- جهاد حرب
إن إصدار سلطة النقد لتعميمها "السري" رقم 128، غير المنشور في الجريدة الرسمية أو على موقعها الالكتروني، يدمر منظمات المجتمع المدني وعملها ونطاق مساعدة الحكومة الفلسطينية في المجالات الاجتماعية "الصحية والتعليمية"، والمساهمة في رسم السياسات، وتصويب أعمالها في ظل غياب المجلس التشريعي بهدف تعزيز سيادة القانون وحفظ حقوق المواطنين في وجه أي تعسف باستخدام القوة، وتعزيز نزاهة الحكم.
هذه التعليمات التي أشارت إلى وجود مخاطر مرتفعة لدى 3% فقط من منظمات المجتمع المدني الأكثر تعرضا للاستغلال في تمويل الإرهاب من إجمالي عدد منظمات المجتمع المدني وفقا لدراسة تقييمية على المستوى الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب في قطاع المنظمات غير الهادفة للربح في شقيه (1) الهيئات الأهلية والجمعيات الخيرية و(2) الشركات غير الربحية. وكما يقول التعميم ذاته إن النتائج أظهرت الحاجة لتعزيز ممارسات الرقابة والإشراف على هذا القطاع وتوجيه الموارد باتجاه المجموعة الفرعية ذات المخاطر المرتفعة.
وبغض النظر عن قانونية هذا التعميم، في ظني أن هذا حديث منطقي لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب؛ خاصة أن ذات التعميم وضع معايير لتصنيف درجة تعرض المنظمات غير الهادفة للربح لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وحدد أن تصنيف درجة مخاطر مرتفعة تنطبق على تحقق واحدة أو أكثر من المعايير المرسومة فيه وهي: (1) أن تكون فرع لمنظمة أجنبية مقرها الرئيسي في دولة مرتفعة المخاطر أو لديها فرع فيه. أو (2) ترتبط بعلاقة مالية مع دول مرتفعة المخاطر أو تحت المتابعة المعززة أو تحت تحديد مراقبة مستوى التقدم في الالتزام بمعايير العمل المالي. أو (3) يكون حجم إيراداتها أكثر من مائة ألف دولار ويندرج عملها ضمن الأنشطة الخدماتية؛ الإسكان والخدمات الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية. أو (4) رفع المصرف تقرير اشتباه لوحدة المتابعة المالية أو ورد حولها طلب استفسار ومعلومات من جهات الاختصاص.
هذه الشروط أو المعايير الأربعة الواضحة تعني أن أي منظمة ينطبق عليها أيا منها يقع في خانة المخاطر المرتفعة، وأن أي منظمة لا ينطبق عليها أيا من هذه الشروط تكون في خانة المخاطر المنخفضة خاصة إذا ما كان تمويلها يأتي من جهات دولية ممولة للحكومة الفلسطينية أو تعمل بموجب ترخيص ممنوح من الحكومة "وفق أحكام القانون الفلسطيني". وهذا ينطبق على ما جاء في التعميم ذاته "أنه لا يمكن اعتبار جميع المنظمات غير الهادفة للربح ذات مخاطر مرتفعة".
كما أن هذا التعميم يفكك الحاجة الى الحصول على موافقات مسبقة من قبل الحكومة لحصول المنظمات الاهلية، الشركات غير الربحية، على تمويل خارجي. بل أن هذا التعميم يفند ادعاءات الحكومة الفلسطينية بأن قرارها رقم 8 لسنة 2015 المُعدل لنظام الشركات غير الربحية الصادر في 7/7/ 2015 الذي يشترط عليها "الحصول على موافقة مسبقة من مجلس الوزراء لقبول الهبات والتبرعات والمعونات والتمويل وبيان الغاية منها" قد كان بهدف مكافحة غسل الأموال ومحاربة تمويل الإرهاب.
ففي هذا التعميم السري قواعد حاسمة وتعريف واضح للمخاطر التي لم تعمل الحكومة آنذاك على وضعها لتجنب وسم جميع المنظمات غير الحكومية "الشركات غير الربحية" بغسل الأموال وإعفاء نفسها من إعمال القانون وتفعيل أجهزة عملها في التدقيق والرقابة والمحاسبة لمن يخالف القانون، وانما ذهبت الى الجانب الاخر، قد يكون الاسهل لها، بوسم المجتمع المدني بغسل الأموال ووضع قيود على جميع المنظمات دون تصنيف أو تحديد معايير لهذه القيود. فبدلا من أتباع القاعدة الفقهية في القانون أن المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، فإن الحكومة اعتبرت أن المنظمات الاهلية "الشركات غير الربحية" جميعها مدانة إلى أن تثبت براءتها بالخضوع لشروط الحكومة والحصول على صك البراءة على خلاف أحكام القانون الأساسي الذي يتيح حرية العمل الأهلي.
كما يتنافى هذا الشرط "القرار" الموافقة المسبقة مع مبدأ استقلالية العمل الأهلي؛ فكيف يمكن أن تكون هناك حرية للمجتمع المدني في تحديد برامجه ومجالات عمله، وقدرته على إجراء التدخلات للمساهمة في رسم السياسات أو في الرقابة على أداء الحكومة وهو يأخذ الموافقة على هذه البرامج من الحكومة أو أن يكون خاضعا لشروطها. بمعنى آخر فإن الموافقة على التمويل يعني بصريح العبارة موافقة مسبقة على مجال عمل هذه المنظمة أو تلك.
في المقابل يمثل خضوع بعض منظمات المجتمع المدني، العريقة منها على وجه الخصوص، لقرار الحكومة آنذاك فيما يتعلق بالشركات غير الربحية نموذجا في قبولها التخلي عن استقلاليتها، ووقوعها في صدمة تدمير المؤسسة لذاتها، للصراع القائم آنذاك بين أقطاب الحكم، دون إدراك لهيمنة السلطة الحكومية على المجال الخاص بمنظمات المجتمع المدني، وهي بذلك عملت وفقا لمذهب "خاطي راسي" أو المثل القائل "لتبكي عيون كل الأمهات ولا عيون أمي تبكي" الذي يعرفه اغلب قادة العمل الأهلي الذين خاضوا تجارب التحقيق في زنازين الاحتلال الإسرائيلي. والأدهى من ذلك فقد تغافلت منظمات المجتمع المدني عن المثل القائل "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" ففي هذا الامر لا ينفع إعمال حسن النوايا في مثل هذه القضايا التي في الاغلب تؤدي إلى جهنم، كما كانت الحال في تعميم سلطة النقد رقم 128 الصادر في 16/6/2020.
على الرغم من الإيجابية الوحيدة في التعميم السري لسلطة النقد، التي تم ذكرها آنفا، إلا أنه أبقى على قاعدة أن منظمات المجتمع المدني مدانة ما لم تثبت براءتها أو حصول شقٍ منها على إذن الحكومة لتمويلها "الموافقة المسبقة للشركات غير الربحية". كما سلمت سلطة النقد الفلسطينية رقبة المنظمات الأهلية للبنوك، الخائفة والهلعة من ملاحقات القضاء الأمريكي والإسرائيلي، بسلطات واسعة لمجرد الشك فيها بتجميد الحسابات بل أن أحدها ذهب أبعد من ذلك بتجميد حسابات دون إعلام أصحابها رسميا خلافا للتعميم السري الصادر عن سلطة النقد.
في المقابل فإن سرية التعميم رقم 128 الصادر عن سلطة النقد الفلسطينية للبنوك تنتفي فيه قرينة علم الكافة لعدم نشره في الجريدة الرسمية "الوقائع الفلسطينية" بما يضع قانونية تنفيذ البنوك العاملة في فلسطين في عمل غير قانوني من جهة، واظهر مدى خضوعها لاشتراطات لا تحترم القواعد الواجبة في تطبيق التشريعات من جهة ثانية، وافتقادها للعناية الواجبة لحقوق العملاء من منظمات مجتمع مدني ومواطنين. كما أن الناظر الى موقع سلطة النقد يكتشف أن هناك تعاميم صادرة عنها أو ما يسمى "مجموعة الرقابة في سلطة النقد" دون الإعلان عنها بما يتنافى مع معايير الحوكمة والشفافية في البنوك المركزية ودون مخاطبة الجهات ذات العلاقة أو حوار وطني ومهني مع الأطراف المعنية في المجتمع المدني الفلسطيني خاصة في ظل الهجمة الإسرائيلية والأمريكية على منظمات المجتمع المدني وشيطنتها في المحافل الدولية، ناهيك عن الخصوصية الفلسطينية المتمثلة بالاستعمار الإسرائيلي وسياساته التعسفية بحق السلطة ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين.
إن جنوح المجتمع المدني في السنوات الماضية نحو مهادنة الحكومات والتخلي عن دورها المحوري في الدفاع عن المبادئ الأساسية القائم عليها والمتمثل باحترام الحقوق وتوفير مداخل إضافية لخدمة المجتمع باستقلالية دون هيمنة السلط الحكومية عليه، أدى الى المزيد من الشروط والتدخل في عمله وتحطيم منافذ تمويله. هذا الأمر يدعو منظمات المجتمع المدني إلى النظر بعمق لأسس وجودها ومجالات عملها لتحقيق أهدافها في تصويب العمل الحكومي، والمساعدة في رسم السياسات الوطنية والحكومية، وخلق التوازن ما بين المجتمع والسلطة الحاكمة ودون ذلك تفقد هذه المنظمات حقها بالوجود أو أن تكون قادرة على تأدية دورها في هذا الحقل. إن استعادة منظمات المجتمع المدني لقوتها ومكانتها في المجتمع، وبغض النظر عن الحكومة وشكلها، يستدعي إعادة النظر في أدوات عملها لتصويب الاختلالات التي أصابتها في السنوات الفارطة وذلك لوقف هيمنة الحكومة أو الحد من هذه الهيمنة على الأقل والحفاظ على مبدأ استقلاليتها بالأساس.
ملاحظة: بالإمكان الاطلاع على موقع سلطة النقد الفلسطينية للتأكد من عدم نشر هذا التعميم وتعاميم أخرى. انظر الرابط التالي تم الاطلاع عليه في9/10/2020. (هنا)
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت