- محمد سيف الدولة
سالت الاستاذ "على سالم" عليه رحمة الله، فى احدى لقاءاتنا على هامش حلقة تليفزيونية كان يمثل هو فيها فريق المدافعين عن اتفاقية السلام المصرية مع (اسرائيل)، وكنت امثل أنا المناهضين والرافضين لها. وهى من تلك الحلقات التى كان يتم تنظيمها موسميا فى ذكرى توقيع معاهدة السلام فى 26 مارس من كل عام.
سألته: ماذا كان موقف الدولة المصرية واجهزتها السيادية من زيارته لاسرائيل؟
فاجاب انهم كانوا ضدها على طول الخط.
فتعجبت لان الدولة هى التى وقعت المعاهدة وقادت كل انواع التطبيع!
فكان رده، انها تشجع التطبيع الرسمى تحت رقابتها فقط، ولكنها ضد اى تطبيع شعبى، فهى لا تثق فى الدولة العبرية، وفى اجندتها الخفية وانشطتها التجسسية، ولذلك تتحسس من اى اتصالات لا تتم تحت اعينها وتخضع لتوجيهها ورقابتها.
وهناك وقائع أخرى متعددة كانت تؤكد وجود مثل هذا التوجس لدى الاجهزة المصرية، منها ما ذكره على ما اتذكر رئيس الوزراء المصرى الأسبق المهندس "مصطفى خليل" والذى كان يلقب أحيانا بمهندس عملية السلام مع (اسرائيل)، اذ قال فى احد تصريحاته ان الرحلات الاولى من طائرات العال الاسرائيلية التى كانت تأتى الى مصر بعد السلام والتطبيع، كانت تحمل اسفلها كاميرات تجسس لتصوير الاراضى المصرية.
قصة ثالثة كانت يتم تداولها كثيرا، ولكننى لم اتمكن ابدا من معرفة مدى مصداقيتها، وهى ان اجهزة الامن والحراسة المصرية للسفارة الاسرائيلية بالقاهرة، كانت تقوم بتوقيف الشباب المصرى الذى يذهب للسفارة للحصول على تأشيرة لزيارة (اسرائيل)، لتأخذ بياناته، ثم تستدعيه الى مقراتها فى اليوم التالى وفين يوجعك.
مثل هذه الوقائع والأمثلة، كانت تعنى وتؤكد على ما كان معلوما لدى قطاعات واسعة من المعنيين والمتابعين للعلاقات المصرية الاسرائيلية، من ان النظام المصرى قرر توقيع اتفاقية مع (اسرائيل) وفقا لمبدأ (مجبر اخاك لا بطل)، وانه لذلك كلف كل اجهزته ومؤسساته السيادية ان تتخذ كل الاحتياطات والمحاذير فى مواجهة كل محاولات الدولة العبرية لاختراق العمق المصرى، وكذلك لتقليص التطبيع الشعبى معها، الا ما يدور ويتم تحت ادارتها واعينها مباشرة.
كان هذا هو الموقف الرسمى داخل اجهزة الدولة ومؤسساتها فى السبعينات والثمانينات وما بعدهما حتى قيام ثورة يناير، ولكنه تغير 180 درجة فى السنوات الاخيرة، ليتغير مبدأ العلاقات من مجبر اخاك لا بطل الى بطل اخاك لا مجبر، ومن ان (اسرائيل) لا تزال هى العدو الى "انه علينا ان نكف على اعتبارها تحديا، وان نبدأ فى النظر اليها على انها فرصة!"
عديد من السياسات والمواقف والتصريحات الرسمية فى مصر تؤكد على حدوث مثل هذا التغير بالفعل.
· ومنها مبادرة القاهرة منذ عدة سنوات الى الدعوة الى توسيع السلام مع (اسرائيل) وهى الدعوة التى تلقت عليها شكرا رسميا من الحكومة الاسرائيلية.
· ومنها صفقة تصدير الغاز الاسرائيلى لمصر التى تبلغ قيمتها حوالى ١٥ مليار دولار والتى قال عنها نتنياهو ان (اسرائيل) اليوم فى عيد.
· ومنها تاسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذى عقد اولى جلساته فى القاهرة وضم (اسرائيل) فى عضويته.
· ومنها فتح الباب للتطبيع الدينى وسفر وفود من المصريين المسيحيين للحج فى القدس، وهو الحج الذى كان الباب شنودة والكنيسة الارثودوكسية قد منعوه، مشترطين عدم دخول المسيحيين الى فلسطين الا كتفا بكتف مع اخوتهم المسلمين بعد تحريرها.
· ومنها موافقة الادارة المصرية على قيام السفارة الاسرائيلية باحتفال رسمى لاول مرة بما يسمونه عيد استقلال (اسرائيل) فى فندق الريتز كارلتون على ضفاف النيل بالقرب من ميدان التحرير عام 2018.
· ومنها عدد من التصريحات الرسمية المصرية فى لقاءات القمة الامريكية المصرية التى تؤيد وتثنى على جهود الرئيس ترامب فيما يسمى بصفقة القرن.
· واخيرا وليس آخرا، التهنئة الرسمية المصرية لكل من الامارات والبحرين علىى اقامة علاقات سلام مع (اسرائيل) وما صاحب ذلك من تأييد واشادة بالاتفاقيات من عدد من الكتاب المحسوبين على السلطة المصرية. وما تردد على ان هناك تعليمات رسمية للاعلام المصرى بعدم توجيه اىً نقد لها.
· ومؤشرات أخرى متعددة.
***
ليصبح السؤال الواجب هو: ما مصلحة الدولة المصرية، فى فتح بوابات التطبيع على مصراعيها بلا قيود، وفى ذات الوقت حظر اى نشاط سياسى داعم لفلسطين ومعادى (لاسرائيل) فى مصر؟
لقد كانت مؤسسات الدولة فيما مضى ترى ان المصلحة القومية تتطلب ترك هامشا محسوبا للمعارضة المصرية لدعم فلسطين ليكون حائط صد ضد محاولات الاختراق الصهيونى للعمق المصرى وللحفاظ، ولو شكلا، على شعرة معاوية من الثوابت الوطنية المصرية والعربية التى لا تزال تعتبر (اسرائيل) هى العدو.
بالاضافة وهو الاهم الى احتياج الدولة المصرية فى معظم الاحيان الى الاحتماء وراء الرفض الشعبى وقوة المعارضة المصرية والتذرع بهما، لتخفيف الضغوط الامريكية والاسرائيلية التى لا تنتهى لتوريط مصر فى مزيد من الانغماس فى التحالف الامريكى الاسرائيلى الخليجى فى المنطقة، والى الانخراط فى مشروعات لتصفية القضية الفلسطينية لا تحتملها اعتبارات الامن القومى المصرى حتى فى ظل اتفاقيات كامب ديفيد.
وأخيرا وليس آخرا، فان من أهم اسباب ودوافع السلطات لاعادة فتح منفذ ومتنفس لغضب المصريين، هو ان المشاعر والتوجهات الوطنية المحاصرة والمكبوتة والمقهورة، لا تفنى ولا تتبدد وانما تتحول وتتحور لتعبرعن نفسها فى اشكال أخرى أكثر حدة وجذرية، خاصة اذا رأت أن ما تبقى من ارض ودماء الشعب الفلسطينى يقدم قرابيناً على المذبح الصهيونى، طمعا فى حماية العروش الخليجية والعربية.
***
14 سبتمبر 2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت