- سري سمور
- كاتب ومدون فلسطيني
من الواضح تماما أن (تيار التطبيع العربي) مع المشروع الصهيوني لم يفهم مسألة أساسية في التركيبة العقلية الجمعية للشعب الفلسطيني، وبناء على سوء التقدير وضحالة الوعي بهذه المسألة؛ بنى حسابات ورسم خططا ستصطدم بجدار صلب وسيعض القوم الأنامل ولات حين مندم. المسألة الأساسية المركزية هي أن الفلسطينيين مهما وصل حد الخلاف بل لنقل التنافر والخصام والاقتتال فيما بينهم، لا يقبلون أن يحدد لهم أحد مسار قضيتهم ويقرر مصيرهم نيابة عنهم، سواء أكان هذا الساعي الواهم صديقا حميما وداعما مساندا، أم كان عدوا في الخصام مبين، أم كان يلبس ثوب المحبة على قلب الكراهية، أو غير ذلك.
الشعب الفلسطيني هو 13 مليون إنسان بعضهم يعيش في الداخل وبعض في الخارج ولكل مجموعة، بل لكل فرد ظروف موضوعية خاصة؛ وليس للفلسطينيين بحكم واقعهم منهاج دراسي واحد، أو جيشا وطنيا يخدمون فيه، ولا كيانا سياسيا قوانينه ونظمه ووثائقه تمسهم جميعا، ومع ذلك فقد حافظ الفلسطينيون على وحدة معنوية لا نظير تجاه القضايا المصيرية، وانصهرت جموعهم في التصدي إلى النكبة بل النكبات التي أصابتهم، وفي وعيهم الجمعي قرار بأنه لن يسمح لأي قوة في العالم أن تقرر مصيرهم، اللهم إلا إذا احتشدت الجيوش وقررت تحرير أرضهم، وما عدا ذلك عندهم مرفوض، ولو بدا منهم شيء من المرونة أو التغافل، في بعض المحطات، يبدو أنها غرّت من يجهل طبيعتهم.
وبمنتهى الصراحة فإن الفلسطينيين تتقاذفهم تيارات فكرية متخاصمة، وأجندات متصارعة، وينقسمون على أنفسهم، ومجاميعهم تتحالف مع أطراف متناحرة ومتنافسة غالبا، ولكن كل هذه الخلافات والخصومات تتحول إلى حالة وحدة مستفزّة مستنفرة، حين يرون أن هناك مساع من أحد ما، لتصفية قضيتهم وتقرير مستقبلهم، مهما كان حجم الترهيب والترغيب.
الإخوان المسلمون والشيوعيون نقيضان من الناحية الأيديولوجية، ولكن في سبيل التصدي لقرار التدويل سنة 1957 في قطاع غزة وضع الخصمان أيديهما في أيدي بعض وتمكنا من إحباط تلك المحاولة.. نعم بعدها عاد الخلاف ربما أكثر من السابق بينهما، بل حتى هذا الإنجاز كل منهما يقول أنه هو من جرّ الآخر ليلتحق به، كل هذا لا يغير من حقيقة يفترض بأي دارس للعقلية الفلسطينية أن يستوعبها وألا تغيب عن ذهنه طرفة عين: إن الخلاف الأيديولوجي والسياسي، واختلاف المرجعيات أو تصارع الداعمين، وغير ذلك لا قيمة له ويرمى وراء ظهورنا حين نشعر بأن قضيتنا وتقرير مصيرنا محل عبث أو تدخل من أي كان.
جمال عبد الناصر لا زال بعض الفلسطينيين يبجلونه ويعلقون صوره في بيوتهم ومتاجرهم، ولكم حمل مواليد من شعبنا اسم (جمال) تيمنا به، وبالطبع حينما كان رئيسا كان هناك كثير من الفلسطينيين يحترمونه ويبجلونه كثيرا؛ ناهيك عما امتلكه الرجل من زعامة معنوية طاغية لم يحظ بها أي زعيم في الإقليم في العصر الحديث، ومع ذلك حينما وافق الزعيم على (مشروع روجرز) كان الرفض القاطع لهذه الخطوة من م.ت.ف وصولا إلى حوادث خطف الطائرات من قبل الجبهة الشعبية؛ فاحترام بل تقديس الزعيم من قبل كثير من العرب وحتى أكثر الفلسطينيين لا يعطيه تفويضا بتقرير مصير شعب فلسطين وإنهاء قضيتها بهذه الطريقة…فهذا عبد الناصر الذي كان يخوض حرب الاستنزاف وقدّم نفسه عدوا للصهيونية والإمبريالية، لم يتمكن من وضع القضية الفلسطينية في جيبه أو احتواء القائمين عليها من أهلها، فكيف بمن يقدم نفسه عدوّا للشعب الفلسطيني، أو على الأقل متنصلا من مسئولياته الأخلاقية والقومية والدينية تجاهه، ويسلّط أدواته الإعلامية لشتمه، ولم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل؟ كيف غابت هذه الحقيقة عن تيار التطبيع؟
أعلم أنهم راهنوا-ورهانهم خائب وخاسر- على انقسام الفلسطينيين خاصة أكبر فصيلين عاملين (فتح وحماس) وعلى تغير الظروف الدولية والإقليمية، بحيث سوّلت لهم أنفسهم المضي في هذا المسار، ولكن هم لم يدركوا أنه لو وقف العالم كله ليس فقط الحكومات بل معها كل الشعوب-مع استحالة هذا- كي تقرر مصير شعب فلسطين، لوجدوا دون ذلك خرط القتاد، وأيضا فإن تغير الظروف الإقليمية والدولية زاد في عقل الفلسطيني الباطن من الخوف والحرص والحذر، وليس العكس مثلما يظنّ المهرولون إلى مسار التطبيع مع الكيان العبري.
كان ياسر عرفات زعيما لم يسبق له مثيل في إمساكه بقواعد المعادلة الفلسطينية، ومع ذلك وجد معارضة شديدة، حتى داخل حركته فتح، حينما وقع اتفاق أوسلو، مع أنه وعبر أكثر من وسيلة، قال بأن الاتفاق ليس نهائيا، وهو مجرد إعلان مبادئ وأنه سيعود إلى مسار المقاومة-كما حصل- في حال تنكرت إسرائيل وحاولت التنصل مما وقعت عليه، مع شرح مسهب لحال الشعب الفلسطيني وظروفه الاستثنائية الحرجة، في ظل ما جرى في العالم والإقليم…كل هذه التبريرات لم تجدي نفعا عند قطاع واسع من الشعب الفلسطيني…ولكن حينما حاول الاحتلال بوقاحته وصلفه المعهود التخلص من عرفات ودفنه حيا ومحاصرته بالدبابات، والطلب منه إصدار بيان اعتزال واستسلام، كان شباب حماس والجهاد والجبهات في مقدمة صفوف من تصدى لقوات الاحتلال رفضا لهذا الاعتداء والاستكبار وارتقى منهم شهداء يدافعون عن رجل لم يخفوا اختلافهم مع توجهاته، حدّ السخط منها، والسعي إلى تثبيطها، ولكن عند ساعة الاختبار كانوا معه صفا واحدا بلا أدنى تردد، ولم يختاروا الحياد السلبي إطلاقا….هل يعلم المطبعون هذا؟ أم يرونه أمرا عاديا روتينيا؟ أم تناسوه فسقطوا في قعر سوء الحسابات والتقديرات؟
الأمثلة كثيرة وأكتفي بهذا النزر اليسير منها؛ للتذكير والإعلام والإعلان: لا تقاتل الفلسطينيين مع بعضهم، ولا انقساماتهم مهما كثرت وتكاثرت، ولا خصوماتهم السياسية، ولا تبايناتهم الفكرية، تعني أنهم يسمحون بتصفية قضيتهم وتجاوز حقوقهم، ومحاولة تقرير مصيرهم من كائن من كان، وكل هذا التشظي يتحول إلى كتلة لهب متدحرجة حين يشعرون بأن حقوقهم باتت محل مساومة، ومصيرهم ثمة من يريد أن يقرره نيابة عنهم، ومن فعلوا أو سيفعلون ذلك برهانٍ على هذا التشظي وسوء الحال، فإنهم قد أساءوا فهم ماهية العقلية الفلسطينية وحساباتهم ورهاناتهم مصيرها القريب هو الخسران المبين.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت