- بقلم: ميساء أبو زيدان.
فور تتبع مسار منظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها ورصد أهم المحطات التي انتقلت بالفلسطينيّن من واقع عنوانه الضياع والإنكار لآخرٍ أثبتوا خلاله حقهم بالأرض والوجود عبر ممثلهم الشرعي والوحيد حسبما أقرت قمة الرباط عام 1974 والاعتراف الدولي الذي تبِع نضالاً طويلاً ومريراً، ندرك حجم ما قدموه ومدى وعورة الدرب الذي سلكوه سعياً منهم للتأكيد على أنّ الفلسطيني وحده صانع قراره الوطني وهو مَن يمثل شعبه ويُرافِع عن قضيته. ويبدو أن تمسكهم بهذا الثابت عكسَ امتلاكهم المقدرة لقراءة ما يحيطهم قراءةً معمقة وواعية بكافة المناخات التي شهدتها المنطقة وتلك التي من الممكن أن تؤول لها لاحقاً، لجانب الدينامية التي تحلَوا بها وانطلقت من الفهم الكامل لواقعهم الشائك والمعقد ولطبيعة الصراع الذي يخوضونه بما يتضمنه من أطراف ومناحٍ.
لقد استطاع الفلسطينيّون صهر كافة الأيدولوجيات والتيارات والتوجهات التي صبغت فصائلاً وأفراداً منذ ستينيات القرن الماضي لصالح القضية الوطنية وضمن الإطار الجامع المتمثل بـ (م.ت.ف)، رغم أنها بدت وفي محطاتٍ متعددة المهمة المستحيلة للحد الذي اقتربت فيه بعض الأطراف من فرصة الإجهاز على المنظمة بل وصناعة الأزمات التي شكلت تهديداتٍ جدّية حالت دون تسجيل الأهداف الممكنة في مرمى العدو. وبعيداً عن التقديم التاريخي أو حتى القراءة النقدية لمسارها يُلاحظ أنه من أهم العوامل التي امتلكتها فصائل المنظمة في المرحلة التي سبقت توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 هو طبيعة وشكل العلاقة مع الجماهير سواءً الفلسطينية أو العربية، وحتى العالمية الحال الذي يُجسد ما امتلكته الفصائل حينه من مخزونٍ نضاليّ تنوعَ بمكوناته وعناصره ومجالاته بحيث تمكّنت بواسطته من تجسيد مشروعية نضال الشعب وبرهنت على عدالة قضيته.
لكن وفور عودة القوات الفلسطينية عام 1994 تم رهن المنظمة للمشروع الوظيفي المتمثل بالمكون البيروقراطي (لَبنة الدولة كما كان مأمولاً) بدلاً من أن تُحفظ كونها المرجِع لهذا المكون، بِخلاف حصرها جغرافياً بحيث قُلِّصت أدوارها ومؤسساتها في الخارج. على سبيل المثال لا الحصر فقد أصاب الفشل أحد أهم أذرع المنظمة في استمرارٍ لذات الفشل الذي ضرب الدائرة السياسية بصيغتها القديمة بحيث بات أداء السفارات والممثليات ركيكاً مُرتدّاً عن المستوى الذي فيه صيغَت الكيانية الوطنية، إلى جانب ضعف الصلات ما بين الأطر ومختلف فئات الشعب التي تمثلها حيث تركّزت جهود قيادة المنظمة على المكوّن الوليد. وبالإشارة لنجاح الديبلوماسية نجده انحصر بالمقدرة الفردية التي امتازَ بها كلاً من الشهيد الرمز (ياسر عرفات) والرئيس (محمود عباس) المتجسدة بالقدرة على تحريك الكادر العامل في ذات المضمار وبما تطلبته المصالح الوطنية.
إضافةً لما آل له حال مؤسسات وأطر المنظمة؛ فقدت القاعدة الأساسية (الفصائل) التي عليها بُنيت أجسام المنظمة وأذرعها جوهر أدوارها ألا وهو التعبير الفعلي عن القاعدة الجماهيرية، بل باتت فاقدة للفكر وللمقدرة على الاستمرارية لتتحول من تنظيماتٍ فاعلة إلى مؤسسات وظيفية تعتاش على حساب المنظمة مخلّفةً الفراغ البيِّن الذي أضعف هياكلها فباتَت مُتهالكِة وبالتالي لم تعد فعليّاً الإطار المرجع لأيّاً من المشاريع الوطنية. واحدة من المخاطر التي نَتَجت أيضاً عما آل له واقع المنظمة هو اختلاف وجه المعركة على (م.ت.ف) من محاولات خلق الجسم البديل المُقابِل لها إلى إحلاله وجوداً داخل أطرها القائمة (بظلّ صياغاتٍ برّاقة) بدلاً عمَن حفظ الهوية الوطنية وذادَ عن القرار المُستقل. البديل الذي باتَ اليوم مُتشدقاً بضرورة حماية الوطنية الفلسطينية من براثن البديل! الوطنية التي لم يدرك بعد كنهها فهماً أو إرادةً أو حتى فِعلاً قائماً.
أخيراً؛ ومما يُلاحَظ عبر نظرةٍ مُقارِبة لتجارب الشعوب أن مفهوم التنظيمات والأحزاب التقليدي فقد قيمته بل باتت المجتمعات المتقدمة (التي تبنت العِقد الإجتماعي منطلقاً لتحرر الإنسان فيها) تنحى مساراً يبدو فيه الفرد أساس النُظمِ والسياسات والتوجهات. هنا وبِفِعل العجز عن توحيد الجماهير في جبهةٍ تحاكي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، أو التحرر مما أنتجه واقع الفصائل الهلامية المتردي والتي أصبحت لا تُمثل إلا نفسها بات من الضرورة تبني الآليات أو الصِّيغ الكفيلة بتمكين الجماهير في الداخل والخارج من تمثيل فئاتها المختلفة داخل أطر ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، بعيداً عن مبدأ المحاصصة العبثي المطروح مؤخراً تدليلاً على حُسن النوايا الذي حدا بالبعض الذهاب بأبعد من ذلك لينادي بأهمية توحيد مختلف مكونات الخارطة السياسية بقائمة واحدة تخوض فيها الانتخابات المُرتَقبة لتتنافس وعلى ما يبدو والشعب !
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت