بوح "6"

بقلم: مأمون احمد مصطفى

مامون احمد مصطفى.JPG
  • مأمون احمد مصطفى

 

الحروف

 للسؤال لذة، تشابه لذة الغارق بهلوسات ورؤى وكوابيس المدمن على الترحال بين عوالم وحيوات يصنعها الخيال الجامح المغذى من جموح مخدر يستطيع أن يفتح في العقل آفاق ومساحات من ضوء منثور فوق ماس من وهم لا يمكن قراءته أو فك رموزه.

 لماذا نكتب؟ لماذا نحاول أن نخضع الأحداث والمشاهد إلى حروف لا تستطيع أن ترتقي إلى الأحداث والمشاهد؟

ولماذا نحاول أن نخدش حياء الحروف، ونفض بكارتها؟ دون أن نشعر بالعجز والهوان والمذلة؟

غزة، تعيش الموت، تتلمسه بالأيدي، وتشربه بالعيون، تغوص في مكوناته وأسراره، يتوحد فيها، وتتوحد فيه.

غزة، تقف على فاصل الألم والعذاب والأنات والدموع، تحمل الشهداء على نعوش فصلت من أشجار اقتلعت من جذر الأرض ومن جذر التاريخ، فيها رائحة الصنوبر، ورائحة البلوط والسنديان والزيتون، فيها رائحة البرتقال والليمون، وفيها رائحة الموت الموغل في اللحاء الراقد بين طيات التراب المعجون بالدماء المتسربة إلى نبع المياه المغذية للبقاء فوق الأرض.

غزة، تغادرها الأشياء، وترحل عن أجواء أفقها الشموس والأقمار، يسكن الموج، وينتحر الهدير القادم من متوسط شرق لا يعرف لغة الحزن والدموع، لينخرط الظلام، وتغوص العتمة بقلوب الأطفال الراعفة رعبا من الغيلان والأشباح، لينهضوا في الصباح، بحثا عن الشمس والضياء.

ونحن هنا وهناك، نمسك بالحروف من ناصيتها، من أهدابها، من غرتها، نجرها قسرا وجبرا إلى انفعالاتنا، نخضعها إلى مشاعرنا، لنقول آه يا وطن يوغل في الوطن، ولنقول، آه يا عرب يلغون صمتا بدماء أطفالنا المحملين بالظلمة والعذاب والقهر والدموع.

هل عرفتم كيف تغتال أحلام عروس الطفلة ليلى في غزة؟ أم أحسستم ببكاء الدفاتر والكراسات وهي تفيض فوق الأرصفة والجدران المهدمة؟ هل قرأتم سهوم العيون المزروعة باليتم والوحدة والانطواء؟

للأرض لحن حزين، لا يتشابه مع أحزان الناس والبشر، يدخل فيها، يتوغل بمساحاتها، ينصهر ببؤرها ونواتها، لكنه يبقى حزن الأرض والتراب، حزن الشواطىء المحمولة على خاصرة الوجع، وحزن السهوب الهاوية بتقاطر وجع الجبال، حزن الظل الناشر رائحته على أعتاب مسامات الزمن والخلود.

ونأتي نحن، حملة الأقلام والمفردات، نضع العوينات على الوجه، نفتح الصفحات، لنبدأ بتلطيخها بما نحمل من عجز وقهر وشلل، نأتي لنمارس خيانة الحزن الساكن في الأرض، حين ندعي بأننا قد نقلناه من ذراته إلى صفحات ونفوس.

للإنسان ألم، وللطفل ألم، وللام ألم، للأخ الم، للأخت ألم، للأب، وللجد، وللجدران والسحاب والسماء ألم، لكن الورق المكتوب والملطخ بترهات تدعي أنها قادرة على استخراج ذلك الألم النابض والراعش بتكوين كل ما سبق، هذا الورق يشكل تقاطعا بين الوهم والحقيقة، بين الخيال والحق، لكنه أبدا لن يرتقي لمستوى دمعة طفل مكتسح بالرعب والخوف والانهيار، لن يصل إلى مستوى نظرة أم وهي تغسل شهيدها بخفقات روحها الدافقة لوعة وأسى.

غزة هاشم ، موطن الشاطىء المستقبل للنور والجواري ، تغرق اليوم بالظلام والحصار ، كما غرقت من قبل بظلام دامس ، ظلام ممتد بالنفوس التي كانت منذ ردح طويل تبحث عن بسمة أو حتى ظل بسمة فوق شفاه الناس المشققة الجافة بفعل الوجع المزروع بالوجع ، لكن البسمة ، ذلك المستحيل الذي نفى المستحيلات الثلاثة ، ما زالت معلقة في فضاء ممتد لا نعرفه ولا يعرفنا ، وستبقى بسمة طفل طواه المجهول بين دفتيه ، ونظرة طفلة مزقها الرعب والهلع وهي تشاهد وتشهد على اندثار الناس وتلاشيهم ، سيبقى هذا كله ، مخزون في أثير وجود لا يعرف الفناء أو التلاشي ، لا يعرف العدم والتبخر ، ليمطر يوما ما حقا يمتد من حد فلسطين إلى حد فلسطين .

نساء غزة، يسطرن الآن بما يملكن من صبر ورباط، أمجاد عرب ينتشروا على حدود الوطن، حاملين قلوبهم القاسية المتصخرة، وروحهم المهاجرة من مساحات العروبة والروح، يقفون سدا منيعا، بين أمنيات أم تضحي بروحها من اجل الحصول على علبة دواء، أو لقمة عيش لرضيع اضواه الجوع وجفف حمرة خديه العطش.

على حدود فلسطين مصر، وقف الجيش المصري الباسل، يقذف النساء بماء، تمنى طفل أن يلامس رذاذه من أيام، يطلقون رصاصهم بأجواء قدمت تحمل نفوسا باحثة عن سكينة لحظة، ووقفت النساء تحمل الجريحات، تضعها في سيارات الإسعاف، وجيش مصر يواصل زرع الأفاق برعب الرصاص الساكن في حنايا الأمهات والأخوات، وقفوا ليدفعوا ضريبة الحاضر الذي قادهم إلى حصار نساء، كن فيما مضى أمهات للعرب والعروبة.

ألم تبك نساء غزة خوفا ورعبا من رصاص حرس حدود الشقيقة، لكنهن بكين، حين نهضت جثث الجيش المصري الراقدة بأرض سيناء وغزة وهي تتلوى ألما وتغرق كمدا، كانت المفارقة موجعة فوق طاقة الوجع، ودامية إلى حد حول دموع السماء والأرض إلى اللون الأحمر القاني.

ومن هنا، من هنا، توحد حزن الأرض والشاطىء والشجر، مع حزن الإنسان والأخ والأخت والأب والأم، واندمج برائحة الظل والأفق، ليصرخ بحنجرته المشروخة، أغيثونا يا أهل القبور، يا من وقفتم أمام الموت لتبعثوا الحياة في الناس والأشياء. أغيثونا من أشباح تدعي أنها تنتمي إلى أرواحكم الخافقة بالتراب والأرض أنفاسا ترج الكون والوجود.

هنيئا لكن يا نساء الوطن والحلم والروح، هنيئا لكن رجولة الأشداء من عرب اندثرت سيرتهم منذ أزمان، وهنيئا لتلك الأرواح والرجولة التي تتفجر في امرأة تستطيع أن تدفع صدرها المملوء بالحليب إلى رضيع يحاول أن يشق الوجود، يدفعن بصدورهن جور الأخ وجور العدو

 واتركننا نبحث في ذواتنا عن منبت الذكورة التي نعتز بها، كما الجرذ والنسناس، اتركننا نغازل الحروف ونغزل الكلمات، لتكون شاهدة على قدرتكن في خوض الصعاب ورفع الرواسي والجبال، ولتكون شاهدة على قدرتنا في ابتكار الحلم والخيال.

 ألم تحمل أسماء صرة الطعام، إلى صديقين كانا وكان الله ثالثهما؟

ألم تدفع فاطمة بنت محمد – صلى الله عليه وسلم – بسبطيها إلى معركة الحق والعدالة؟

 ألم تنثر الخنساء رماد أبناءها على مساحات الوجود وهي راضية مرضية؟

وكانت خنساء غزة امتدادا لخنساء الصحراء التي حملت أنفاس الشهداء.

 ألم تخض خولة بنت الأزور حربا على فرس اقتحمت لجة الغضب وهدير الموت؟

 ألم تمت رجاء أبو عماشة وهي تحاول إنزال علم احتلال الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لترفع علم فلسطين؟

ألم تقل فتاة يافعة من مخيم جنين، بأنهن سينجبن الشهداء بالجملة، بل وسنزرع الأرض بالأجنة إذا لم يتسع الرحم؟

ألم تقلن كلكن وبصوت واحد " حسبنا الله ونعم الوكيل "؟

 يا نساء غزة وجنين وطول كرم والخليل، يا نساء نابلس وحيفا والجليل، يا نساء الوطن وفلسطين، أنتن فقط، وفقط أنتن، من يصنع التاريخ، ومن يحمل راية الحق والعدل والتضحية، بدءا من رحم يدفع بجنين شهيد، الى صدر يغتال وهو يكتظ بحليب طفولة تنتظر الرحيق.

انظرن نحو الشاطئ، نحو الأفق، نحو الآماد، لكن إياكن أن تنظرن إلينا أو إلى الحروف، حتى لا تصبن بداء ذكورة الجرذان والنسانيس، واتلون فوق هاماتنا الوهمية سورة الملك أو سورة ياسين، عل رحمة قدرتكن تصل إلى مواساة عجزنا وشللنا.

مأمون احمد مصطفى

فلسطين – مخيم طول كرم

النرويج – 24- 01- 2008

 

        

 

        

 

        

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت