- بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
أضحى العديد من رموز التيار الإسلامي الفلسطيني رموزاً و"مدارس" ليس فقط على مستوى فلسطين، وإنما على مستوى عربي وإسلامي وعالمي. فهناك مدارس القسام، والحاج أمين الحسيني، وهاني بسيسو، والشيخ أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، والشيخ رائد صلاح... وغيرها. وهي مدارس لم تُعطَ حقّها، ونماذج لم تأخذ بَعدُ مكانتها التاريخية المستحقة في الوجدان الإنساني.
الشيخ حسن يوسف الذي أُعيد اعتقاله منذ بضعة أيام، ثبّته الله وأحسن خاتمته، هو أحد هذه المدارس؛ حيث يجمع في شخصيته بين دعوة الإخوان المسلمين في أصالتها وعطائها وحركة حماس في صلابتها وعنفوانها.
هو من القلة النادرة في فلسطين التي يمكن أن يطلق عليها مصطلح "أولي العزم"؛ إذ قلّ أن تَجدَ أحداً في همته وعزمه وإصراره. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي والاحتلال يحاول كسر إرادته، وهو لا يكاد يخرج من اعتقال إلا ويدخل في آخر، حتى جمع نحو 25 عاماً من أعوام الاعتقال. وإذا كان الاحتلال لم يُغيّر سيرته في متابعة الاعتقالات؛ فإن الشيخ لم يُغيّر سيرته في كونه شُعلة من الهمة والنشاط في العمل والدعوة والنشاط السياسي والاجتماعي. فلا يكاد يخرج من المعتقل إلا ويصبح أكثر الأشخاص تأثيراً في الضفة الغربية، فيزور عائلات الشهداء والأسرى ويتفقد أحوالها ويواسيها، ويثبِّت إخوانه وشعبه، ويبث الحماس والصمود في مواجهة الاحتلال، ويجمع القلوب على الإسلام وفلسطين؛ ويحضر الاجتماعات السياسية ويمثل حماس فيها...؛ إلى أن يضيق به الاحتلال فيعيده للسجن، ليخرج بعد ذلك أقوى مما كان.
أكثر من ثلاثين عاماً من محاولات الإنهاك والتطويع وكسر الإرادة، لم تزده إلا قوة وعطاء؛ ليثبت أنه أكبر من الاحتلال، وأن العين يمكن أن تغلب المخرز؛ وأن الذي تجارته مع الله سبحانه منتصر وفائز لا محالة؛ حتى وإن قضى سجيناً أو مضى شهيداً. إنه الانتماء العميق المخلص للمشروع والفكرة والحركة، الذي يزداد تألقاً وعطاء كلما دخل "أفران الصّهر"... فالناس معادن... ونِعم هذا المعدن.
كثيرون من محبّيه والمشفقين عليه اقترحوا عليه أن يرتاح قليلاً، ويذهب إلى مجالات يجيدها تخدم الدعوة لكنها لا تصل بالضرورة إلى درجة تؤدي للاعتقال، كالوعظ والتدريس والعمل الاجتماعي...، فيأبى الشيخ إلا أن يكون كما هو؛ ويقول إن هناك عبادات وقربات يقوم بها كل الناس، لكنه يرفض مغادرة الثغر الذي يقف عليه، ويرد على سائله "أو ترضا أن يقول النبي لي على الكوثر: أَجَبنُتَ يا حسن؟!" يقول هذا وهو في الخامسة والستين من عمره (مواليد 1955)، وهو يتناول 14 نوعاً من الدواء، ويصلي على كرسي منذ ثلاثة أعوام. ومع ذلك يتساءل الشيخ حسن بعد أن يستشعر أن الأجل قد اقترب "أيجلس حسن بيته فيفسد، أم يحضر في مواطن ينفع فيها الناس؟!" إذ إنه يرى أن الجلوس والراحة إفساد للنفس... وهو ما لا يشعر به إلا أصحاب الهمم العالية.
إن مكانة الشيخ حسن العالية في النفوس أَخَذَت جانباً كبيراً منها بسبب تنزيله الإسلام على ممارسته وسلوكه، وبسبب تواضعه واحتكاكه بالناس وحمله لهمومهم، وتعبيره الصادق عن نبض الجماهير. هذا النبض عكسته أيضاً روحه الوطنية الوحدوية التي تستنفذ طاقتها في لمّ الشمل والبحث عن المشترك، وفي تصويب السهام نحو العدو، دون أن ينتقص ذلك من انتمائه الإسلامي وهويته الإسلامية. ولذلك يجتمع عليه الناس كما تجتمع عليه الاتجاهات والقوى الفلسطينية المختلفة، وليكون الشيخ حسن "أيقونة" المقاومة في الضفة الغربية.
والشيخ حسن بالرغم من مكانته، لم يكن يتطلع لمناصب ومواقع قيادية وسياسية؛ وحتى عندما رغب إخوانه بنزوله في انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006 حاول الاعتذار، لكنه اضطر للموافقة بسبب إصرار إخوانه، فكان الأول في دائرته الانتخابية.
ابتُلي الشيخ حسن في ابنه "مصعب" كما ابتلي نبي الله نوح عليه السلام في ابنه. وقصة ابنه مصعب معروفة حيث استفردت به حملات التنصير، بينما كان والده يكابد معاناة السجن وهموم الدعوة... فكان الشيخ حسن صلباً صابراً محتسباً؛ ووقف شامخاً ليقدم نموذجاً في الولاء والبراء، ويسير على درب الأنبياء والصالحين ممن تبرؤوا من آبائهم أو أبنائهم أو زوجاتهم عندما تنكبوا عن طريق الحق. لقد كان ذلك ثمناً قاسياً وابتلاء صعباً، لكن الشيخ حسن لم يتردد لحظة في تحمُّل تكاليفه والانتصار لدينه ودعوته.
مدرسة الشيخ مدرسة الإسلام في تجلياتها المعاصرة، هي مدرسة المرابطين القابضين على الجمر الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، وينتظرون لقاء الله وهم على ذلك. وهي مدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي يقول "لا راحة للمؤمن إلا بلقاء ربه".
قد يتساءل البعض عن الكتابة في "مدح" أشخاص في حياتهم؛ غير أننا نكتب هنا وصفاً لرجالٍ بما هو فيهم، وقياماً بواجب الدّفاع عن أهل الحق، وإبرازاً لنماذجنا المشرقة في عتمة التطبيع والسقوط والتراجع التي نراها هذه الأيام من كثيرين في بيئتنا العربية والإسلامية، ودعماً وتثبيتاً وشداً من أزر الشيخ حسن في وجه الاحتلال وطغيانه؛ ووفاءً لرمز من الرموز التي ربما قصَّر الإعلام وأدواته في التعريف بها، وفي إنزالها منزلتها التي تستحق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت