يوميات لاجئ ..

بقلم: على طقش

على طقش
  • بقلم /علي طقش
  • مستشار وخبير تخطيط استراتيجي


- معسكر خانيونس 29 أكتوبر 1956
 العاشرة صباحا يوم مشمس جميل... دافئ نوعاً ما في هذا الوقت من الشتاء، معسكر خان يونس الغربي الحديث نوعا ما والمقام على أراضي تسمى ( السوافي )وهي أرض رملية تتكون من كثبان الرمال المتحركة عندما تهب الرياح... وهى كثيراً ما تهب في الصيف وفي الشتاء تصاحبها عواصف رملية تملأ العيون والأنوف والأفواه بالأتربة، كما تملأ ما في البيوت من فرش أو أواني قليلة.
 كنا قد انتقلنا إلى هذا المعسكر والمنزل حديثا منذ أقل من سنتين، بعد رحلة تنقل شملت الأربع جهات وكافة مناطق مدينتي غزة وخان يونس، حيث عشنا في منازل مستأجرة أو غرف مستأجرة كانت والدتي تدفع أجرتها من النقود النادرة و القليلة وغير المتاحة في تلك الأيام أو السنوات الأولى من الهجرة... هجرتنا من قريتنا سدود على الساحل الجنوبي لفلسطين وإحدى أقدم مدن فلسطين حيث يرجع تاريخها إلى الهجرات الأولى من تاريخ فلسطين المكتوب، حيث كانت تعرف من ضمن أسماء أخرى بسد الروم .
كان هذا المنزل هو الثاني الذي أنتقل إليه في هذا المعسكر بعد قصة كفاح ومشقة كان بطليها والدتي وأخي عبدالله، لتثبيت حقنا في السكن و التموين و الدراسة كلاجئين.
 في هذا اليوم المشمس كان بعض الأطفال قد خرجوا للعب في الشارع الواسع هرباً من الواجبات المدرسية و ضيق المنازل، قبل التوجه إلى مدارسهم في الفترة المسائية بعد خروج وانتهاء الفترة الصباحية، وضع لازال قائما في مدارس فلسطين حتى يومنا هذا وهو استخدام الفصول المدرسية لفترتين لنقص المدارس.
كنا نلعب رغم برودة الجو في مثل هذا الوقت من السنة، و كان أحلى الألعاب في هذه الأوقات هي الألعاب بالمياه المتسربة من حنفية المياه الوحيدة التي تزود سكان المعسكر بالمياه العذبة... كانت المياه تتسرب من الماسورة الوحيدة الواقعة أمام منزلنا في المعسكر، وأنا أستعمل كلمة منزلنا تجاوزاً فهو لم يكن منزلا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ كان عبارة عن غرفتين من الإسمنت بسقف من القرميد وحوش تم بناؤه من الرمل والطين في البداية، ولم يكن فيه أي من الملحقات أو المرافق ( حمام أو مطبخ أو صالة ….. الخ) كما أنه غير مزود بالمياه أو الكهرباء، مجرد غرفتين بسقف لا يحمى من البرد ولا الحر.
 في أيام الشتاء وهى طويلة وممطرة كان علينا أن نقضي ليالينا وأيامنا في معالجة المياه المتسربة من السقف و المياه الجارفة في شكل شلالات من المياه المتدفقة من الأمطار تجرف أمامها الحوش و أساسات الغرف..
 كنت ألعب وصديق لي يسكن في المنزل المجاور غير عابئين ببرودة المياه أو الجو كنا مشغولين عن كل ذلك ببناء قصور من الرمال... كنا نحلم ونشق قنوات كبيرة وصغيرة تحيط بقصورنا الرملية... كنا حفاة وملابسنا في الغالب ممزقة ولم نحصل على وجبة الإفطار المعتادة لقلة ذات اليد لدى أهلنا، أملا في أن نتمكن من الحصول على وجبة بعد الظهر بعد عودتنا من المدرسة... أما الوجبة المدرسية كانت عبارة عن كوب من الحليب الجاف المذاب في المياه، بالإضافة إلى ملعقة من زيت السمك... وكانت اسوأ وجبة بل قل علقة... اذ كنا جميعا بدون استثناء نحاول بكل الوسائل التهرب من تناول تلك الوجبة ولكن دون جدوى .
 كنت أنا وصديقي وجاري سعيد نحفر قناة صغيرة، عندما قيل فجأة هذه قناة السويس التي أعلن عبد الناصر تأميمها، لقد سمعت والدي يتحدث عن حرب كبيرة ولكنه قال أننا سننتصر... عبد الناصر والجيش المصري سينتصرون وسوف نعود إلى بلادنا وأرضنا وكرومنا وبياراتنا ومشاغلنا... نعم، مشاغلنا نسبة الى المشغل وهو ورشة صناعة الأقمشة المجدلاوية و الثوب المجدلاوي... فقد كان سعيد وعائلته من مدينة المجدل التي اشتهر أهلها بالنسيج قبل الهجرة و استمروا بالعمل بها بعد الهجرة .
سرحنا لفترة في الأخبار وكلام الكبار وهمومهم ومشاغلهم ونسينا طفولتنا و قصورنا وقنواتنا... فجأة صاح علي انتبه المياه تخطت القناة واندفعت في مسار جديد متجه إلى دارنا... آه، سوف يسعد ذلك أمي فهي تحب المياه، تستخدمها في ري الريحان و النعناع وبعض شتلات الورد .
كانت والدتي وإخوتي دائمي المحاولة في تجميل الدار، وتنظيفها بالقليل المتاح لهم . ولقد كنت وأخي ياسين الذي يكبرني بأربعة أعوام نجتهد في عمل طاولات وأبواب وشبابيك وتصليح السقف بما تعلمناه في دروس الصناعة وبما يتوفر تحت أيدينا من أخشاب... وصلوا مفتشي الوكالة يمروا على البيوت ويتفحصوا النظافة والترتيب "مبارح اجوا عندنا وشافوا البيت من جوه ، وأعطوا امي جائزة عشان بيتنا أنظف بيت واحلى بيت" .
 قال على : الله اله
قال سعيد : اسمع... اسمع صوت طيارة... صوت عالي ومفزع صوت بيقرب علينا... ارمح... ارمح ،تنتخبا بالبيت أحسن
 قال سعيد لعلي: لا يهود ولاشي... ايش يوصلهم عنا هدى طائرات المصريين . مش قالوا إنهم راح يضربوا اليهود علقة...
فجأة جاءت أصوات الأهالي، خائفة، مذعورة من كل صوب
"ادخلوا البيت هدى طيارات اليهود... صوتها عالي وبتخوف"
"أنا ذاكره من أيام البلاد لما هجموا علينا في المجدل عام 1948" كان هذا صوت أبو إبراهيم الأفندي والد صديقي سعيد .
" يلا، قوموا ادخلوا الدار احسن أنا سامع صوت رشاش أو مدفع طائرة"
 أكمل أبو إبراهيم...
عدنا ونحن نرتعد خوفا من شيء مجهول طيارات... ورشاش ومدافع وحرب... كنت أسمع عن هذه الأشياء من أهلي والجيران... قالوا :"اليهود قبل الهجرة بعتوا طيارات وسيارات مصفحة وسمعوا أصوات مدافع وإن اليهود بعتوا طائرات بترمي قيازين على الناس من الطيارات" .
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي.. وخوف لا أدري ماسببه... أحست أمي بما أشعر به فاحتضنتني.
 حاولت التحدث معي عن البيارات و عن أرضنا و كروم العنب ولكن بدون فائدة , انا أشعر بخوف فظيع هذه المرة ترتجف له مفاصلي... أنا خائف... طائرات، مدافع رشاشات اليهود، أنا خائف لم يعد حضن أمي كافي لإعطائي الطمأنينة كنت أشعر بحاجتي لشيء آخر شيء لا أملكه ولم أملكه من قبل... إلا أنني سمعت عنه كنت بحاجة إلى حضن الأب الذى لم أره .
 أصوات بالخارج: "انظبوا أدخلوا البيوت"
صوت الطائرات أعلى و أوضح... سمعت صوت في الشارع: "طيارات اليهود طخت على الناس في سوق الأربعاء والناس ارتعبوا"
 الموت يأتي فجأة.. الشهادة، اليتم، فقدان الأحبة والحماية... الموت بالطيران، بالمدافع الموت بالغدر، يأتي فجأة... يحصد زهرة الشباب، يطفئ مقل العيون ومهج القلوب يقتل الأمل... إنه حسن الأفندي، زينة شباب المعسكر... كان يكبرنا بأربع سنوات كان قليل الكلام نادرا ما يتوقف معنا للعب، يتصرف كالرجال، قليل الظهور، كان كالنسمة... نسمة الربيع في بلادي فلسطين... التي تحمل عطر زهور البرتقال و الياسمين... لم يكن له عداوات مع أحد... كان يحبنا جميعاً...
 وكنا نحبه جميعاً كان وجهه كوجه القمر... ذو عينين واسعتين، زرقاوين كساحل المجدل، وشعر كستنائي متهدل على جبينه... ترك حسن المدرسة ليساعد أباه في أعمال النسيج و صناعة الثوب المجدلاوي والمالطي...الثوب المجدلاوي ذو الألوان الزاهية الجميلة المعروف والمحبوب لدى نساء أهل قرى الساحل الجنوبي من فلسطين .
مات... قتل... استشهد حسن... جاء الخبر...نزل على المعسكر كالصاعقة..
" طخوه اليهود كان في سوق الأربعاء... فجأة ظهرت أم الغريب، الغولة، الحداية، أم بريص، أبورجل مسلوخة" جاءته كالتنين تنفث سموم نارها المحرقة... أطلقت زخات من الرصاص... من رشاش "فكرز" اسم جديد يدخل الى المفردات المحدودة في الذاكرة لطفل كل ما يعرفه حضن الام وحنان الأخوات والإخوة ومودة الجيران... طائرات الاحتلال أطلقت زخات الرصاص على الناس في السوق لم تفرق بيت إنسان أو حيوان أو طير أو أكوام البطيخ... نفثت حقدها على الجميع... رصاص يطلق على المدرعات وليس الإنسان الآمن في السوق .
وصل جثمان حسن... رصاصة أصابت جسد حسن الغض... قتل حسن دون أي ذنب اقترفه... جريمته أنه أطاع أمه وذهب إلى السوق كي يشترى ما يحتاجه البيت فارق الحياة دون أن تتمكن يد أمه المكلومة أن تمتد إليه... لعله نظر إلى السماء باحثا عن وجه الله في الأعالي متسائلاً... ربما نطق بالشهادة... لم يفهم حسن ولم يفهم رواد السوق، لماذا؟
 لم يفهم أهل حسن و أحبة حسن وأهل معسكر خانيونس الغربي... أو أهل خانيونس لماذا؟ لماذا مات حسن ؟. ماذا فعل حسن؟ لما سالت دماؤه الدافئة الطاهرة شلالاً أحمراً قانياً صافياً... لم تتلوث بالحروب وصراع الحضارات و النزاعات الدولية والمحلية و الاستعمار القديم ولا الجديد... سالت دماؤه بلون الورد الجوري البلدي و بلون عرف الديك وشقائق النعمان... مات حسن صانع الثوب المجدلاوي... ثوب فلاحات سدود والمجدل وحمامة وبيت دراس ويبنا... الثوب ذو الألوان المتعددة بعدد قرى فلسطين المدمرة و المهجرة... أثناء حرب التدمير و التهجير تحت سمع وبصر عصبة الأمم أو هيئة الأمم.
 قتل حسن... انطخ حسن... مات حسن... حسن شهيد... لم يستوعب عقلي الطفولي معنى هذه الكلمات... كل ما كنت أستوعبه أنه لن يلعب معنا الشريدة أو الكورة أو عسكر وحرامية أو شد الحبل أو القلول والطقة واجرى وجنة ونار و الصفة، ماذا تعنى كلمة مات؟ من سوف ينسج الثوب المجدلاوي لوالدتي وأمهات أصدقائي، من يفرد خيوط القطن الملون في الشارع، من يحمل معه شلل الخيطان ونساعده في جدلها... كانت أول مرة أسمع كلمة مات... انطخ، عندما سمعت الناس يتحدثون لأمي أو يسألوني عن أبى... "إنت ابن محمد طقش إلى طخوه اليهود سنة 1948" ولكنها كانت كلمة رمزية لا جسد لها وغير ملطخه بالدماء... كانت هذه الكلمة تجعل أمي تبكى بصمت وكبرياء... وكنت أبكى على بكائها... كانت دائما ما تحتضنني عندما تسمع هذه الكلمة... ولم أكن أفهم لماذا؟ لم تكن تلك الكلمة تحمل لي غير شعورا حزينا؟ لم أر الموت مجسداً، نازفاً، بشعاً، ظالماً و قاسياً... اليوم فقط فهمت سبب بكاء أمي وخوفها وحنانها الزائد علي... كانت تخاف علي من هذا اليوم الذي سأرى به الموت وأشعر بالفاجعة القديمة والجديدة والقادمة...
مات حسن... زينة الشباب... ولن نر عيونه الخضراء بخضرة أرض فلسطين، التي تشع نوراً، أملاً، حناناً، مرحاً وسلام يتبع

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت