- شريف حسني الشريف
في ذكرى مجزرة كفر قاسم الرابعة والستين، لا تتجدد أحزان الفلسطينيين في البلدات العربية في الـ 48 فقط، بل تتوهج شعلة ارادتهم، بالإصرار على البقاء والتشبث بالأرض، و إبقاء الروح الوطنية متقدة في صدور الأجيال الشابة التي لم تعاصر تلك المجازر، وإعلان الرفض ومقاومة كل المحاولات الساعية لاقتلاعهم، وتبديد شملهم. ودحضا لمساعي إرساء تاريخ مزيف، يقوم على راوية الكيان العنصري، وسياساته الاقصائية. حيث يتقمص الجلاد دور الضحية، ويعزو وحشيته لأخطاء، فردية صادرة عن سوء فهم، لإنهاء حياة أبرياء عزل، يرزحون تحت احتلال ينادي بقومية الدولة اليهودية. ويعتبرون ضمنيا من مواطني الدولة، التي اقدم جنود وحدة حرس الحدود و تحت غطاء أوامر عسكرية صارمة على قتلهم بدم بارد، ومن ثم تقديم القتلة إلى محاكمات صورية، أدت لإطلاق سراحهم، وتغريم المسؤول الأول عن المجزرة قرشأ واحدا.
تعتبر مجزرة كفر قاسم حلقة في سلسلة المجازر الإسرائيلية التي لا تحصى بحق الشعب الفلسطيني، ارتكبتها قوات حكومة الاحتلال الإسرائيلية بحق أهالي البلدة عام 1956، ضمن خطة ترحيل فلسطينيي منطقة «المثلث الحدودي» (بين فلسطين 1948 والضفة الغربية التي كانت جزءا من الأردن)، و التي تقع فيها بلدة كفر قاسم، من خلال ترهيب سكانها. تميزت عن باقي المجازر بتزامنها مع العدوان الثلاثي على مصر. الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. حيث استغلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسماة «حرس الحدود» الانشغال بالعدوان على مصر لتنفيذ المجزرة البشعة، وذلك بعد تطويق البلدة من جهات ثلاث، وابقاء الجهة الشرقية نحو الضفة الغربية مفتوحة، في دلالة على مسعى تهجير السكان. ارتبطت المجزرة بأسماء عدد من العسكريين الإسرائيليين أمثال الضابط «يسخار شدمي» الذي استدعى شموئيل ملينكي، وأبلغه بقرار تكليفه مهمة حراسة الحدود، وفرض منع التجول في قرى عديدة من بينها كفر قاسم، ومن ثم أعطى التعليمات بارتكاب المجزرة.
بدأت المجزرة عقب إصدار أمر عسكري بفرض حظر التجول على القرى العربية في «المثلث الحدودي»، الذي يمتد من أم الفحم شمالا إلى كفر قاسم جنوبا، بدءا من الخامسة مساء يوم 29 /10/ 1956 وحتى السادسة من صباح اليوم التالي. وأرفق الامر بقرار أمني لإطلاق النار، وقتل كل من يتجول بعد سريان الحظر، قام الجنود بإطلاق النار على عدد من الأهالي القرية العائدين مساءا، وقتلوا منهم 49 شخصا، وأصابوا العشرات بجروح بالغة، بذريعة خرق قرار بعدم التجول.
وقد حاولت حكومة إسرائيل إخفاء جريمتها، ولكن تسرب الأخبار دفعها لإصدار بيان، لتشكيل لجنة للتحقيق. حيث توصلت اللجنة إلى قرار يقضي بتحويل قائد وحدة حرس الحدود، وعدد من مرؤوسيه إلى المحكمة العسكرية، التي استمرت على مدى عامين، ومن ثم صدرت في 16/10/1958 أحكاما متفاوتة بالسجن على منفذي المجزرة تتراوح ما بين 15-17 عاما، بتهمة الاشتراك بقتل 43 عربياً، بينما حكم على الجنود الآخرين السجن الفعلي لمدة 8 سنوات بتهمة قتل 22 عربياً، وبعد قرار من محكمة الاستئناف نص على تخفيف المدة، أطلق سراح الجناة، و آخرهم أطلق سراحه مطلع العام 1960، فيما عوقب يسخار شدمي، صاحب الأمر الأول في المذبحة في مطلع 1959، بالتوبيخ، ودفع غرامة مقدارها قرش إسرائيلي واحد!!
دلالات .. وابعاد
- فوجئت القيادة الاسرائيلية بعد الاعلان عن استقلال دولة اسرائيل948 ، بوجود عربي داخل حدودها. وفي حين سعت الحركة الصهيونية منذ البداية، كما قيادات التنظيمات اليهودية قبل قيام اسرائيل وبعدها، لإخلاء الدولة من اي وجود عربي. وبينت محاكمة الذين نفذوا المجزرة، وجود الصلة الوثيقة بين القتلة الذين نفذوا الجريمة، وبين القيادات السياسية والعسكرية العليا. من خلال تنفيذ أوامر محددة لها هدف سياسي محدد تنفيذ مجزرة يعتبر ضحاياها من مواطني الدولة، وقتلوا علي يد وحدة تابعة للحكومة. وبذلك فإن قتل المدنيين الفلسطينيين قام على أسس عنصرية.
- جاءت مشاركة اسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر لتحقيق عدة أهداف. منها الحصول على دعم بريطانيا وفرنسا في تطوير قدراتها العسكرية، خصوصا في المجال النووي. وتنفيذ خطة اخلاء وطرد وتهجير من تبقى من الفلسطينيين الى خارج الحدود، واستغلت العدوان لتنفيذ المخطط ( س 59) والذي يقضي بإخلاء المواطنين الفلسطينيين من المثلث، وذلك في اطار حرب محتملة مع الاردن. وقد كشف الباحث اليهودي، آدم راز، عن مخطط إسرائيلي لترحيل سكان 27 قرية في المثلث إلى الأردن إذا ما شاركت الأردن في الحرب.
- أهميّة الدلالة التاريخية لمجزرة كفر قاسم، كشف لزيف الرواية الصهيونية بأن الفلسطينيين هم من تركوا منازلهم وخافوا وهاجروا، و إثبات قاطع لعملية تهجير وتخويف وذبح وطرد للفلسطينيين، ووجود عمليات ممنهجة لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين وطردهم.
وقد شكلت هبة يوم الأرض سنة 1976 ظرفا مواتيا، حيث أقيم نصب تذكاري في القرية ذلك العام. وغدت ذكرى مذبحة كفر قاسم، ثم ذكرى يوم الأرض من أبرز معالم حياة ووعي الفلسطينيين في أراضي الـ 48. فالحدث الأول صار رمزاً للصمود والبقاء رغم سياسة الترهيب في خمسينيات القرن العشرين، و غدا يوم الأرض انتفاضة للتصدي لسياسة نهب الأراضي، والتضييق المستمر على الفلسطينيين في البلدات العربية.
كما أدت مساعي الأحزاب العربية في الكنيست لاعتراف الحكومة الإسرائيلية بمسؤوليتها عن المجزرة، وقدم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريزــ خلال زيارته لكفر قاسم عام 2007،اعتذارا، وفي عام 2014 شارك رؤوفين ريفلين خلف بيريز في مراسم إحياء ذكرى ضحاياها، واصفا ما حدث بـ«الجريمة النكراء» التي يجب معالجة تداعياتها
رغم مرور عشرات السنين على المجزرة، ما زالت بلدة كفر قاسم، وسائر البلدات العربية في الـ48 تقيم بالتزامن مع ذكرى المجزرة فعاليات واسعة إحياء لها، تبدأ بالخروج في مسيرة شعبية انطلاقا من مكان النصب التذكاري الذي أقيم في مكان حدوثها، وتنتهي بزيارة مقبرة الشهداء لقراءة الفاتحة على أرواحهم. وينظم الفلسطينيون سنويا في الذكرى المجزرة مهرجانات سياسية وفنية وفعاليات للتعريف بها. وقد أقام أهالي كفر قاسم في العقود الأخيرة متحفاً لتجذير مكانة المذبحة في الذاكرة الفلسطينية، كما عملوا على إحياء هذا الحدث بالمشاركة مع ناشطين وقيادات سياسية.
من خلال التأكيد على أن:
1)العقلية التي وقفت خلف مجزرة كفر قاسم لا تزال هي المهيمنة في إسرائيل، و أن التوجهات العنصرية والعدوانية
التي أدت إلى المذبحة لم تتغير.
2) أن المسيرات والفعاليات المرافقة لإحياء ذكرى المجزرة، هي بمثابة تعبيرعن نضال ومشروع سياسيي، بأننا كفلسطينيين نناضل لاستعادة حقوقنا التاريخية والسياسية، كأصحاب وطن وكسكان أصليين، وأننا لن نقبل التهجير، والتخلي عن حقوقنا، ولن تفلح سياسات دولة الاحتلال العنصرية في اقتلاعنا.
يذكر أن اللجنة الشعبية لإحياء الذكرى الـ60 للمجزرة (عام 2016) أنجزت مشروعا توثيقا يحاكي أحداث المجزرة، وقد سُمي بانوراما الشهداء. كما تم إنشاء صفحة على شبكات التواصل الاجتماعي باسم «الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم» تخليدًا لتضحية الشهداء ونشرا للمعلومات الدقيقة بشأن المجزرة وتفاصيلها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت