واستمرت المشاكل. وصلنا خبر إلغاء الاحتفال الرسميّ، الذي كان من المفترض أن يشارك فيه الرئيس الفلسطينيّ. من جهة، لم يكن من اللّائق تنظيم احتفالات بوجود هذه الأخبار، ومن جهة أخرى، دخل الجيش الإسرائيليّ إلى رام الله(وهو أمر غير قانوني بحدّ ذاته، إذ تُعتبر المدينة ضمن منطقة فلسطينيّة مستقلّة) وحاصر منزل الرئيس. وضع الجيش الإسرائيليّ حواجز هنا وهناك، وأغلق الطرقات والمعابر. حول هذه الحواجز، تحلق الفلسطينيّون في تظاهرات، راشقين حجارتهم ومُضرمين النار في أطر السيّارات.
كان الليل صاخبًا جدًّا: طلقات وانفجارات طوال الليل. عمّق الجيش الإسرائيليّ احتلاله، ودخل مخيّمًا للّاجئين يبعد عن مبنى جمعيّة الهلال الأحمر مئات الأمتار فقط. كان من المُفترض أن نخرج نحن إلى مطار تل أبيب نحو الساعة السادسة والنصف صباحًا، لكن على بعد 200 إلى 300 متر عن المبنى، أقاموا حاجزًا إسرائيليًّا، وأغلقوا طريق الخروج. جرت محادثات مكثّفة بين جمعية الهلال الأحمر، والمندوبين عن الصليب الأحمر(فكان من المفترض أن يستقلّ المندوبون عن الصليب الأحمر الأيسلنديّ طائرتنا ذاتها)، وأشخاص بوسعهم إعطاء معلومات عن الشوارع المفتوحة، ليتسنّى لنا الخروج من المدينة. كان من المفترض أن نذهب نحن بسيارة أجرة، إلّا أنّ ذلك كان مستحيلًا. في النهاية، حظيت سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر بإذن للخروج في طريق محدّدة مسبقًا، وتابعتها سيارة الأجرة الخاصّة بنا، عبر متاهة من الشوارع. في طريق الخروج، مررنا بقافلة من الجيبات المدرّعة والمدفعيّات التي رافقت جرّافة كبيرة، ولا شكّ في أنّها كانت في طريقها لهدم بضعة منازل في المخيّم القريب من مقرّ الهلال الأحمر. (وهو ما تأكّدنا منه في وقت لاحق، بعد وصولنا إلى السويد، حيث رأينا صور المنازل المهدّمة على صفحة الهلال الأحمر). لكنّنا تابعنا مسارنا، وعل بعد کیلومتر أو أكثر من نقطة انطلاقنا، لاحظنا أنّ الحياة تستمرّ كالمعتاد، ورأينا أولادًا وبناتٍ يحملون حقائبهم المدرسيّة في طريقهم إلى المدرسة. هذه طريقة أخرى من طرق المقاومة في فلسطين: لن تستطيع إسرائيل أن تهدم حياتهم!!
استطعنا أن نختبر ذلك الشعور أيضا في مبنى الهلال الأحمر قبل رحيلنا. فقد فتحوا صالة المؤتمرات لإيواء نساء وأطفال من مخيّم اللاجئين المجاور الذين قدِموا هروبًا من الاقتحام الإسرائيليّ. كانت الساعة السادسة صباحا. هناك، تمكّنوا من الحصول على المأوى، والماء، ودورات المياه، والرّاحة. كان الصغار يتراكضون، ويضحكون، ويلعبون في المساحات الكبيرة. أمّا المراهقات فتجمّعن أمام المرايا الكبيرة في دورات المياه لترتيب تصفيفاتهنّ... أعطتهنّ إيفا قلم الحمرة الخاصّ بها، ففرحت الصبايا وبدأن بدهن شفاههنّ. كانت هناك أيضًا نساء حبالى -على وشك الإنجاب- وكنّ يمشين أو يرتحن. كانت هناك أيضًا طفلة تجوب الأروقة حاملةً قطّة ملفوفة ببطانيّة. عندما سألناها عن القطّة، أخبرتنا بأنّها لم ترغب بترك قطّتها في المخيّم، لأن القطّة السابقة قُتِلت بالرّصاص الإسرائيليّ... لم ترغب بأن تلاقي هذه القطّة المصير ذاته. كلّ هذه هي علامات صغيرة تعبّر عن معنى العيش تحت الاحتلال.
كان لدينا موعد رائع مع "الفتاة التي ردّت"، عهد تميمي، بحضورك من حيفا لوداعنا عزيزي حسن. قدّمنا هدية تضامن من ناد رياضي في جوتنبرج ، PFF ، إلى قريتها نبي صالح. حدّثتنا عن كيفيّة معاملة إسرائيل الفظيعة للأطفال والشباب الفلسطينيين في السجن بسبب كفاحهم ضد الاحتلال غير القانوني، كان اللقاء صادمًا. إنها تمثّل الشباب الفلسطيني الذين يظهرون رغبتهم في عدم الاستسلام لطاغية الاحتلال ولكنهم يواصلون النضال من أجل إحقاق الحق في بلد خال من القمع الأجنبي.
استحوذت الأخبار التلفزيونية على اهتمامنا. مرة أخرى ، دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي رام الله، جنود وسيارات مسلّحة في مسيرة لمهاجمة مخيم اللاجئين بالقرب من المقر الرئيسي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
المشاعر التي حملتها معي كانت مشاعر إقرار: فلسطين عبارة عن سجن كبير -هو في الآن ذاته أرضه الخاصّة- حيث عليك أن تحارب يوميًّا للحفاظ على كرامتك، بأفضل طريقة ممكنة، لأنّ كلّ فعل هناك هو تأكيد على الكرامة. تذكرت بأنّنا کسجناء خُضنا صراعًا مشابهًا - صراع الأفعال الصغيرة التي تأكّد على كونان مسجونين/محتلّين، لكن دون الهزيمة أو الاستسلام. أظهر الفلسطينيون لنا ذلك في كل لحظة: بواسطة حجارتهم، بواسطة الكاوتشوك المُشتعل، بواسطة أقلام الحمرة، بواسطة القطّة المغلّفة ببطانية، بواسطة حقائبهم المدرسيّة، بواسطة مراكز التضامن والمساعدة كي يتسنّى للجميع أن يحظوا بمكان في الحياة - كلّ تلك الأفعال تثبت أنهم لا يستسلمون ولم يهزَموا، وأنّهم أناس يصونون كرامتهم، ولا ينكسرون حتّى في مواجهة تلك القوّة العسكريّة العاتية المتجسّدة في الجيش الإسرائيليّ.
قبل انطلاقي في تلك الرحلة، كانت لدي أفكار متشائمة جدًّا بخصوص مستقبل الفلسطينيّين. الآن أعرف أنّ في الحقيقة لدى إسرائيل طريقة واحدة فقط کی تنتصر. لأنّها لا تستطيع أن تنتصر بقتل آلاف الفلسطينيّين، أو بأسر آلاف الفلسطينيّين الآخرين. الطريقة الوحيدة كي ينتصر الإسرائيليّون هي فقط باغتيال جميع الفلسطينيّين، كلّ واحد من ملايين الفلسطينيين. وأعلم أنّه تبقَّى للفلسطينيّين أعوام، وربّما عقود، من العذاب.
لأنّهم لن يُهزَموا. لأنّ لديهم كرامة ورغبة في الحياة.
لكن بودّي أن أصدّق أنّ هذا الصراع لن يكون طويلًا، بمساعدة التضامن الذي يمكنه أن يقدّمه أيّ إنسان ذي حسّ بالعدالة.
أما الشعور الآخر الذي انتابني هو أنّ الفلسطينيّين أظهروا، من خلال الاحترام الذي يكنّونه لإيفا والمعاملة الحسنة، أنّ لديهم ذاكرة. فكما نحارب في الأرجنتين من أجل إبقاء الذاكرة على قيد الحياة، هكذا يفعل الفلسطينيّون أيضًا. ولن ننسى أن الشعب الذي يصون ذاكرته، يصون كرامته. وإنّ کونِك جزءًا من هذا الصراع، كما هي حال إيفا، لشرف عظيم!
غوتنبرغ، 6 كانون الثاني، 2019
سميرة حمد(إيڤا شتّال)
(الحلقة الحادية عشرة)
*** هذه الحلقة الحادية عشرة (الأخيرة) من انطباعات الزعتريّة سميرة (إيڤا) حمد(شتّال)؛ من مواليد 1948 في مدينة جوتنبورج السويديّة، درست التمريض وبفضل نشاطها التحقت عام 1974 بالعمل التطوّعي في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، تزوّجت من يوسف حمد، الناشط السياسي، ابن قرية الخالصة شمال فلسطين، الذي استشهد خلال القصف على مخيّم تل الزعتر جراء قذيفة هاون أدّت بالوقت نفسه إلى إصابتها بجروح بالغة، نتج عنها بتر ذراعها الأيمن وكسور في الفخذ الأيسر. بعدها بأيام فقدت الجنين في شهرها الرابع. رفضت سميرة، رغم إصابتها، مغادرة المخيّم المُحاصَر رغم جهود الحكومة السويديةّ في العمل على إخلائها عن طريق الصليب الأحمر الدولي، أصرّت على أن تُقاسم الأهالي مصيرهم. عند خروجها عادت إلى السويد وأكملت علاجها ونشاطها في المجال الصحي، مساعدة أطفال اللاجئين القادمين من مناطق القتال ومساعدة النساء، ما زالت مرتبطة بمساعدة أطفال اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات لبنان، وما زالت تحمل رسالة المخيّم عبر البحار.
*** شكرًا للأديب الفلسطيني سهيل مطر على ترجمة الرسالة من الإسبانيّة للعربيّة.
*** تُنشر تزامنًا مع نشرها في صحيفة "المدينة" الحيفاويّة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت