- محمد عبد الحكم دياب
تختلف الرؤى حول «الاتفاق الإبراهيمي» المُوَقّع بين الإمارات والبحرين والدولة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية، ونال على الفور المباركة الرسمية المصرية، وعبرت عنها تصريحات «المشير» السيسي المرحبة كما توقعنا، وجاء على صفحة الرئاسة بمواقع التواصل الإلكتروني أنه تابع باهتمام وتقدير بالغ البيان الثلاثي المشترك، حول ما وصفه اتفاقا على إيقاف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية(!!) واتخاذ خطوات من شأنها إحلال السلام في الشرق الأوسط(!!) ومثمنا جهود القائمين على هذا الاتفاق من أجل تحقيق الازدهار والاستقرار لمنطقتنا(!!) وكأَنَّ كلام نتنياهو، وكذبه المستمر مُصَدَّق، وهو الذي لا يتوقف عن قضم الأراضي وبناء المستوطنات حتى أوشك ما بقي من أرض فلسطين على الاختفاء!!
ونال الاتفاق تأييد سلطنة عُمان، ووصفه الناطق الرسمي لوزارة خارجيتها، بالإعلان التاريخي المشترك بين الدولتين الخليجيتين، وبين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية، أما الأردن فرأى فيه اتفاقا قد يدفع مفاوضات السلام المجمدة إلى الأمام، إذا نجح في حث (إسرائيل) على قبول دولة فلسطينية على الأرض التي احتلتها في حرب عام 1967، وأعلنت السلطة والفصائل الفلسطينية رفضها واستنكارها الشديدين للإعلان الثلاثي، واعتبرته «نسفا لقرارات القمم العربية والإسلامية والشرعية الدولية».
وبسرعة كتب بنيامين نتنياهو، تغريدة على حسابه الرسمي شكر فيها «المشير السيسي» على دعم «الاتفاق التاريخي(!!) «الذي يعود بالفائدة على المنطقة بأسرها»(!!). وقد نتج عن ذلك أن توجه يوم الثلاثاء الماضي (20/ 10/ 2020) وفد إماراتي إلى تل أبيب في أول زيارة رسمية للدولة الصهيونية، ورأسه وزير الدولة للشؤون المالية، ووزير الاقتصاد، ورافق الوفد «ستيفن منوتشين» وزير الخزانة الأمريكية؛ بعد حضور «عشاء عمل» جمع مسؤولين إماراتيين وصهاينة في أبوظبي عشية الزيارة، وسبق للرئيس الأمريكي وصف الاتفاق في تغريدة له بـ«الاختراق الضخم والتاريخي بين صديقينا الكبيرين»(!!).
وحين احتاج غطاءً دينيا وأيديولوجيا تمت صناعة وهم اسمه «البيت الإبراهيمي»؛ وهو ما وصفه باحث فرنسي في الدراسات الإسلامية هو «سيلفان رومان»؛ وصفه بالفكرة الشيطانية الخطيرة.. ونشأ «رومان» في أسرة تؤمن بتعاليم الكنيسة السبتية، لكنه اختلف عنها، وركز على قواسم مشتركة بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ولفت نظره وهو يقرأ القرآن وصف أتباع المسيح بالمسلمين، ورأى من جانبه أن الانجيل يدعوه ليكون مسلما، وأحدث ذلك ثورة فكرية في نفسه، وأضحى على قناعة بأن فهم الأديان بهذه الطريقة ربما يجنب البشرية كثيرا من المعاناة والمتاعب والصراعات، ومنذ صغره يشعر بأن دينه يحثه على الخضوع لله، ووجد ضالته في نصوص القرآن وآياته، وفي القواسم المشتركة للأديان الثلاثة، ولم يعتبر نفسه خارجا عن المسيحية، وقال: المسيحية هي التي دعته ليكون مسلما، ووقف ذلك وراء تأييد «الديانة الإبراهيمية»!!.
وتناولت هبة جمال الدين عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية «الاتفاق الابراهيمي» وأرجعت فكرته لأحد المتطرفين المصريين؛ هو السيد نصير وتعود لعام 1991؛ مستهدفا بها مساعدته في الخروج من السجن، الذي يقبع فيه منذ مقتل الإرهابي الصهيوني «الحاخام مائير كاهانا» سنة 1990، وصدر الحكم ضده بالسجن المؤبد؛ وأُضيف إليه 15 عاما، وحوكم معه الشيخ عمر عبد الرحمن مفتي «الجماعة الإسلامية» وتُوُفي الشيخ وهو يقضى عقوبة السجن مدى الحياة في سجن بوتنر؛ بولاية كارولينا الشمالية، وشملت المحاكمة محمود أبو حليمة، الذي أطلق عليه الصحافيون الأمريكيون اسم «محمود ذا رِد» (محمود الأحمر) وباسم الملقب بـ«عشيق الشقراوات الألمانيات» الذي هاجر من مصر إلى ألمانيا، وتزوج ثلاث ألمانيات، واحدة بعد أخرى، وجاء مع الثالثة إلى نيويورك؛ طالبا اللجوء السياسي بسبب إنتمائه لـ«الجماعة الإسلامية» والمطارد من الرئيس المصري المخلوع، حسنى مبارك؛ بعد مواجهات مسلحة مع رجال الأمن؛ في عملية استهدفت مناطق سياحية بصعيد مصر. وما زال نصير حبيس السجون الأمريكية، وكان القضاء الأمريكي قد برأه، وحالت جماعات الضغط الصهيونية دون الإفراج عنه إلى الآن.
وكتبت جمال الدين أن نصير أرسل لبِيل كلينتون مقترحا بعنوان «الاتحاد الإبراهيمي» الفدرالي؛ كحل يخدم الأمن القومي الأمريكي، ويضع حدا للصراع العربي الصهيوني، وتأسيس «دولة ابراهيمية» تسقط فيها الحدود ويعيش فيها اليهود والفلسطينيون جنبا إلى جنب بـ«جنسية ابراهيمية»! ولم يتلق ردا، وأصر واستمرت رسائله مع كل تغيير في الإدارات الأمريكية، وجاءه رد نائب الرئيس الأمريكي «ديك تشيني» تقول له: رسالتك وصلت.
وقد يُلقي ما نُشِر على موقع «تايمز أوف إيجيبت» الاثنين الماضي (19/ 10/ 2020) الضوءً على جانب مما نتناوله، وكان بعنوان «مسلمون يهود ومسلمون نصارى» لأستاذ اللغويات والمحاضر في اللغة العربية للأجانب بجامعة برمنغهام البريطانية وجامعة عين شمس بالقاهرة؛ الأستاذ المصري محمد العشيري، يُفرق بين الشريعة والدين، ويرى أن الخلط بينهما أدى إلى خلط آخر في أذهان كثير من المسلمين، ونشأ عن الحديث عن «ديانات» جاءت للبشر، والأصوب؛ في رأيه مصطلح «شرائع»؛ شريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد (عليهم السلام) ورأى في ذلك الخلط فهم ضيق لمعنى «إسلام» والقصد المتداول في العصر الحالي هو شريعة النبي محمد (صلعم) كما يقول، وهذا تضييق لمفهوم «إسلام» التي تطلق في القرآن على الدين الوحيد.. الذي أنزل من عند الله، وليس فقط الشريعة.. التي أنزلت علي الرسول الكريم؛ كما يفهم العامة.
واعتمد العشيري على آيات القرآن في إثبات أن الدين واحد، وأن الأنبياء والرسل كانوا مسلمين، ودعوا أقوامهم إلى الدين الواحد الذي بعث به الله، فنوح (عليه السلام) قال لقومه: «وأمرت أن أكون من المسلمين» (يونس: 72) ووصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما: «يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» (البقرة: 132) ودعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ...» (البقرة: 127) ووصية يعقوب قبيل موته لأولاده: «إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون» (البقرة: 133) وحين قال عيسى (عليه السلام) «من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون» (آل عمران: 52) وهكذا، وخلاصة هذه الرؤية أن المقصود بالدين هو دين الله الواحد مع تعدد الشرائع. واستخدم القرآن تعبير «دين الله» بالفعل.
وهذا المنطق يدحض ما جاء في الترويج الصهيو أمريكي؛ سواء المرتبط بـ«اتفاق إبراهيم» الذي أعلنه ترامب ووصفه في تغريدته بـ«بالاختراق الضخم» أو فيما قامت به جامعة «هارفارد» ودعوتها لـ«دين إبراهيمي» جديد؛ بدمج الشرائع اليهودية والمسيحية والإسلامية في دين واحد؛ صهيوني المحتوى، عنصري التوجه. يقوم على الإبادة، ويعتمد التطهير العرقي، ويمارس التهجير القسري، ويتولى قضم الأراضي، ويمحو فلسطين من الجغرافيا، ويحرمها من الوجود الواقعي والسياسي، ومأزق هذا الدمج في طبيعته؛ المحملة بالأوزار التاريخية والدينية والسياسية والعسكرية الإرهابية والعدوانية والوحشية، وإذا ما تم هذا الدمج تؤول القيادة والسيادة للحركة الصهيونية والولايات المتحدة، وروافدهما.
وهل يبدو أن مشروع «الدين الإبراهيمي» بديل الماسونية؟ والمؤكد أنه غطاء لإمبراطورية شر صهيونية كبرى؛ تتجاوز حدود الادعاء «التوراتي» من الفرات إلى النيل، فيصبح من الخليج إلى المحيط، والواضح أنه دين يجسد الزيف بكل معانيه، ويخرج من الأقبية العنصرية، ويعتمد على رسل وأنبياء شياطين؛ من القوادين والمرابين والقتلة والمخربين؛ المعتمدين على التطبيع والاغتصاب والتوسع والنهب، وتتساقط أمامهم كيانات ودول عربية وإسلامية؛ واحدة تلو الأخرى، كأوراق الشجر الذابلة والجافة، وذلك عكس ما يدعون ويزعمون عن القواسم المشتركة في الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ إنه كذب وتدليس وافتراء؛ إذا ما تم الأخذ بالدين الواحد والشرائع المتعددة، وما زال الملف مفتوحا!!
--
صحيفة «القدس العربي» اللندنية
23, Oct 2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت