يوميات لاجئ "انتظار الموت "

بقلم: على طقش

على طقش
  • بقلم / علي طقش
  • مستشار وخبير تخطيط استراتيجي

 بعد الغروب، وقدوم الليل، كنا جميعاً أحد عشر فرداً في غرفة واحدة منهكين ،أعيننا زائغة... ننتظر القادم المجهول المرعب... نتبادل كلمات مختصرة فقط لكسر حدة ورهبة الصمت ..كان عبد الحميد يشعر بمسؤوليته عنا يحاول أن يشرح لنا ما يمكن أن يحصل ،فكان كلامه يصب في خانة الطمأنينة... وأننا في أمان .
كانت الوالدة تقوم للصلاة والدعاء كل فترة، بعد صلاة العشاء سمعنا صوت اطلاق نار كثيف... كانت تتصاعد الأصوات ،صوت المدافع والانفجارات تعلو وتعلو، تواصلت الانفجارات، اهتز البيت بشدة، قصف مستمر والبيت مازال يهتز..
كنا طوال الوقت ننتظر لحظة انهيار السقف أو سقوط البيت بالكامل، شخصت أنظارنا جميعاً صبت على عبد الحميد وعلى عبد الله ،فهم لم يتوقفا عن التدخين، والخروج للشرفة، والنظر إلى السماء آملين أن يريا أو يسمعا شيئاً يهدئ خوفنا وخوفهما ولكن لا شيء يطمئن... استمر القصف... تجاوز الوقت منتصف الليل .
أخيراً نطق عبد الحميد قال: "هذه معركة حول الكتيبة شرق المدينة، هناك تجمع قوات مصرية فلسطينية بقيادة المقدم " العجرودي "الضابط المصري، يبدو أن هناك مقاومه باسلة وشجاعة"
 بعد ذلك استمر تحليل عبد الحميد لمجريات المعركة من خلال أصوات إطلاق الرصاص والمدافع بعد أذان الفجر بدأ القلق يظهر على صوت عبد الحميد قال: "انتهت المقاومة لم أعد أسمع أصوات مدافع أو رصاص المقاومة" خلص ... خلص كل شيء انتهى وسقطت خانيونس
 توجهت أنظارنا وآذاننا وقلوبنا إلى عبد الحميد؟! قال: "خلص توقفت مقاومه الفلسطينيين... لم أعد أسمع أصوات إطلاق نار من الكتيبة، كان صوت الضرب المدفعي يصدح طوال الليل طول الليل من بعيد... وكانت تلك مدافع الصهاينة، كان إطلاق نار من منطقه قريبة... تلك هي منطقة الكتيبة، توقف الصوت القريب و خفتت أصوات المدافع البعيدة ولكن لم تتوقف تماماً ماذا يعنى ذلك؟ سألنا بعيوننا لم يتجرأ احد على النطق بالسؤال خوفا من الإجابة.
 صمت الجميع الكل ينتظر الإجابة، ولكن قبل أن ينطق عبد الحميد، جاءت الإجابة على هيئة طلقات رصاص متقطعة، بدت بعيدة وأخذت تقترب شيئاً فشيئاً، قال عبد الحميد "دخل اليهود البلد، ولكن ما تخافوش...خلص مش حيدخلوا الشوارع وخلص مش راح يقربوا على الناس ولا على البيوت". يهود في البلد في الشوارع؟!
هدأت الأصوات...
هدأت أصوات الرصاص بشكل مريب... مرت فترة ساعة أو يزيد... شعرنا ببعض الهدوء، شعرنا بقرصة الجوع و بعض البرد والنعاس، نظر الجميع إلى الوالدة، قالت سهيلة زوجة عبد الحميد: "يا ريت يا عمتي تعملي للأولاد حاجه يأكلوها" خرجت صديقة والدتي إلى المطبخ لإشعال بابور الكاز، كي تطبخ لنا أي شيء، لم تجد سوى ما تبقى من الأمس من شعيرية، مع صوت البابور سمعنا طرق على الباب وأصوات عالية وجلبة مرتفعة وصراخ الوالدة: "فش حد، مفش حد، أولادي بس فش حد"
ارتفعت الأصوات ولم تكن عربية... فتح عبد الحميد باب الغرفة وقبل أن يخطو أو يقل أي كلمة، جاءته الرصاصة في يده اليمنى... لم يصرخ ولم يتألم... عاد بسكون إلى داخل الغرفة، وقبل أن ندرك ما الذي يحدث كان أخي عبدالله قد اندفع إلى الخارج ، محاولاً الاشتباك مع من في الخارج، ولكن الرصاصة كانت أسرع منه رصاصة واحدة في القلب الحنون الدافئ المفعم بالحياة، رصاصة في القلب النابض بالسعادة، والذى كان دائما يشمل الجميع الأهل، الجيران، الأقارب وغيرهم، كان قلبه يتسع للجميع.
 تراجع إلى الوراء خطوة لداخل الغرفة ووقع ممددا على ظهره اقتربت منه، نبتت فوق صدره ارتسمت فوق القلب... فقاعة الدم! رفع إصبع الشهادة وفتح شفتيه ببطء، يهمس الشهادة ويقول لا إله إلا الله، ثم أقفل عينيه لآخر مرة... وللأبد .
ظل عبد الله ملقيا على ظهره وجهه هادئ جميل كأنه يحلق في رحلة الذهاب لمقابلة من أحب ولم ترتح روحه بعد فراقه، إنه في رحلة في الأعالي ، الراحة الأبدية ، هناك لا ظلم ولا شقاء ولا قتل أبرياء. رحل عبدالله لمقابلة والده في جنات العلى مع الشهداء .
 لقد ارتاح عبد الله أخيرا فهو وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة، الآن عرفت سبب مسحة الحزن التي كان يخفيها وراء ذلك الوجه المرح الباسم ، كان يغرق بالحزن لفراق والده -قبل ثماني سنوات- قتلته نفس الأيدي اللئيمة نفس الرصاصة، نفس وجوه مغتصبي الأرض والوطن ، مزوري التاريخ والدين، قاتلي الأنبياء طمعاً وافتراء.
 كان السفاحين الارهابين القتلة السبعة، لازالوا لم يشبعوا من شرب الدم و ازهاق الأرواح البريئة الطاهرة .
 نظر أحدهم إلى ياسين ابن الرابعة عشر ربيعا، ذو الجسم الرياضي والعيون السود الواسعة جالسا غير مصدق ما يرى، جذبه إلى خارج الغرفة وقذف به بعيداً بكل حقد. حاولت الأيدي المتلهفة المفزوعة، أيادي الوالدة صديقة و الأخت الكبرى خديجة و الحبيبة حليمة، وزوجة الأخ الحامل بعبد الله الصغير، حاولوا جذبه إلى الداخل... إلا أن الرصاص كان أسرع منهم...
 انطلقت الرصاصات لتصيب الأرجل وتقذف ياسين إلى جذع النخلة، غرق ياسين في بركة الدم لم يتخيل كم الأحقاد التي صبها المحتل على البيت . رغم بحور المآسي التي غزت البيت، مازال عبد الحميد منتصباً كالنخيل سبع رصاصات كانت كافية أن ينهار الجبل... ويخر ساقطاً على الأرض صرخ أحدهم علي... حاول جذبي مصوباً الرشاش إلى صدري، حينها قال قائد المجموعة: "دعه بيبي" صغير ونظر إلى والدتي وقال كمن يصدر الأوامر بمجموعة من الجند: "اخرجوا جميعاً برا إلى الشارع... يلا برا برا" وأخذوا يدفعوننا إلى الباب وعندها صرخت بهم والدتي: "كيف إلى الشارع وأولادي؟ ينزفون ،كيف أتركهم لن نخرج" صرخ مرة أخرى: "برا إلى الشارع" تشابكت الأيدي ولم تتزحزح، وصرخت أمي: "ألم يكفيكم ما فعلتم بأولادي، ألم أقل لكم من البداية لا يوجد فدائية، لا يوجد عسكر، فقط أولادي" نظر قائدهم إلى أمي بحقد وقال: "كلكم فدائيين" صرخت به زوجة أخي: "دعونا نسعف رجالنا، ألم يكفيكم ما فعلتم" . نظر إليها متشفياً، فخوراً بما فعل وقال: "ليس نحن من فعل بكم هذا، إنه عبد الناصر هو الذى أمم القناة".
قفزوا خارجاً كما لو أنهم كانوا في نزهة... وعدنا إلى قتلانا وجرحانا ،علنا نتمكن من إسعافهم يتبع

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت