ورقة علمية: الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سدّ النهضة الإثيوبي

بقلم: وليد عبد الحي

وليد عبد الحي
  •  بقلم: أ.د. وليد عبد الحي.

مقدمة:

تكشف الأدبيات السياسية الصهيونية في توجهها العام مع الوطن العربي بشكل خاص عن رؤية تقوم على تقسيم البيئة العربية إلى ثلاثة أبعاد هي؛ النظم السياسية العربية، والمجتمع العربي، والدولة العربية. ولما كانت النظم السياسية العربية هي الأقصر عمراً بين الأبعاد الثلاثة، فإن التركيز في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي على المجتمع العربي والدولة العربية. فقد عرفت المنطقة العربية في فترة ما بعد قيام “إسرائيل” ما مجموعه 54 انقلاباً ومحاولة انقلابية، ناهيك عن التغير في شخص الحاكم نتيجة الموت أو المرض. ولما كان القرار السياسي الاستراتيجي في الأنظمة السياسية العربية أسير إرادة وتوجهات فرد واحد أو نخبة محدودة العدد، فإن من الأفضل لـ”إسرائيل” أن لا تبني استراتيجيتها على أساس توجهات وسياسات “الحاكم الفرد”، حتى لو كان ذا توجهات مواتية للسياسة الإسرائيلية، وإنما الخيار الأنسب هو إبقاء الدولة العربية ضعيفة مما يجعل قدرة الحاكم المعادي للتوجهات الإسرائيلية غير ذات أثر نظراً لضعف دولته.

وعليه، فان “إسرائيل” لا تغفل أهمية وجود حاكم غير معادٍ لها، لكنها تدرك أن المستوى العالي لعدم الاستقرار في المنطقة قد يقود إلى تغيرات مفاجئة، فإذا كانت الدولة والمجتمع يتمتعان بقدر كافٍ من القوة والإمكانيات، فإن مستوى الخطر يبقى عالٍ في حالة وصول حاكم معادٍ لها. ولكن في حالة وجود دولة ومجتمعين ضعيفين، فإن التغير في شخص الحاكم لن يقود لتحولات استراتيجية ضد “إسرائيل”، حتى لو أتى التغير بحاكم معادٍ لها.

في ضوء هذا التصور السابق، فان أحد أهداف “إسرائيل” في سياستها مع مصر (وبقية الدول العربية خصوصاً المركزية منها) هو إبقاء الدولة والمجتمع ضعيفين، لأن قوتهما ستقود لتغير استراتيجي في حالة وصول حاكم معادٍ لها أو توجه سياسي معادٍ، بينما إذا كان كل من الدولة والمجتمع قويين، فإن وصول اتجاه سياسي معادٍ لـ”إسرائيل” سيترك تداعيات سلبية على الاستراتيجية الإسرائيلية.

وسنحاول في هذه الورقة البحثية أن ندلل على تطبيق “إسرائيل” لهذه السياسة في تعاطيها مع أزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا.

أولاً: الإسهام الإسرائيلي في مشروع سدّ النهضة الإثيوبي:

لم يكن نهر النيل بعيداً عن الفكر الاستراتيجي الصهيوني منذ البداية، إذ إن فكرة إنشاء مشروعات صهيونية بهدف إيصال مياه النيل إلى “إسرائيل” بدأت سنة 1903 من خلال دعوات طرحها بشكل واضح ثيودور هرتزل Theodor Herzl، وعادت الفكرة للظهور بشكل واضح خلال الفترة 1964-1974، وتجددت مرة أخرى في فترة التسعينيات من القرن العشرين. [1]

ومعلوم أن موضوع إيصال مياه النيل إلى النقب في فلسطين المحتلة كان ضمن بنود المناقشات المصرية الإسرائيلية في مفاوضات كامب ديفيد Camp David Accords سنتي 1978-1979، وبدأت هذه المناقشات بشكل واضح مع دراسة اليشع كالي Elisha Kali سنة 1974، ومشروع شاؤول أرلوزوروف Shaul Arlozorov الذي عرف بمشروع (يؤر) سنة 1977، [2] وكلاهما من خبراء هيئة المياه الإسرائيلية. وترتب على هذه الأفكار طرح مشروع قناة جونجلي Jonglei Canal في جنوب السودان كوسيلة لتعويض مصر عن المياه التي ستذهب للنقب طبقاً لذلك، وهو ما أفرز مشكلات عديدة في جنوب السودان، [3] أسهمت في نهاية المطاف مع عوامل أخرى في تأجيج النزاع في السودان لينتهي بانفصال الجنوب وتحوله إلى إحدى الدول الإفريقية الأكثر تقارباً مع “إسرائيل”.

من جانب آخر، فقد أشرنا في دراسة سابقة إلى الاهتمام الواضح في الجامعات الإسرائيلية بالمياه في إفريقيا خصوصاً تلك التي لها صلة بأقطار عربية، وفي مقدمتها دول حوض النيل، [4] وهو ما يعني أن “إسرائيل” ترى في النيل مصدراً إما للضغط على مصر من خلال مساندة مشروعات دول الحوض بشكل يؤثر على حصة مصر من النهر، أو لفتح مجال تطبيع مع مصر من خلال مشاريع مشتركة تسهم خطوة للأمام في تحويل الصراع العربي الصهيوني إلى صراع “غير صفري non-zero sum game”.
جغرافية قناة جونجلي

وتقف إثيوبيا على رأس الدول الإفريقية التي تحظى باهتمام الدوائر السياسية الإسرائيلية، سواء لما تروجه الدعاية الإسرائيلية لجذور تاريخية وأخرى حديثة ومعاصرة، سواء زمن الامبراطور هيلا سيلاسي Haile Selassie (أسد يهوذا) أم الإبعاد التي ركز عليها بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu في خطابه سنة 2016 أمام البرلمان الإثيوبي (مشيراً إلى الملك سليمان)، [5] أم من خلال الإشارة للروابط السكانية (يبلغ عدد اليهود الإثيوبيين في “إسرائيل” نحو 140-150 أالف نسمة)، [6] ناهيك عن تطور العلاقة الإثيوبية الإسرائيلية، خصوصاً الدعم العسكري والتقني الإسرائيلي في فترة الصراع الإثيوبي الأرتيري، وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يؤكد الاهتمام الإسرائيلي الكبير بتطوير العلاقة بين تل أبيب وأديس أبابا. [7]

وعند متابعة الدور الإسرائيلي في تأجيج موضوع سد النهضة بين مصر وإثيوبيا خلال الفترة 2011-2020، سنتوقف عند الملاحظات التالية التي تستحق التأمل وفهم دوافعها: [8]

1. تؤكد مصادر مختلفة وجود طابق كامل في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية يقيم فيه خبراء المياه الإسرائيليون، وهم يقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، وأكد ذلك وزير الري والمياه المصري السابق محمد نصر علام، وكرره مسؤولون سودانيون من ذوي العلاقة بالمؤسسات الخاصة بالري والمياه. كما أعاد ذكره نائب رئيس الأركان المصري محمد علي بلال في أيار/ مايو 2013 متحدثاً عن وجود أعداد كبيرة من الإسرائيليين يعملون في السد الذي يتم بناؤه بتمويل غربي وأمريكي (البنك الدولي، وإيطاليا، وبنك الاستثمار الأوروبي)، وبنك التنمية الإفريقي، والصين، و”إسرائيل”.

2. نشاط الشركات الإسرائيلية، لا سيّما تلك التي لها علاقة باحتياجات بناء سدّ النهضة الإثيوبي، حيث تتواجد بشكل فاعل الشركات الإسرائيلية مثل: شركة سوليل بونيه Solel Boneh للإنشاءات في كل من كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، إلى جانب شركة أغروتوبAgrotop للزراعة، وشركة كور CORE للإلكترونيات، وشركة موتورولا الإسرائيلية Motorola Israel للكهرباء والماء، وشركة كارمل Carmel للكيماويات. ورفعت “إسرائيل” من حجم استثماراتها في قطاع الطاقة سنة 2018 بقيمة 500 مليون دولار من خلال شركة جيجاوات جلوبال Gigawatt Global، وهي شركة لها علاقات مع عشر جامعات إثيوبية، وهناك عشر مؤسسات أخرى إسرائيلية تعمل في إثيوبيا، كما أكد النائب المصري أحمد العضوي أن النشاط الإسرائيلي في إفريقيا، وخصوصاً في إثيوبيا، يستهدف التأثير على المصالح المصرية وأبرزها حصة مصر من النيل من خلال الدعم الإسرائيلي لمشروع سد النهضة. [9]

3. يلاحظ أن المشروع الإثيوبي بدأ فعلياً في سدّ النهضة في سنة 2011، وهي السنة التي شهدت بداية ما سمي بـ”الربيع العربي”، وكانت مصر في قلب هذا الحدث ومنشغلة بهمومها الداخلية وباضطرابات الإقليم الشرق أوسطي كله. وفي سنة 2013 صادق البرلمان الإثيوبي على إعادة النظر في الاتفاقيات الخاصة بتوزيع مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب، وأعلن رئيس وزراء إثيوبيا هيلا مريام ديسالغين Hailemariam Desalegn في السنة نفسها أن لا شيء سيوقف إثيوبيا عن استكمال المشروع، وأن “مصر لن تذهب للحرب إلا إذا أصيب قادتها بالجنون”. ومن الضروري التنويه إلى أن كاتب هذه السطور قام بمراجعة الخطة الخمسية الإثيوبية المعلنة 2010-2015 (أي قبل الشروع بمشروع سد النهضة مباشرة، وقبل انفجار الربيع العربي) فلم يجد فيها أي إشارة إلى هذا السد الذي سيكون في حالة تنفيذه أكبر مشاريع الخطة الخمسية. فقد أشارت الخطة تحت عنوان فرعي هو “تنفيذ الاستراتيجيات التنموية” إلى موضوعات عامة مثل الري وبناء السدود، وجاء في البند 3 ذكر تسهيل الظروف لتطوير الري الواسع والمتوسط، مثل بناء السدود والبنية التحتية ذات الصلة، وهناك إشارات عامة لتطوير الكهرباء. [10] ذلك يعني أن مشروعاً كسد النهضة بتكلفته العالية (قرابة 5 مليار دولار) في بلد عدد سكانه يساوي عدد سكان مصر تقريباً لكن إجمالي ناتجه القومي أقل من 20% من إنتاج مصر، لا يمكن أن يغيب عن خطة خمسية، وهو ما يعني أن عدم الاستقرار السياسي في مصر في سنة 2011 (التي تقع ضمن سنوات الخطة الخمسية الإثيوبية) دفعت إثيوبيا لاستغلال الظرف المصري، لا سيّما أن الشركات الإسرائيلية غذت الرغبة الإثيوبية لاستغلال الانشغال المصري بالهموم الداخلية، مع تأكيد هذه الشركات على دورها في عمليات توزيع الكهرباء التي سينتجها السد. [11] ذلك يعني أن التغير العميق الذي أصاب الخطة الخمسية الإثيوبية بدفعها نحو مشروع استراتيجي كبير لم يكن إلا اقتناصاً لفرصة الاضطراب المصري في سنة 2011 ما تبعها.

4. خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي (2020) بنيامين نتنياهو إلى إثيوبيا في تموز/ يوليو 2016 ضمن جولة في دول الشرق الإفريقي، اعلن عن سعادته لأنه أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إثيوبيا، وأكد استعداد “إسرائيل” لتقديم العون التكنولوجي لإثيوبيا لاستكمال مشاريعها مركزاً في خطابه أمام البرلمان الإثيوبي على قطاع الزراعة، وقد ورد في خطابه العبارة التالية ذات الدلالة الواضحة، قال نتنياهو حرفياً: “هذه هي رؤيتي لتعاوننا: أن يتمتع المزارعون الإثيوبيون بفوائد المعرفة know-how الإسرائيلية، ويعملون معنا لتوجيه المياه إلى كل اتجاه يريدونه”.

5. بعد تصاعد الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول آثار السد الإثيوبي، تواترت تقارير إسرائيلية، وغربية، وعربية، في 2019، عن قيام “إسرائيل” بنصب نظام دفاع جوي من نوع سبايدر إم آر Spyder-MR حول سدّ النهضة الإثيوبي يمكنه من إسقاط الطائرات الحربية من على بعد 5-50 كم، وقد قامت ثلاث شركات إسرائيلية هي شركة رفائيل Rafael المتخصصة في الصواريخ، وفرع إم.بي.تي MBT للصواريخ التابع للصناعات الجوية الإسرائيلية، وشركة أنظمة إلتا Elta المتخصصة في الرادارات، بإنجاز هذا النظام الدفاعي لإثيوبيا.

6. هناك ترابط بين المساندة الإسرائيلية لإثيوبيا في موضوع سدّ النهضة وتنامي العلاقات المختلفة بين الطرفين؛ ففي الجانب الاقتصادي يصل حجم التبادل التجاري بين إثيوبيا و”إسرائيل” حتى سنة 2019 نحو 300 مليون دولار، [12] ويصل عدد المشاريع الإسرائيلية العاملة في إثيوبيا إلى 187 مشروعاً أغلبها في الزراعة حتى سنة 2017. [13] من جانب آخر، تزايد التنسيق الأمني بين الطرفين بعد حادثين هما تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام سنة 1998 من ناحية، والهجوم على أحد المتاجر اليهودية الكبرى في كينيا من قبل مجموعة “الشباب” الصومالية سنة 2013. وتدرك “إسرائيل” أهمية إثيوبيا لتطل منها على المحيط الهندي والبحر الأحمر الذي تمر منه 20% من تجارة “إسرائيل” الخارجية، ناهيك عن الأطلال على منابع النيل، وتتعزز كل هذه الجوانب بالتعاون في التصنيع والتدريب العسكري. وتعد هذه العلاقات جزءاً من نشاط إسرائيلي متسارع في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ففي زيارة نتنياهو سنة 2016 التي أشرنا لها، رافقه فيها ممثلون عن نحو 50 شركة إسرائيلية، وأدت لتوقيع اتفاقيات مع إثيوبيا (الزراعة، والسياحة، والاستثمار)، ومع كينيا (الصحة، والري، والزراعة، والهجرة)، وتمّ الاتفاق على قيام “إسرائيل” بفتح مكتب للتعاون التنموي مع دول المنطقة، ولـ”إسرائيل” مشاريع أيضاً للري في راوندا مع شركة إبوني Ebony الإسرائيلية منذ 2007، ناهيك عن توقيع ألمانيا وكينيا و”إسرائيل” في سنة 2012 اتفاقية تعاون لتنقية مياه بحيرة فكتوريا (مساحتها 69 ألف كم2)، والتي تعد مصدراً أساسياً لمياه النيل، إلى جانب أدوارها الأخرى في المنطقة، مثل دورها في النزاع الأرتيري اليمني على جزيرة حنيش، ودورها في دعم انفصال جنوب السودان، ومساندة سيلفا كير Salva Kiir في جنوب السودان ضدّ زعيم المعارضة رياك مشار Riek Machar…إلخ.

ذلك يعني أنه إلى جانب العلاقات الثنائية الإثيوبية الإسرائيلية، فإن تنامي المصالح الإسرائيلية في الشرق الإفريقي يدفع “إسرائيل” لإيجاد قاعدة آمنة لحركتها في هذه المنطقة، ويبدو أن التوجه العام الإسرائيلي هو نحو اعتماد إثيوبيا ركيزة لهذه الحركة.

7. التحريض الاعلامي والسياسي على مصر؛ فقد أشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن السياسات المائية المصرية أضرت بالمصالح الإثيوبية، فقد ذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل The Times of Israel في أحد مقالاتها إلى أن “عواقب هذه السياسات المصرية قد أضرت بشدة بإثيوبيا على مدى عقود، وإن إثيوبيا، الغنية بالمياه، مكبلة باتفاقيات ملزمة قانوناً بعدم استخدام مواردها المائية لتوفير الشراب لسكانها البالغ عددهم 90 مليون نسمة، أكبر من سكان مصر، وهو ما جعلها تعاني فترات طويلة من الجفاف والمجاعة”.

8. محاولات ربط المواقف المصرية في مشكلة السد بالموضوع الفلسطيني؛ فبعض الباحثين توقع أن “إسرائيل” ستربط ضغوطها على إثيوبيا لتخفيف تعقيدات سدّ النهضة على مصر بأن تزيد مصر الضغوط على الفلسطينيين في مجال التسوية العربية الإسرائيلية أو ما يتفرع من مشكلات إسرائيلية مع الفلسطينيين. [14] وترى دراسة لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي أن الديبلوماسية البراجماتية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورغبته في مساعدة دولية لمصر على حلّ مشاكلها المائية، يفتح فرصة للديبلوماسية الإسرائيلية لاستغلالها لمزيد من تطبيع العلاقة المصرية مع “إسرائيل” على المستويين الرسمي والشعبي، مع العمل على توسيع دائرة التعاون في هذا المجال مع الأردن والسعودية والسلطة الفلسطينية لتعزيز فكرة تحويل الصراع العربي الصهيوني من صراع صفري إلى صراع غير صفري.

ثانياً: أخطار السد على الأمن القومي المصري:

تشير أغلب الدراسات، إلى أن محاولات إثيوبيا التهوين من أخطار السد يتم بمشورة الخبراء الإسرائيليين، فعلى موقع وكالة التعاون الدولي الإسرائيلية ماشاف MASHAV على الفيسبوك في 3/12/2019، بالإشارة إلى أن 20 خبيراً إسرائيلياً في مجال المياه والزراعة يشاركون في تقديم الخبرات لإثيوبيا في هذا المجال، [15] لكن النسبة العظمى من الخبراء المصريين وغيرهم يؤكدون المخاطر الكبرى المحتملة على مصر، وتتمثل في الآتي: [16]

1. لأن السد يقام على منطقة فلق زلزالي، فإن احتمال انهياره لاحقاً تحت تأثير زلزال يزيد عن 4 درجات على مقياس ريختر قد ينتهي إلى إغراق مساحات واسعة من مصر والسودان (التي يبعد السد عن حدودها نحو 40 كم فقط)، مما قد يقود لخسائر بشرية كبيرة من المصريين والسودانيين. ووفق المخططات الأمريكية للمشروع، والتي بدأت لفترة تعود لسنة 1964 من خلال مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي US Bureau of Reclamation، فإن المنطقة التي سيقام فيها السد تتسم بالهشاشة الجيولوجية التي تجعلها أقل قدرة على تحمل تخزين أكثر من 11 مليار م3، فهي امتداد لما يسمى الأخدود الإفريقي أو حفرة الانهدام الكبير Great Rift Valley، [17] ولعل ذلك هو ما دعا الخبراء المصريين إلى دعوة إثيوبيا لتقليص التخزين من 74 مليار م3 إلى أقل من 30 مليار م3. [18]

2. تعتمد مصر بنسبة تتراوح بين 80-85% من حصادها المائي على النيل، ويقدر الخبراء أن ملء سدّ النهضة خلال فترة ما بين 3-5 سنوات سيقود إلى تراجع 20% من حصة مصر البالغة 55.5 مليار م3 طبقاً لاتفاقيتي 1929 و1959، وعليه يتراجع نصيب الفرد المصري من المياه من 2,500 م3 سنوياً إلى 600 م3.

3. إن ملء سد النهضة قد يقود إلى أن يبقى السد العالي فارغا لمدة 12 عاماً طيلة فترة الملء الإثيوبي، وهناك خلاف بين مصر التي تطلب أن يتم ملء السد خلال 10 سنوات وإثيوبيا التي تسعى لملئه خلال 3 سنوات، وهو ما قد يقود إلى سلسلة من النتائج السلبية الكبرى أهمها: [19]

‌أ. جفاف الري عن مساحة واسعة من الأراضي الزراعية، مما سيؤدي إلى تقليص المزروعات التي تحتاج كميات كبيرة من المياه مثل الأرز، حيث يقدر أن تنخفض المساحة المخصصة لهذا المحصول الأهم لسلة الغذاء المصري من 1.8 مليون فدان إلى 724 ألف فدان، أي نحو 40% من حجم المساحة الحالية في سنة 2020.

ب. انخفاض منسوب المياه الجوفية وخسارة مصر ما بين 11-19 مليار م3 من المياه.

ج. تداخل مياه البحر مع المياه في الدلتا المصرية مما يقود إلى ارتفاع نسبة الملوحة في التربة وجعلها أقل صلاحية للزراعة.

‌د. التلوث وتهديد الثروة السمكية

ه. تراجع الطاقة الكهربائية في مصر بين 25-40%.

4. إن مواصلة إثيوبيا لمشروعها قد يغري بقية دول الحوض الأخرى لبناء سدود مماثلة مما يفاقم الاخطار السابقة الذكر على مصر والسودان، ويغرق الشرق الإفريقي ومنطقة حوض النيل في نزاعات عميقة ومدمرة.

الخلاصة:

لقد أشرنا في بداية هذه الورقة البحثية إلى أن “إسرائيل” معنية بإضعاف أيّ دولة عربية “أكثر” من عنايتها بإضعاف الأنظمة العربية مع أهمية إضعاف الأنظمة، لكن تغير النظام السياسي غير المعادي في دولة ضعيفة وتحوله إلى نظام معادٍ لـ”إسرائيل” لن يكون له تأثير استراتيجي نظراً لضعف الدولة، لكن تنامي قوة دولة عربية تقنياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو اجتماعياً هو رصيد لأي نظام سياسي يأتي معادياً لـ”إسرائيل”، وعليه فالضمان الحقيقي لأمن “إسرائيل” هو بقاء الدولة ضعيفة.

ونعتقد بأن “إسرائيل” تدرك مركزية المكانة المصرية في النظام الإقليمي العربي، وعليه فإن تغير النظام في مصر إلى نظام معادٍ لها سيكون له مخاطر أمنية كبيرة على “إسرائيل” إذا كانت مصر قوية، وعليه لا بدّ من إبقائها ضعيفة سياسياً (بإضعاف مركزيتها الإقليمية والدولية)، واقتصادياً (بحرمانها أو التأثير على مواردها المركزية ومنها النيل)، وعسكرياً بإغراقها في مواجهات داخلية (في سيناء)، وعلى حدودها مع ليبيا والسودان (حول حلايب وغيرها)، ومع إثيوبيا…إلخ.

أخيراً، جاء في حوار بين رئيسة وزراء “إسرائيل” السابقة جولدا مائير Golda Meir، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر Henry Kissinger أن مائير قالت لكيسنجر “إن نظم الحكم في العالم العربي عرضة للتبدل والتغير، لنفرض أن حدثاً جرى للسادات، وأن أحداً أكثر منه عداء أتى للسلطة، فما مصير كل هذه الاتفاقيات؟”. [20] وهو ما نستنتج منه أن إضعاف الدولة هو الاستراتيجية الأنسب على الرغم من أهمية إضعاف النظام.

(خاص بمركز الزيتونة).

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت