوساً" فهل أحسَّ بما عانيناه ونعانيه؟!

أعرف أنّ ثمة فارقاً بين حبس الكورونا وحبس الاحتلال، إذ أن المحبوس بضغط وإكراه من قوّة غاشمة، يشعر بحالة من التمرّد والغضب والتفلّت من هذا السجن الإكراهيّ المفروض بالقوة. أما حبس الكورونا ففيه قبول وعليه رضا، ويذهب إليه المحبوسُ اختياراً ليتّقي شرّ العدوى.

إذاً هناك فارقٌ بين الحبسين، مثلما أن هناك اختلافاً بين "فايروس الاحتلال" و"فايروس كوفيد 19" فالثاني يمكن أن تتجنّبه بالتباعد والتحوّط والعزل واعتماد اجراءات السلامة والوقاية، أما فايروس الاحتلال فليس لك أيّ وسيلة لاتقاء تعدّياته وعنفه وساديّته وجرائمه المتواصلة.

ويستطيع العالم أن يتّقي شرّ تداعيات أيّ فايروس لحظة توفّر لقاح يحارب المرض ويعيد العافية. أما فايروس الاحتلال فلا لقاح يحول دون انتشاره وتغلغل سمومه في كل تفاصيل الحياة، إلا لقاح النزاهة والعدالة والحقّ والمساواة.. التي ألْقتها المصالح وراء ظَهر أصحابها، فباتوا يتشدّقون.. ولا يعملون بها.

وأعتقد أن آليات الحبس أيام الكورونا لا يمكن مقارنتها مع أيام الحبس المتأتّي من قوانين الاحتلال الظالمة والعنصرية والوحشية والمجرمة.

وأجدني اليوم وقد عشت مئات المرات، مثل أي فلسطينيّ يرزح تحت الاحتلال تحت تعليمات منع التجوال الصارمة.. أذكر أيام منع التجوال خلال الانتفاضة الأولى، وأيام الاجتياح في العام 2002، وما بينهما من أيام طوالٍ، أطبقَ خلالها الاحتلالُ بمجنزراته ودَهْمه واستباحته وطائراته على كل أشكال الحياة، بالإغلاق والحبس والحصار ومنع التجوال والتحرّك..

***

إنها المرّة الألف  وأكثر!.. التي أنحبس فيها في البيت، مثل أي فلسطيني، مُرْغَماً دون إرادتي.

واكتشفتُ أن البيت هو المكان الأخير الذي نهربُ إليه.

والبيت هو الجَمال الذي يتأمّل ذاته!

وستكتشف، وأنت بين الجدران، التجانس والتعاكس في الحياة.

وسيفتح الليلُ لك أبوابَه، لتنتشي الكمنجةُ في صدرك.. وستصل إلى الحكمة القائلة؛ لا نأتي إلى العالم، إننا نقلع عنه.. كما قال زينو بيانو.

ومن حسن الطالع أنني لم أقع في الروتين والضجر والملل، فثمة أفلام لا حصر لها، وكتبٌ تُنادي.. فلماذا سأسأل: كيف نصطاد الصمت؟

ربما سأحتاج الصمت عندما يهلّ عليّ وحيُ الشِعر، فكلّ ما ليس مُخترَقاً بالشِعر فهو خارج نطاق الحالة الطبيعية، طارئ، زائل، هامشي، ليس إلا.. كما قال المبدع جمال خيري.

ولليل موشّحاته المدهشة التي تتسرب إليك، فتجعلك ترى النجوم التي تتراقص مع العشب، بعيون ثلجية، ويحضر الجَمال الذي كنت تعتقده فظّاً، وتنسى الجلجلة  وإن كانت مزخرفة.

وتحسّ أن للنجوم أعصاباً ترقب أولئك الذين يتجمّدون في جهنم. أعني "فلاد" أو دراكولا أمير رومانيا وحاكم "فلاشيا"، إنه "ترجوفشت" أوّل مَن اخترع حرب الجراثيم.. الوقح المتغطرس، الذي تاه في الظلام، وأراد أن يعمّد الأرض بالنار والموت.. بل إنه عاش من أجل الموت!

ليته كان شاعراً ليخاطب القمر في الليل، لأن الناس تنام ولا ينعمون بجَماله.

وليته أدرك قيمة الحياة ومعنى الأخوّة الإنسانية، فالإنسان إذا لم يستطع بلوغ شيء ما.. فالأفضل ألّا يفقده.

كان يسعى لأن تقبّل الأرض قدميه، فانكبّ على وجهه وهي تلعنه.

ماذا لو كانت عيناه الهامدتان أكثر ذكاءً، فرأت البدرَ وهو يبعثر نوره على البتلات؟!

ماذا لو لامس الوردةَ بنظره!؟

ماذا لو كانت أيّامه موجة نعيمٍ، وجعل الناسَ يسبحون في بحور الأحلام الجميلة؟!

لماذا يا دراكولا لم تكن نغمة مُبَشّرة؟! وخطواتك واسعة مثل الرياح، لتزيل الجبال الناتئة من أمام القوافل؟!

لماذا لم تنتبه إلى أن بلادك/ بلادنا قد وضعتْ الجَمال في موقفٍ محْرجٍ.. لِحُسْنِها!؟

ألم تعلم أن الله تعالى قد وضع توقيعه عليها!؟

***

وأنا أؤمن أن الحبس المنزلي الإجباري، يكشف شخصيتك الحقيقية إلى حدّ كبير، ويبعثر القناع الذي تضعه لتكون مقبولاً من المجتمع.

وكلّ واحد منّا لديه طاقة، يدخل بها ويصطحبها معه في البيت، فإن كانت سلبية.. سيملأ المكان بطاقته المدمّرة الكريهة الخانقة، وإن كانت إيجابية.. فستمرع الجدران بالورود وتضحك المرايا.

والطاقةُ برأيي هي النيّة التي يحملها الشخص معه.

والبيوت تُضاء إما بالحريق أو بالسراج.

وإن أردت أن يحترمك شركاؤك في البيت (الزوجة، الأبناء..) فعليك أن تحترم قوانين الملعب الذي تمرحُ فيه، وألّا تتعدى خطوط التماس... نعم، حتى مع زوجك وأولادك!

والحبس المنزلي يمنح الرجل فرصةً، لم يعهدها، ليتعرّف على أسرته، فسيكتشف أنه لم يكن يعرفها تماماً!

وسيضطر لأن يكون مثل أسير الحرب في بيته/ سجنه؛ حسن السلوك، مطيعاً للأوامر، منفذّاً للقرارات والتعليمات.. وإلّا!!

والمرأة "الشاطرة" الحصيفة هي مَن تعامل زوجها حسب اتفاقية جنيف الخاصة بالأسرى.. وإلّا ستكون هناك إضرابات وصدامات وحرائق.. لا تُحمد عقباها.

والحبس المنزلي إجازة مفتوحة، لكنها سلاح ذو حدّين؛ الرّعب والأمل.

ولن أستدير لأناقش أيّاً من الرأيين المتعارضين القائلين إما بالمؤامرة أو إنه فايروس حقيقي بعيداً عن نظرية التربّص والتآمر، لأن كل وجهة نظر لها ما يُعزّزها، وستبدو وجيهة تُغري بالأخذ بها. وأتفق مع القائلين إن ثمة غموضاً يلفّ الفايروس وتداعياته..

وما أن توغّلت الكورونا في الأرض، وفزع الناسُ من هولها، في الشهور الثلاثة الأولى، حتى عادت الأرض لسكانها الأصليين (الكلاب، القطط، الطيور) وتوقفت الحروب والتلوّث.. وبدا أنّ استغناء الإنسان، وشعوره بالتفوّق، وعدم حاجته إلى السماء.. قد تلاشى، فعاد إلى ربّه (إنّ إلى ربّك الرُجعى)، وكلما طغى الإنسان واستغنى أو هكذا شعر.. اضطّر إلى الرجوع إلى الله تعالى، كلٌّ بطريقته.

ويبدو أن الطواعين والأمراض تتأتّى من زيادة الكهرباء والشحن السلبي في الأرض، أي المناطق الصناعية وساحات الحروب المدمّرة.

وخلال الكورونا، شعرت بأنني أتمنى السلامة لكل البشرية ولم يعد في داخلي حقد، وتمّ  تحريري من البغضاء والكراهية وصرت أتمنى أن تزول الغمّة عن كل القارات.

ورأينا أن البشرية اضطرت لأن تعود إلى التكاتف والتكامل والتعاضد، كما وجدت متّسعاً لأن تعود إلى زراعة الحدائق ورعايتها، ودُفِع الجميع لأن يعيدوا الدفء والحميمية داخل عوائلهم، وراح الناس يتعرّفون على بعضهم من جديد.. حتى داخل الأسرة الواحدة.

وأدركوا أهمية التعاون في أعمال البيت والمشاركة في إتمامها.

وبات الواحد يطلّ على متاعب الآخر، وخصوصاً متاعب النساء والأمهات.

وإنّ الأرض التي جعلتها العولمة والتكنولوجيا قرية واحدة، أصبحت في ظلّ الكورونا حارات متباعدة..

وبدأنا نلحظ خفوت حرائق وجرائم الارهابيين والمتطرفين. ويبدو أن انشغال المموّل لهم، هو السبب! ويا ليته يظلّ مشغولاً حتى نرتاح من هذه المظاهر الناتئة الظلامية القذرة.

***

وفي شقّة ليست ببعيدة.. أرى خرائط للكُرة الأرضية، تغطّي كل الجدران والممرّات، غير أن ألوانها تتدرّج من الأخضر وصولاً إلى الأصفر الخريفيّ الكئيب، ورجلٌ يمسك بنرجسة، ربما نرجسة بلاستيكية، ويقرّبها من أنفه، مراراً وتكراراً، ثم يقذف بها على غير هدى، فتسقط كلُّ الخرائط على الأرض.

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت