- بقلم: د. باسم عثمان
- الكاتب والباحث السياسي
في التاريخ الحديث للثورات الوطنية الديمقراطية، وتحديدا في مرحلتها الأولى (مرحلة التحرر الوطني)، الهادفة إلى إقامة كيانية سيادية سياسية متحررة من الاستعمار، تتأسس وتتبلور فيها الهوية الوطنية-التمثيلية ويتعاظم الفعل الجمعي التراكمي لمخزونها الجماهيري عبر مسيرتها الكفاحية، في روافعها الكفاحية وانجازاتها الوطنيةوالتي تستند على خيار ومكوّن رئيسي لديمومة فعلها التحرري وانجازاته: المقاومة بكل اشكالها بهدف التحرر والاستقلال، حيث تنصهر في بوتقتها كل الإمكانات الوطنية والأدوات الكفاحية لتحقيق هدفها المنشود.
والحالة الفلسطينية، ليست باستثناء عن مجموع حركات التحرر العالمية، حيث ينمو ويتجذر في سياق فعلها التحرري ذاته، ما يسمى "المُكوّن البيروقراطي" النفعي والمساوم، الذي يسعى بكل جهده لاستثمار إنجازات الفعل التحرري وتجييره لصالح خياراته وتكتيكاته وتحالفاته المرتبطة بمصالحه وامتيازاته.
وهذا "المُكوّن البيروقراطي" ينمو بشكل مضطرد وتتعاظم مؤسساته السلطوية, بفعل مأسستها وامتداد خيوطها بالتوازي مع إنجازات الفعل التحرري, مستغلاً سلطته في توجيه وإدارة المشروع الوطني -(بفعل تراكم تعقيداته الداخلية من جهة, وسعيه لربطها مع قوى خارجية من نسيج تحالفاته من جهة اخرى)- ليعزز مكانته ودوره في توجيه دفة الفعل التحرري بما ينسجم مع خياراته السياسية وامتيازاته السلطوية, مستغلا نموه المضطرد ومأسسة تموضعه الذي قد يتجاوز أحيانا انجازات الفعل التحرري ذاته، وبدلاً من أن يعمل على تطوير الفعل المقاوم وتعظيم آثاره ومكتسباته على الأرض، يتحول إلى عقبة تعيق تقدمه وتفرط بإنجازاته.
فلسطينياً، تجاور المكوّنان (المقاومة والبيروقراطية) في معظم مؤسسات منظمة التحرير حتى ما قبل أوسلو ولكن بقي مكوّن المقاومة هو الأساس في تكوين المنظمة وشرعيتها التمثيلية، وبعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994نتيجة اتفاق أوسلو على جزء من أرض فلسطين الجغرافية والتاريخية، تعقدت امكانية تحول الهوية الوطنية الفلسطينية إلى كيانية وطنية ذات سيادة، بسبب طبيعة اتفاق أوسلو ونصوصه واستحقاقاته الذي قامت على أساسه السلطة الفلسطينية، وهكذا تبخرت كل الاوهام والآمال بالمراهنة على انتقال هذه السلطة إلى كيانية فلسطينية سيادية حقيقية.
ان تغوّل "البيروقراطية الفلسطينية" تحت مسمى سلطة فلسطينية "لكيانية فلسطينية"، لم يعد في واقع الحال الإمكان في استئصال امتداداتها العنكبوتية داخل المجتمع الفلسطيني وفي هرم قيادته السياسية، أو "حلحلتها" من قيودها بفعل التزاماتها السياسية والأمنية وشبكة تحالفاتها الخارجية، وخيارات تكتيكاتها ومناوراتها السياسية المكبلة بحمل اثقالها في العدمية والمماطلة والتسويف، ورهاناتها التكتيكية العقيمة سياسياً وسيادياًبفعل انسداد أفقها السياسي وتغول سياسات الاحتلال الاستيطاني وحليفته أمريكا.
إن ما أنتجه اوسلو هو عملياً "سلطة بيروقراطية فلسطينية" مُكبلة بنيوياً باتفاقيات والتزامات أمنية، مجردة من أي مشروع سيادي-سياسي يُشير إلى تحولها ولو بالتدريج إلى "كيانية فلسطينية" سيادية مُتحررة من الاحتلال.
اسس إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية:
-خارطة طريق جديدة: ثمة حاجة ماسة إلى نسق سياسي جديد( خارطة طريق جديدة), تحدد مساره قيادة سياسية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين ولا تقتصر "ادارتها" السياسية والتمثيلية والخدماتية على جزء من الجغرافية الفلسطينية, بعد احالة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الى التقاعد السياسي وبإرادة سياسية من قبل النظام الرسمي الفلسطيني ذلك يتطلب إعادة التفكير بالرؤية السياسية والاستراتيجية الوطنية الفلسطينيتين، ليتسنى للفلسطينيين جميعا، أن يتحوّلوا إلى لاعبين سياسيين مُنظمين وأكفاء, يتصدرون المقاومة الوطنية والمجتمعية والمدنية ضد المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي.
ورغم الإقرار الشعبي الفلسطيني ومثقفيه بضعف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية والتمثيلية، الا انهم لا زالوا يعتبرونها كيانا حيويا ووطنيا (شرعيا وتمثيليا)، والمفتاح الرئيسي لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد روافعه وادواته، وخاصة في ما هو نقابي واجتماعي ومدني داخل المجتمع الفلسطيني في كل أماكن تواجده, حيث ان تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا وتنوع برامجه الوطنية والاجتماعية المحلية , كفيل بتحقيق هذا التمثيل الديمقراطي من خلال التوافق المحلي في الآراء أو الانتخابات, أواعتماد النموذج الأمثل للفلسطينيين وهو الديمقراطية الشعبية أو (الشعبوية) التي تمثلها منظمات المجتمع المدني ,ما يعزز قدرة الفلسطينيين على التعبئة السياسية والوطنية على امتداد المساحة الجغرافية لتواجده, وتكوين روابط وطنية واجتماعية تجمعهم, لما يمثل هذا النموذج الساحة الحقيقية لأبداء الرأي والتفاعل المجتمعي الفلسطيني-الفلسطيني ,وذلك على نقيض النماذج الوطنية الراهنة والقائمة على نهج الأحزاب السياسية التقليدية ونهج السلطة الفلسطينية, والتي هي عرضة لقمع الاحتلال الاسرائيلي والانقسام والشخصنة والفساد السياسي.
- الشباب الفلسطيني وفاعليته الوطنية:
أن تغيير الوضع الحالي للحالة الفلسطينية, يحتاج إلى بناء قوة وطنية ضاغطة، يمثل الشباب نواتها المركزية، وما الحراكات الشعبية المطلبية, والمبادرات الاجتماعية والمدنية, والفعاليات الشبابية التي شهدتها الساحة الفلسطينية خلال السنوات الماضية، الا بداية المنطلق الوطني والخطوة الريادية في بلورة مرتكزات القوة الضاغطة الجماهيرية في الفعل التحرري الفلسطيني، ما يستوجب البحث في ضرورة ربطها بتصور شامل وحراك شعبي عام، قادر على انتاج هيئاته الوطنية (المحلية والموقعية) و(التمثيلية السياسية) المعبرة عن طموحاته واستراتيجيته الوطنية في التحرر والاستقلال.
إن الهوية الوطنية والسياسية والثقافية الفلسطينية ما زالت أصداؤهما تتردد بقوة، غير أن الشعب الفلسطيني والذي يعاني التشتت السياسي والجغرافي، والاغتراب السياسي عن حالته الوطنية، وتكلس الفكر السياسي لمرجعيته، الأمر الذي يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى التجديد المؤسسي (مركزيا)، في المقابل نلحظ هنا وهناك, نشاطاً سياسياً واجتماعيا شبابياَ نابضاً بالحياة، الأمر الذي خلق الروابط بين الفئات الشبابية والاجتماعية في مواقعها المختلفة (جغرافيا), وأتاح فرصة المشاركة للقيادات الشبابية والمدنية التي كانت تتعرّض إلى الإقصاء من جانب المرجعية الفلسطينية ومؤسساتها في رسم أولويات المواجهة مع المشروع الامريكي - الاسرائيلي، في الوقت الذي كانت فيه المقاربات الوطنية البديلة التي يجري تبنيها, (حملة مقاطعة "إسرائيل", ابداعات المقاومة الشعبية والمدنية السلمية...الخ), تنبثق من المجتمع المدني الفلسطيني الناشط وليس من مراكز القوى التقليدية الفلسطينية، بل إن اكثر الفلسطينيين يتوقعون أن يكون المجتمع المدني ومفاعيله, هو المِهاد والتربة الخصبة لزراعة ونمو جيل من القياديين الفلسطينيين الراديكاليين وطنيا ومبدئيا في المستقبل القريب
-المسألة التنظيمية:
ان أي مشروع تحرري (وطني وسياسي) لا بد له من أن يرتكز على ثلاثة محاور أساسية: المسألة التنظيمية والتمثيلية للجمهور المقاوم وهيكلة إنجازاته ومكتسباته الوطنية، قضية الإنتاج المعرفي التحرري في تحديد معالم واهداف الرؤية السياسية والاستراتيجية الوطنية في المدى القريب والبعيد، تحديد أساليب وأدوات الفعل التحرري وروافع استنهاضه.
في الحالة الفلسطينية، فان المسالة التنظيمية التمثيلية لا بد ان تكون (لا مركزية) في شرعية هيئاتها التمثيلية (النقابية والجماهيرية والوطنية) و(مركزية) في مبادئها وثوابتها ورؤيتها الوطنية، والوسيلة الوحيدة لهذا الاجراء التنظيمي هي الانتخابات الديمقراطية بالتمثيل النسبي ونظام الدوائر لإتاحة الفرصة المناسبة لأوسع تمثيل شبابي ومستقلين، او بالأجماع التوافقي الوطني حيث تتعذر الانتخابات في بعض المواقع الجغرافية للتواجد الفلسطيني. ويشكل المجلس الوطني الفلسطيني بتجديد عضويته ليشمل كل الشعب الفلسطيني بقواه الفاعلة واطره الاجتماعية وخاصة فئة الشباب، وانتظام اعماله في المراجعة والمحاسبة والتشريع، الأساس في تفعيل المنظمة وإعادة بناء هيئاتها ودوائرها ومؤسساتها.
-المسألة السياسية:
اما المحور الثاني، يتمثل في اعتماد رؤية سياسية واستراتيجية وطنية تقوم على وحدة الشعب الفلسطيني وتلازم حقوقه الثابتة، ووحدة خياراته في المقاومة لأنهاء الاحتلال بكل تجلياته الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والتركيز على مهمات التنمية لكل كيانات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات, وتعزيز صموده على ارضه من خلال توفير مقومات هذا الصمود في مواجهة كل سياسات الاحتلال الاستيطانيوان ترتكز الرؤية السياسية على الفصل بين السلطات: السياسية والإدارية التمثيلية والخدماتية, بحيث يتم نقل كل الصلاحيات والسلطات السياسية الى منظمة التحرير الفلسطينية, واقتصار دور السلطة الفلسطينية في المجال الإداري الخدماتي في مناطق سيطرتها في الضفة والقطاع.
ان إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيل مؤسساتها يستوجب بالضرورة إعادة صياغة التوجه الاستراتيجي الفلسطيني الذي يرتكز تحقيقه على شرطين أساسيين: إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني من خلال الفهم الدقيق لطبيعة المرحلة الراهنة وسماتها و تحديد ادوات شروط المواجهة التكتيكية (السياسية والبرنامجية) و مرتكزات شروط المواجهة الاستراتيجية للمشروع الوطني الفلسطيني, لذلك في هذا السياق، فان المسار الأكثر جدوى يجب أن يتضمن حوارًا وطنيًا حقيقيًا، بين الكل الفلسطيني دون استثناء، من موقع الشراكة الحقيقية في صنع القرار الفلسطيني المستقل لاستحقاق الهدف الوطني الاساس وهو انهاء الاحتلال.
-الاتحادات والمنظمات الجماهيرية:
أهمية إعادة بناء الاتحادات والمنظمات الجماهيرية على أسس ديمقراطية نزيهة تمثل الكل الفلسطيني، وتهتم بتعزيز أسس العمل النقابي واستقلاليته من خلال طرح قوانين عمل للتنظيم النقابي، وتفعيل المجلس المركزي للاتحادات الشعبية والجماهيرية، ليرتقي بدوره السياسي والتمثيلي الى جانب دوره النقابي المؤسساتي، ومن نافل القول، التأكيد على إلغاء "الكوتة" والمحاصصة الفصائلية والحزبية في الاتحادات والنقابات، وعدم تدخل السلطة والأحزاب في عملها وتشكيل هيئاتها، وتمثيل الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم.
ان الشباب الفلسطيني بمختلف شرائحه الاجتماعية، وما يعانيه من تهميش وإقصاء جراء الانقسام الفلسطيني وسياسات القيادة الفلسطينية، وما نجم عنهما من اثار وانتكاسات وطنية , الامر الذي يدعو إلى أهمية دعم ومساندة الشباب الفلسطيني للحصول على كامل حقه في كافة الأطر والمؤسسات، وتعزيز دوره في الحياة السياسية والمجتمعية ومواقع اتخاذ القرار, وذلك من خلال تطوير البنى والهياكل التمثيلية للشباب، بما يضمن تفعيل الحركة الطلابية والشبابية عبر إعادة بناء وتفعيل الاتحاد العام لطلبة فلسطين والمنظمات الشبابية الفلسطينية، وضمان العمل على تعزيز التشبيك بين الأطر الشبابية وتنسيق العمل فيما بينها في كافة التجمعات الفلسطينية، من خلال بناء جسم تنسيقي مشترك يسهم في تفعيل الأداء في الشأن الوطني والمجتمعي ، أي بلورة حراك شبابي يمارس عملية ضغط (شبابي وشعبي) من أجل مواصلة مسيرة النضال في مواجهة الاحتلال، وتعزيز روح الكفاح والمقاومة بكافة أشكالها وخاصة الشعبية منها، وهكذا نفسح الطريق مجدداً، أمام جيل الشباب ليُحدِثَ طفرة نوعية في العملية الوطنية، فيما ظل لفترة طويلة جدًا مبعد قسرياً عن أداء فاعليته الوطنية واقصاءه عن المشاركة، في مؤسسات السلطةً السياسية المركَّزة في يد شخصيات محدودة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير, حيث ثمة كادر شبابي ومهني فلسطيني ذو قدرة وكفاءة عالية, وتوجهات ورؤى سياسية وطنية جذرية , ولكنهم مشتتون بحكم الجغرافيا والإرادة السياسية الاقصائية , لذلك فالمطلوب وطنيا, نظامٌ سياسي مؤسسي يضم قيادات سياسية وطنية وكفاءات شبابية مهنية ذات وجهة استراتيجية وطنية واجتماعية, تتبنى اللامركزية في عملهاوترسيم هيئاتها الاختصاصية.
استخلاص:
إن الإنكار المتعمد للرسمية الفلسطينية لأثار أوسلو ونتائجه التدميريةفاقم المشكلات الناجمة عنه لعدم اجراء أية مراجعة نقدية له، ما أفضى إلى تكلّس العقل السياسي الفلسطيني السائد، الذي كفّ البحث عن خيارات بديلة، ناهيك عن إشاعته البلبلة في إدراكات الفلسطينيين الجمعية، بما فيها إدراكاتهم لمصيرهم المشترك ولعلاقتهم بقيادتهم التمثيلية.
أن السلطة الفلسطينية أخذت بالضمور والانحسار السياسي، وفشلت فشلاً ذريعاً في رعاية جيل جديد من المواهب والكفاءات الشبابية تنموياً ووطنياً، وثمة دلائل واضحة كل الوضوح على هجرة الأدمغة والكفاءات الشبابية من ميدان المواجهة الوطنية والاقتصادية. اذا, لا بد ان يقوم البناء في منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على أسس وطنية تمثيلية ومؤسسية تشاركية، إضافة إلى أن تتركز مهمتها على تنمية كيانات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وتعزيز صموده على أرضه، وتعزيز وحدته، وتنمية هويته الوطنية وارتباطه بقضيته
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت