- فيصل علوش
«التطبيع العلني» إذن مع إسرائيل، وتوسيع دائرة المطبّعين معها، هو العنوان الرئيسي للجهود الديبلوماسية التي تبذلها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، انفاذاً للشق الإقليمي من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروفة بـ«صفقة القرن»، والتي تشتمل في أحد جوانبها الرئيسة على تغيير خارطة التحالفات في المنطقة، لتصبح إسرائيل صديقة وحليفة، والمضي في مشروع «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي»، على أن يضم دول الخليج إضافة إلى مصر والأردن وإسرائيل، في مواجهة «إيران/ العدو»، والجماعات التي تُصنّف أميركياً على أنها متطرّفة.
واتفاق «أبراهام» الذي وقعته الإمارات مع إسرائيل، قبل أن تلحق بها البحرين على عجلٍ، (أو أي اتفاقات أخرى قد تعقد على غراره مع دول عربية أخرى في المستقبل القريب)، يندرج في إطار هذه الخطة. فالطرفان العربيان الموقعان عليه يعتبران نفسيهما «شريكان لإسرائيل في العداء لإيران». كما أنه يساهم في تعزيز قدرة إسرائيل استخباراتياً، وعسكرياً إن لزم الأمر، مع ما يسمّى «التهديد الإيراني»، في وقت يمرّ فيه العالم العربي بمرحلة غاية في السوء، أقلّ ما يقال فيها أنها «لا تُسرّ صديقاً ولا تُغيظ عدو»!.
ونقول التطبيع العلني لأن أغلب الدول الخليجية تقيم في الأساس علاقات سرية مع إسرائيل منذ عقود، وليس اتفاق «أبراهام» ورهموجة التوقيع عليه، سوى «حفلة هزلية» لتثبيت علاقات «الزواج العرفي» المفضوحة التي كانت قائمة، وإشهارها على الملأ لا أكثر. وهذا يمثل، في محصلته، صيرورة طبيعية لمآل وتوجهات السلطات العربية المسيطرة، في الخليج وغير الخليج، والتي ليست لديها، ولم يكن لديها مشكلة مع إسرائيل، إلا بمقدار ما يشكله ذلك إحراجاً لها أمام شعوبها والشعب الفلسطيني، ويبدو أن هذا الإحراج قد زال الآن وانتهى أوانه!.
لكن وإلى ذلك، فإنّ الأطراف الموقعة على «صفقة» التطبيع العلني، تبدو مدفوعة باحتياجاتها المباشرة الراهنة، أكثر مما هي مدفوعة بتصورات ورؤى استراتيجية وعقلانية لحلول مقبولة وقابلة للحياة للصراعات القائمة في المنطقة. ولعلّه ذو مغزى، في هذا الصدد، ما نقلته مراسلة صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، نوعا لانداو، (قبل ساعات من التوقيع)، من أنّ وزير خارجية البحرين لم يكن يعرف ماذا تتضمن بالضبط الوثيقة التي سيوقعها في البيت الأبيض، والتي يبدو أنّ ترامب ونتنياهو كانا قد أعدّاها سلفاً، ليأتي هو ويوقع عليها فحسب.
«ضوء أخضر» سعودي
وفي هذا السياق، استبعدت أوساط دبلوماسية عربية، ووسائل إعلام اسرائيلية كذلك، أن يكون دخول المنامة على خط الإعلان العلني للتطبيع مع إسرائيل، ليمرّ لو لم تحصل على ضوء أخضر من القيادة السعودية، التي وإن كانت تعلن تمسكها بالمبادرة العربية للسلام، إلا أنها لم تعترض على مسار التطبيع الجديد. يذكر هنا أنّ البحرين كانت المكان الذي اختارته إدارة ترامب لإطلاق «الشق الاقتصادي» من خطتها المشار إليها آنفاً.
وكانت السعودية، (صاحبة أكبر اقتصاد في العالم العربي)، من أهم القوى الخليجية التي تعهّدت بتقديم مساعدات مالية قيمتها 10 مليارات دولار في العام 2018 للبحرين التي تعاني من ضائقة مالية. كما تدخلت قوّاتها في العام 2011 لدعم المنامة في خضم الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح آنئذٍ.
ومع وجود العديد من المؤشرات التي تدل على إمكان وجود علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية محتملة بين السعودية وإسرائيل، إلا أن الأوساط ذاتها اعتبرت أنه من السابق لأوانه انخراط الرياض في أي اتفاق علني للتطبيع، لأنها ليست على عجلة من أمرها، وتدرس هذه النقلة بروية، بعد أن أفسحت في المجال أمام الإمارات والبحرين للمضي فيها، وقد تقدم عليها لاحقاً سلطنة عُمان.
وفي خطوة لافتة، كانت الرياض سمحت للرحلات الجوية بين إسرائيل والإمارات بالعبور فوق أجوائها. غير أن دخولها على خط التطبيع المعلن قد يكون بمثابة «جائزة دبلوماسية كبرى لإسرائيل»، كما وصفها العديد من المراقبين، بالنظر إلى أن الملك السعودي يحمل لقب «خادم الحرمين الشريفين» ويحكم أكبر دول العالم المصدرة للنفط.
ويبدو أن القيادة السعودية قد شرعت بجس نبض السعوديين واختبار ردود فعلهم، من خلال الخطب الدينية التي يلقيها إمام الحرم المكي، الذي يُعدّ من المسؤولين البارزين، ويعكس آراء المؤسسة الدينية الرسمية والديوان الملكي في آن معاً.
تنكّر للقضية الفلسطينية
وفي كلّ الأحوال، فإن ما جرى في حديقة البيت الأبيض (15/9)، لا يرقى إلى مستوى الحدث الذي يمكن أن يساهم بصناعة السلام، وهو «ليس سلام الشرق الأوسط بالتأكيد، وليس حتى سلاماً في الشرق الأوسط». فالبلدان المعنيان (الإمارات والبحرين) لم يكونا يوماً في حالة حرب مع إسرائيل، ودوافعهما لعقد الاتفاقات معها لا علاقة لها؛ لا من بعيد ولا من قريب، بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والاتفاقان الموقعان أخيراً يتنكران تماماً لفلسطين ولمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ووقف الاستيطان، ولم يرد فيهما أي بند يتضمن التزام إسرائيل بوقف ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو حتى تأجيلها، كما حاولوا أن يروّجوا لهما!.
ما يعني أنّ المعضلة الرئيسية، القضية الفلسطينية، ستبقى من دون حلّ، وستستمر بؤرة للتوتر والحروب في المنطقة، هذا فضلاً عن الحروب الفظيعة الناشبة في غير مكان منها!. أما السلام الحقيقي فيُفترض به أن يعالج مشكلة ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وباقي مناطق الشتات واللجوء، الذين يتطلعون إلى أن يكون لديهم دولتهم المستقلة، مثل كلّ شعوب الأرض، وستظل مأساتهم مستمرة حتى تجد حلا مقبولاً لها، عاجلاً أم آجلاً.
وعلاوة على ذلك، فإن ما جرى، وسيجري قريباً مع دول عربية أخرى، كما تشير المعطيات وكما يُبشرّنا ترامب ونتنياهو، يجسّد تماماً رواية اليمين الصهيوني، بشأن «السلام مقابل السلام، وليس السلام مقابل الأرض»، (كما نصّت المبادرة العربية للسلام على الأقل). وبأنه «يمكن عقد معاهدات منفردة مع دول عربية، بعيداً عن قضية فلسطين وشعبها وأراضيها المحتلة».
ولعله من المفيد التذكير هنا، أن المبادرة العربية للسلام التي طرحت في القمة العربية (بيروت 2002)، كانت ستمنح إسرائيل تطبيعاً كاملاً في حال التزامها بإعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، لكن إسرائيل رفضتها. وهي مستمرة برفض أية مقترحات بشأن الدولة الفلسطينية مهما كانت طبيعتها وشروطها، حتى لو طرحت من قبل إدارة ترامب نفسها!.
نقطة تحول فاصلة
وعلى ذلك، فما حصل يمكن اعتباره نقطة تحوّل فاصلة في سياسات المنطقة، وربما في تاريخها، إذ أنه يعكس التغيرات البنيوية التي شهدتها في العقود الماضية. والتي يقع في صلبها أنّ العواصم التي كانت تشكل مراكز ثقل السلطة في العالم العربي، تراجعت وتهمّشت، بينما انتقلت عواصم الأطراف والهامش إلى مركزها.
وترافق ذلك مع تراجع الاهتمام العربي على مختلف الصعد والمستويات بـ«قضية العرب المركزية»، أيّ الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. ومن أبلغ المؤشرات على ذلك هو مقدار التغيّر في موقف المنظومة العربية من الحدث الأخير. فعندما تم التوقيع على اتفاق «كامب ديفيد» بين مصر السادات وإسرائيل في عام 1979، سارعت جامعة الدول العربية إلى قطع علاقاتها مع مصر. بينما رأت «الجامعة» الآن أنّ اتفاق أبراهام «قرارٌ سيادي لدولة عربية، وأنها لن تتدخل فيه»!.
بمعنى آخر، فإنّ دوافع ومصالح الدول الموقعة على الاتفاق تقدّمت على الهمّ والشأن الفلسطيني، ولقي ذلك، في الوقت عينه، «تفهماً» من قبل المنظومة العربية. و«ترجمة» هذا تُحيل مباشرة إلى أنّ «الخطر الإيراني» وغيره من الأخطار الأخرى، وفق رؤية وتصنيف العواصم الخليجية وغيرها من العواصم العربية، باتت لها الأولوية، بل هي الأخطار المطروحة فقط، أما الخطر الصهيوني، فلم يعد قائماً أصلاً بالنسبة إليها، وأضحت إسرائيل هي «فرس الرهان» في مواجهة الأخطار المحدقة!.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الاتفاق الذي وقع أخيراً هو بمثابة نتيجة لعملية التحول العميقة في المصالح والتحالفات، وتأكيد في الآن نفسه لمدى تغيّر المشهد السياسي في العالم العربي. فإسرائيل «أصبحت لاعباً مرحباً بدل أن تكون هي العدو المنبوذ»!. و«الخطر الإيراني المشترك» الذي يجمع اليوم بين دول الخليج وإسرائيل، بات هو الدافع والعامل المحدّد الرئيس وراء «الهرولة» التي نشهدها وراء التطبيع، منذ اتفاقات أوسلو عام 1993، واتفاق «وادي عربة» عام 1994.
تبادل منافع راهنة
وهذا لا يلغي أيضاً، أنّ ما حصل يتعلق كذلك بعملية تبادل منافع راهنة بين الأطراف المشاركة. وقد اتفق أغلب المعلقين على أنّ من أهم أسباب الاتفاق هو رغبة الرئيس الأميركي بتحقيق «إنجاز دبلوماسي» يساعده في الانتخابات القريبة، في وقت يبدو وضعه فيها صعباً للغاية. والدول المعنية لا تمانع في ذلك، طبعاً، بل ولديها مصلحة في فوز ترامب بولاية ثانية، ولهذا سارعت إلى تقديم يد العون ومنحه هذه «الجائزة الانتخابية»، لعلّها تقلح في تقديمه كـ«رجل سلام»!. وموقفها هذا يأتي كشكل من أشكال «ردّ الجميل» له، بالنظر إلى موقفه المتشدد من إيران، وخروجه من الاتفاقية التي وقعتها إدارة سلفه باراك أوباما معها.
أما بالنسبة لنتنياهو، فإن ردّ جميله ينبغي أن يكون مضاعفاً، فقد سبق لترامب وقدّم له «خدمات انتخابية» مجزية، تمثلت بإعلان اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، عشية إحدى الجولات الانتخابية الإسرائيلية، ومن ثم تأييده لضم الجولان السوري المحتل، في جولة انتخابية ثانية. هذا فضلاً عن استفادة نتنياهو الكبيرة من موجة التطبيع الحالية، التي تمثل مكسباً سياسياً عظيماً بالنسبة إليه، في وقت يواجه فيه مشاكل داخلية جمّة؛ منها ملاحقات قضائية بتهم فساد، وانتقادات حادة على خلفية سوء إدارته لأزمة وباء كورونا.
كما أنّ الأطراف المعنية لا تودّ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وتخشى من سياساته وسياسات حزبه تجاه إيران وتجاه عدد من القضايا الأخرى المتصلة بالموقف من الدول الخليجية وسياساتها الخارجية والداخلية.
ورجّح مراقبون أن تكون الإمارات قد استعجلت الاتفاق ليكون بمثابة «بوليصة تأمين» لها ضد المخاطر المحتملة، لأنه سيعزّز روابطها مع الولايات المتحدة، بصرف النظر عمن يأتي إلى البيت الأبيض. معتبرين أنه سيخفف عنها الانتقادات «الديمقراطية» في الكونغرس، حتى لو فاز بايدن في الانتخابات القادمة.
وعلى رغم ما ورد في نصّ اتفاق أبراهام، بشأن إبداء استعداد الأطراف الموقعة للانضمام إلى الولايات المتحدة لتطوير وإطلاق «أجندة استراتيجية للشرق الأوسط»، من أجل توسيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية وغيرها من أشكال التعاون الإقليمي، إلا أنّ ثمة من ذهب إلى حدّ اعتبار الاتفاق بمثابة تحوّط من قبل قادة الإمارات، وباقي الأسر الحاكمة في الخليج، ضد احتمال فك الارتباط الأميركي بالمنطقة، وذلك عبر سعيهم إلى «علاقة أمنية استراتيجية» مع إحدى القوى الإقليمية العظمى في المنطقة، وهي إسرائيل.
ولعلّ أخطر ما في الأمر، هو تجاوز قضية التطبيع إلى قيام تحالف سياسي وعسكري مع إسرائيل، في وقت نصّ فيه الاتفاق على «تعهد أطرافه بعدم الدخول في أي التزام يتعارض معه»!.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت