- جواد لؤي العقاد
يشهدُ العالمُ تطورًا كبيرًا في جميعِ جوانبِ الحياة؛ بفعلِ العولمةِ والتطورِ التكنولوجيِّ الهائل. وفي الوقت الذي يتغنى فيه العربُ بأمجادِ أسلافهم يصنعُ الآخرون حضارةً مبنيةً على أُسسٍ علميةٍ وإبداعيةٍ، وإنَّ اللُغة هي وجه الأمةِ المشرق ودليلُ قوتها؛ لهذا يجبُ على المؤسسات الأكاديمية والتعليمة البدء من هنا، أعني الاهتمام باللغة كوسيلةٍ أُولى للنهضةِ الثقافية التي تبني الحضارات وفي ذات الوقتِ لا أعني -بالمطلق- الاهتمام بمعناه السطحيِّ الساذج وإنما بالمعنى الخلاق.
علينا نحن أهل العربيةِ أن نذهبَ بعيدًا في فهم لغتنا، ونغرقَ تمامًا في شاعريتها، مُحاولين الكشفَ عن أسرارِ جمالِها، وموسيقاها الفاتنة، وقدرتِها الهائلةِ على استيعاب أفكار كبيرة ومشاعر عميقةٍ بعبارات موجزة، وأيضًا قدرتها على التشكل كيفما شاء عاشقها المُتقن.وما فيها من سحرِ المجازِ وكلِّ أشكالِ البلاغة.
ولنا أن ننظرَ في لُّغة الصوفية، التي تمثل أوج العربية. لا يكفي أن نكتب في الإعجاز اللغوي القرآني، علينا أيضًا أن نبحثَ في إعجاز اللُّغة ذاتها. بمعنى أن يكونَ الهدف اللُّغة وليس القرآن.
لا يوجد في الثقافة العربية، حد معرفتي، كتابٌ يبحثُ في شاعريّةِ اللُّغة سوى كتاب "اللغة الشاعرة" للأديب العربي عباس محمود العقاد، وأعني بالشاعرة "أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء." (عباس العقاد،اللغة الشاعرة ص8)
إذن يتوجب على نقاد وباحثي العربية الالتفات إلى هذا الموضوع، وعلى المثقفين والشعراء والأدباء التغني بجمال اللغة؛ كي يشكلوا طوقَ ممانعةٍ جماليٍّ ضدَ كل من يزعمُ عجزَ الُّلغةِ وصعوبتها، لغتنا عميقة وليست صعبة بالمطلق.
بما أنَّ المهمة ملقاة على عاتقِ أهلِ اللُّغة؛ يتوجبُ على أقسامِ اللُّغة العربية في الجامعاتِ الانقلابَ الفعليَّ على المنهجيةِ الأكاديميةِ الجافةِ المتبعةِ في تدريسِ اللُّغة، تلك القائمةُ -في الغالبِ- على التلقين، الذي هو المشكلةُ الأساس في المؤسساتِ التعليمية العربية كلها.
وبما أني تخرجتُ في جامعة الأزهر بغزة- قسم اللغة العربية، ولدي خلفية عن أقسامِ اللُّغة العربيةِ في جامعاتِ الوطن؛ أخص الحديثَ عن جامعاتِ فلسطين، ويُمكنني تقديمَ بعضَ الاقتراحاتِ التي من شأنِها تطوير أقسامِ اللُّغة العربية في مرحلة البكالوريوس:
*تشكيل لجنة علمية تختار بعناية الطلبة المسجلين في التخصص والتركيز على "اللغة العربية وآدابها"، وترتكز آلية الاختيار على اختبار استعداد الطالب ورغبته في دراسة التخصص لا على اختبار معلوماته؛ وبهذا يتمُّ اختيار نخبةٍ قابلةٍ لطرق تعليمٍ مختلفةٍ وخلاقة؛ وعليه ضرورة التركيز على تنميةِ التفكيرِ النقديِّ عند الطلبة ليس في النقد الأدبيِّ فقط وإنما في النقد الثقافي أيضًا، فالتعليم النظري لا يكفي؛ ولذلك من الضروري أن يمتلكَ الطالبُ الأدوات النقديّة التي تمكنه من قراءةِ النصوصِ بعينِ الناقد الأدبيِّ والثقافيِّ، وممارسةِ النقد قدرِ المُستطاع.
ولا أعني شرحَ النصوصِ الشّعرية فقط وإنما التعامل وفق مناهج النقد مع جميع الأجناس الأدبية بما في ذلك الرواية والمسرح، وكذلك دراسة النصوص في الأدب المقارن دراسة تطبيقية يقومُ بها الطالبُ نفسه.
وثمة مشكلة في عدمِ دراسة الأدب المعاصر سواء الفلسطيني أو العربي مع أنَّ التطرقَ إليه يُساهمُ في تنشيطِ الحركةِ الثقافيّةِ ودمجِ العملِ الأكاديميِّ بالثقافي.
والمشكلة الأكبر هي قطيعةُ المؤسساتِ الأكاديميةِ مع مُفكرين ونقاد كبار. مثلاً. لماذا هذه القطيعة مع الناقد السوري أدونيس؟! مع أنَّه قدمَ للأدبِ العربيِّ رُؤى تجديديّة تمثلُ قاعدة متينة للبناءِ عليها لاسيما في كُتبه:"مقدمة للشعر العربي، الشعرية العربية، وسياسة الشعر، وزمن الشعر" وكتابه الموسوعي " الثابت والمتحول" وغيرهم، وفي مُعظم مؤلفاته يدعو إلى قراءةِ التاريخِ بعينٍِ ناقدةٍ في سبيلِ الانطلاقِ إلى آفاق الإبداع.
وإنَّ إقرارَ تطويرِ الآليةِ المتبعة في الجامعات حاليًا أو بالأحرى قلبها رأسًا على عقب؛ يعزز العقلية الفلسفية عند الطلبة على أساسِ أنَّه لا تفكير خارج اللغة كما يقولُ الدكتور عبد الكريم بكار:" اللغة ترسم لتفكيرنا حدودًا، لا يستطيع تجاوزها؛ فنحن لا نستطيع أن ننتج الأفكار إلا بقدر ما تسمح به اللُّغة".
وفي ظل التطور التكنولوجي الهائل يجب أنَّ تتقدمَ أقسامُ اللُّغة العربيةِ خطوةً جريئةً نحو تعليم "الأدب الرقمي" بما أنَّه شكلٌ معاصرٌ للأدبِ، ووضعه تحت مشرحة النقد.
ختامًا: يتقاطع تخصص اللغة العربية وآدابها (الأدب العربي) مع عدة علوم أخرى مثل: الفلسفة والحضارة والتاريخ والسياسة ( في النقد الثقافي) وعلمي النفس والاجتماع وهَـلَُمّ جرًّا؛ فالمطلوب من أقسام اللغة العربية وضع آليات تعزز تعامل الطلبة مع هذه العلوم انطلاقًا من الأدب العربي؛ من أجل خلق ناقد أدبي وثقافي مبدع، أو على الأقل طالب متمرس.
كاتب فلسطيني
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت