يوميات لاجئ " ما بعد مجزرة عام " ١٩٥٦ "

بقلم: على طقش

على طقش
  • بقلم / علي طقش ..
  • مستشار وخبير تخطيط استراتيجي


كان ياسين مدرجاً بدمائه، عاجز عن الحركة، يئن من الألم، حملناه إلى الداخل، إلى الغرفة... كان عبدالله لازال ممدداً على ظهره... وعبد الحميد ينزف بغزارة من ظهره ويده.
لم يكن أي منا لديه فكرة أو خبرة كيف يمكن إسعافهم أو وقف النزيف؟
ولم يكن لدينا أية مواد للإسعاف أو تضميد الجروح...الكل مرهق ولكن لا وقت للتفكير في ذلك يجب التحرك والتصرف بحكمه وبسرعة... يجب وقف النزيف أولاً قالت أختي الكبيرة خديجة: "احضروا أحد "الألحفة" واستخرجوا ما فيه من قطن" قالت للوالدة وزوجة اخي: "ضعوه على الجرح بعد تطهيره باليود... وحاولوا ربطه بالقماش" . قالت حليمة : "ممكن أن نطهر الجرح بالملح "
ثمانية وأربعون ساعة مرت علينا في هذا الحال... الجرح ينزف، والألم يزداد لم يتبقى لدينا أي قطن أو قماش نظيف، تم استخدام كل شيء.. نقلت الوالدة والبنات جسد عبد الله إلى الغرفة الثانية... كان عبد الحميد ينعم الله عليه بإغماءات طويلة فتريحه قليلاً من الألم... أما ياسين كانت تأوهاته ودعاؤه لله يفطر قلب الجميع... حتى عبد الحميد الذى كان كلما يفيق من الإغماء يسأل عنه ويحاول طمأنته ببعض الكلمات... كان عبد الحميد مدركاً لكل ما جرى ولم يفقد إحساسه بالأبوة ومسؤوليته عنا جميعا... يومين بلياليهما ونهارهما مرت علينا ونحن في هذا الحال... لا أدرى ما هو الشعور الذى كان سائد لدينا، أحياء أرهقهم الإعياء وعدم النوم وقلة الحيلة والعجز عن انقاذ الجرحى أو مساعدتهم على تسكين الالم، أو دفن الميت أو اطعام النفس و الأطفال أو الحصول على قسط من الراحة... كان الكل بانتظار الفرج من الله... أن يرسل لنا من يمد يد العون... لا أذكر أننا تحدثنا عن أي شيء خلال تلك الأيام... لا أذكر ملامح أي من الأحياء... وكأننا جميعاً أصبحنا دون ملامح، لا أذكر أننا تحدثنا كأسرة عن تلك الساعات بما يكفى لاحقاً... كنا جميعاً بحاجة لنسيان كل هذا الوجع .
 كان صباح اليوم الثالث لم يأت أحد ولم نسمع صوتاً بعيداً أو قريباً.
كانت الوالدة تذهب إلى الغرفة الثانية خلسة لتنظر بحسرة وحزن إلى عبد الله... كانت تكثر من الدعاء والصلاة... تكتم مشاعرها وتحاول أن تظهر التماسك والقوة... فهي الأب والأم وعمود الخيمة... الكل ينظر إليها يستمد قوته منها، مرة أخرى تجد نفسها عاجزة مستسلمة أمام الموت... موت الأب الذي لم تعرفه.. والزوج السند.. والابن قطعة من القلب... عادت في صباح اليوم الثالث وهي تكتم دموعها وتبلع حزنها قالت بعجز: لازم ندفن عبد الله، لا يجوز تركه هكذا ؟ ثم نظرت إلي بحزم وقالت: "اذهب يا إمي إلى الحاج عرفات... واحكي له على اللي صار... هو شيخ ويعرف يتصرف!" إذن علي أن أذهب مرة أخرى لمنزل الحاج أبو عمارة... أواجه الخوف وحدي . سرت في طريقي إلى المعسكر الشرقي طوت خان يونس شارع البحر الذي يبدأ من مركز المدينة مرورا من ميدان القلعة متجهاً شمالاً إلى البحر... كانت دار عبد الحميد وهى منزل مؤجر من أهل اللواء أبو العبد المجايدة، كان يقع في الجانب الغربي من الشارع... ودار الحاج عرفات أبو عمارة في نفس الجانب في منتصف المعسكر الغربي وهو أقدم معسكر في المدينة، يبعد عنا حوالي كيلو ونصف، وبالتالي لم تكن مهمة صعبة في الأيام العادية، ولكن الوصول إليه الآن والجنود اليهود يحتلون المدينة كان يعنى التعرض إلى الموت... أو لا أدري و كل ما خطر ببالي أن أجد طريق غير الشارع العام... وكان قراراً فيه كثير من الحرص والخوف ولكن أقدارنا توجهنا وتقودنا دون أن ندرى، سلكت بعض الشوارع الخلفية والمتعرجة تفادياً للجنود، كي أرى بأم عيني بشاعة ما تم من جرائم في نفس اليوم . جثث ملقاة في الشوارع، جرحى يئنون وينزفون خارج منازلهم .على سور أحد المنازل "منزل البلبيسي" وهي عائله مهجرة من يافا... على الأرض كان هناك خمسة أو ستة جثث ملقاة على الأرض سالت دمائهم حتى فارقوا الحياة، دون أن يجدوا من يسعفهم أو يخفف آلامهم... الله وحده يعلم ما الذي حدث معهم، وكيف تم قتلهم بدم بارد... من أي دار أخرجوا... بأي ذنب قتلوا... كانوا جميعهم عبد الله في عيني... سمعت صوت أنين خافت، لم أستطع أن أميز من أي منهم، أغمضت عيني وحاولت أن أتجاهل ما أرى وأمضي في طريقي، ولكن حركة وهمهمة من شاب ربما في عمر أخي عبد الله، ,جعلتني أتجمد في مكاني، نظرت إليه، ربما أرسلتني العناية الإلهية لأنقذه، اقتربت منه بحذر وخوف شديدين، ثم اتجهت مسرعاً إلى أقرب باب منزل ، وأخذت بطرقه طرقات خافتة مترددة، خوفاً من أن يسمعني أحد الجنود... كان الخوف يسكن جسدي ويشل حركتي، لم أسمع رداً، لم يصدر أي صوت من داخل المنزل، فكرت في المضي في طريقي، ولكن قدماي تسمرت في مكانها أمام الباب... "اذهب يا علي، اذهب قبل أن تصاب بمكروه" سمعت همساً في داخلي، لكنني تحدي نفسي فما زال الصوت الخافت يئن طالباً المساعدة، حاولت مرة ثانية، طرقت الباب بقوه أكثر... لا رد، نظرت إلى الجثث ... قد يكون بعضهم أحياء ...
"لا تذهب اطرق بدون خوف، لا جنود هنا... فقط خوفك وخوفكم جميعاً"
طرقت الباب وهو من الصاج... طرقته بقوة وبدون خوف، سمعت صوتاً خافتاً أقرب إلى الهمس:
" مين، مين على الباب",
أجبت: "افتحي الباب، الحقوا رجالكم برا "
وسرت مسرعاً... لم أنتظر من سيخرج... إلا أنني سمعت صوت الباب يفتح وأنا أسرع الخطى إلى دار الحاج عرفات .
عاد معي الحاج بعد أن اصطحب معه جاره "الحاج الكسيحة" وهذه اسم عائلته... سار الرجلين وهم يلفهم الصمت بعد معرفة ما حدث في منزلنا منذ ثلاثة أيام... عدنا من الشارع الرئيسي إذ لم يكن هناك أي جنود... وصلنا البيت ودون إضاعة للوقت دخل الرجلان إلى الغرفة حيث يرقد عبد الله
 إنه شهيد لا يغسل ، سمعت ؟
شهيد... يغسل... لم أفهم؟
والدتي أيضا قالت أن والدي شهيد، هل هو أيضا لم يغسل؟!
 سمعت الجنة والدفن، لم أفهم شيء، فقط تساءلت ، هل هذا يعني أن عبد الله لن يحملني على ظهره ويسبح بي في البحر بعد اليوم؟ لن يأخذني معه لحضور مهرجانات غزة؟ لن يحضر لي ملابس جديده؟ لن يحتضن كفي حين أشعر بالخوف من شيء ما؟
لن... ولن.. ولن؟
هل سوف أصبح يتيم مرة أخرى؟
 راحت السكرة واجت الفكرة
مقولة فلسطينية تعبر عن الانتقال من مرحلة فقدان التوازن إلى مرحلة أو حالة الصحوة والتحرك... جثة شاب في ريعان الشباب فارق الحياة منذ أيام... يجب التحرك بسرعة وحكمة لدفنه "إكرام الميت دفنه" وبسرعة لأسباب صحيه ونفسية ودينية...
كنت في سن العاشرة... لم أختبر تجربة موت... كنت أسمع عن موت أحد ويحدث ذلك في ظروف طبيعية، وتتم إجراءات الدفن بالشكل المألوف و بحضور الأهل و الجيران.
 قرر الشيخان بسرعة: "علينا أن نكرم الشهيد بدفنه"
تم لف جسد عبدالله ببطانية وحمله الشيخان والوالدة والأخت خديجة وسهيلة إلى المقبرة، تم الدفن بسرعة في جو من الخوف والأسى والسرية... قرأوا الفاتحة وما تيسر من القرآن الكريم وعادوا جميعاً تاركين عبد الله للغياب
 عبد الحميد لا زال ينزف دماً من كل جزء في جسده ،راح في غيبوبة عميقة، ولكن نهر الدماء مستمر، لم تتمكن كل المحاولات وقف النزيف .
ياسين أيضاً يئن من الألم... وأنا أقف هناك، أنظر لكل ما يحدث، أنحت الأحداث في عمق ذاكرتي...
أو ربما تنحتني هي...

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت