قصة قصيرة: عاهد ذياب...الفدائي المُلَثَّم

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

عبدالحليم أبوحجاج
  •  للكاتب/عبدالحليم أبوحجاج  

   تكرر غيابه عن طابور الصباح، فكان يأتي الصف في نهاية الحصة الأولى، أو بعد بداية الحصة الثانية، وكثيراً ما كنتُ أُعدِّل غيابه إلى حضور في سجل المتابعة الخاص بطلاب الصف، وأطلب مثل هذا التعديل في السجل المدرسي العام، بصفتي مربياً للصف التاسع " ب " بمدرسة النصيرات الإعدادية. في البدايات كنتُ أقبل منه أعذاره عندما كان التأخير قليلاً ومتباعداً، فمَن مِنَّا لا يفوته موعد سابق بسبب طغيان الدفء تحت اللحاف في الصباح الباكر، أو بسبب الغفلة والنسيان، أو لأي سبب كان؟. ولكنه مع عاهد أصبح عادة.

  • وبعدين معاك يا عاهد؟ يا ابني استيقظ مبكراً، أو أُطلب من أحد والديك أن يوقظك من نومك الثقيل حتى لا تتأخر مرة أخرى عن طابور الصباح.

   ينظر إليَّ نظرة غامضة، ثم يخفض بصره إلى موضع قدميه ويقول بصوت هامس: - حاضر. كنت أظنه قد سمع كلامي واستجاب لنصحي، ولكنه عاود تأخيره، بل تعداه إلى غياب يوم كامل. وقد لاحظت عليه شحوب وجهه وشروده وسرحانه حين يكون في مقعد الدرس. وذات مرة أردتُ أن أفجأه:

  • عاهد! أكمل قراءة النص من حيث انتهى زميلك.

   تلجلج قليلاً، وبان عليه الارتباك، ثم أخذ يقرأ أول سطر وقعت عليه عيناه، وكان أول النص. فتركته يقرأ رغم محاولة بعض التلاميذ الاعـتراض، فأشرتُ إليهم أن اتركوه يقـرأ. وبعد أن انتهى أثنيتُ عـلى جودة القـراءة، وأحـببـتُ أن ألفتُ انتباهه وأُشعره بضرورة متابعته للدرس:- خليك معانا ياعاهد، وانتبه للدرس.

   كثيراً ما كان يُرى منصرفاً عن الدرس بالنظر إلى الخارج عبر النافذة، وكأني به ينتظر أحداً، وحين أزجره يُحوِّل وجهه إلى السبُّورة في صمت وهدوء، وحين يسهو عن نفسه يُرى شارداً إلى بعيد مخترقاً بعقله شَبَكَ النافذة إلى فضاء آخر، سابحاً في ملكوت آخر، فأحار في أمره، وأحاول جاهداً بيني وبين نفسي أن أجد تفسيراً مقنعاً لسهومه وانشغال باله. لم أتدخل في بادئ الأمر، فإنَّ لكل إنسان خصوصياته يخبِّئ فيها أسراره، وأنا لا أريد أن أقتحم عليه حياته الخاصة إلا بالقدر الذي يسمح لي به عملي التربوي لأجل التشخيص والمعالجة .

   في يوم، جاء عاهد كعادته متأخراً، ولكن يبدو عليه شيء من التعب، وبعد أن قعد وسكت عنه لهاثه، طبَّق ذراعيه ووضع رأسه عليهما كمن يريد أن ينام ويستريح، فأحاطت به نظرات زملائه تحاصره باستعطاف بالغ، فاقتربتُ منه، ومسحتُ على رأسه بلطف، وناديته برفق:- عاهد!.

رفع رأسه دون أن ينظر إليَّ، ولم يرُد.

  • ما بك؟.  
  • (.....).
  • هل تشكو من شيء؟.
  • شوية صُداع.
  • إذا كنتَ تتوجع فاذهب إلى العيادة المدرسية ليراك الطبيب.
  • الآن؟.
  • إذا كنتَ بحاجة إليه.
  • ياريت ! فخروجي يختصر الألم.

   لم أفهم ما يقصده من جملته الأخيرة، ومع هذا أعطيته الإذن بالخروج وبطاقة للعيادة المدرسية. وخرج بهمة ونشاط ، وكأن خروجه من المدرسة قد أذهب عنه كل ألم، وصرف عنه ما كان يشكوه من تعب. وما إن أصبح خارج الصف حتى امتلأ الصف بهمهمات التلاميذ الغامضة، ومع هذا لم أنتبه لشيء ولم أسأل عن شيء، بل لم أترك مجالاً للتلاميذ أن يقولوا في عاهد ما يعرفونه، ولم أعط نفسي الفرصة لسماع ما لدى التلاميذ من كلام عنه، فضبطتُ الصف وأعدتُ إليه نظامه وهدوءه، واستأنفتُ الدرس.

   في اليوم التالي لم يحضر عاهد، وحين حضر في اليوم الذي يليه كان وقت الحصة الثانية قد بدأ منذ قليل، فما إن أطل وجهه من فُرجة الباب حتى انصرف التلاميذ عني، واستداروا ينظرون إلـيه وعـلى وجــوهـهـم علامات مُـبـطَّـنة بالـدهــشة، وكــنـتُ أسـمع هــمهـمات غـامـضة تــنسرب من بين

شفاههم لم أفهم منها شيئاً. وقف بالباب، فقلتُ له:- الحمد لله على سلامتك يا عاهد!.

فرسم على شفتيه ابتسامة باهتة أضاءت وجهه الأسمر، وردَّ:- الله يسلمك يا أستاذ.

وسمحتُ له بالدخول، وما إن اتخذ مكانه حتى أخذت العيون تحوطه من كل جانب، وتزايدت الهمهمات وأخذ يعلو طنينها شيئاً فشيئاً، فصاحبني حينها إحساس بأن سراً خفياً يلح عليَّ أن أتبينه، ولكني لم اسأل. فأسكتهم واندمجنا في الدرس. معظم التلاميذ يتسابقون في المناقشة والإجابة عن أسئلتي إلا عاهد. معظم التلاميذ يرفعون أيديهم رغبة في قراءة النص إلا عاهد. وعاهد يقعد بجوار النافذة وعيناه إلى خارج، ويخيَّل إليَّ أن عقله وفكره خارج حجرة الدرس. لم يتبدل عاهد ولم يتغير، فالتأخير هو التأخير والغياب هو الغياب وإهمال الواجبات المدرسية هو الإهمال، وأصبح تقصيره في كل المواد الدراسية مجالاً يتندر به معلمو الصف التاسع " ب ". فكنتُ في داخلي أغضب له وأغضب منه، فقد كان عاهد في الشهور الأولى من السنة الدراسية شعلة متقدة من الاجتهاد والحرص على إتمام واجباته دون توجيه، وحريصاً أكثر على رضائي عنه. فماذا جرى لهذا الفتى؟! ما الذي جعله على هذه الحال من التراجع الدراسي والانطواء والعزلة عن مشاركته زملاءه في الأنشطة الرياضية والاجتماعية؟!.  إنه لغز مُحيِّر لابد من فك طلاسمه. إلى أن حضر يوماً في نهاية الحصة الثانية، فأوقفته بجوار السبورة حتى أستكمل شرح فكرة كنت قد بدأتها، وما إن انتهيتُ حتى دق جرس المدرسة إيذاناً بالاستراحة، فخرج التلاميذ، وهَمَّ عاهد بالخروج، ولكني استبقيته وأجلسته أمامي لمحادثته في أمر لم يكن يتوقعه، وكُنَّا وحدَنا: أنا وهو فقط ، فبدأته: - عاهد!.

  • نعم !.
  • لديَّ بعضُ الأسئلة، أريدك أن تجيبني عنها بكل صدق وصراحة.
  • (.....).
  • ما يدور بيننا الآن هو سر بيننا، لا يعلمه أحد إلا الله .
  • تفضل يا أستاذ.
  • ألا ترى أنك كثير الغياب، كثير التأخير، وكثير الشرود والسرحان؟ .

أحنى رأسه، وقال على استحياء:- هذا صحيح.

  • ما السبب في ذلك ؟.
  • (.....).
  • طيب، بلاش السبب. قل لي أين تذهب؟.
  • (.....).
  • تكلم يا عاهد، أريد أن أساعدك.
  • (.....).
  • أجبني ولا تخشَ شيئاً مني، وسرك في بئر.

تملكتني رغبة أخرى، وهي حبُّ الفضول، أريد أن أسبر غور هذا الفتى، أريد أن أعرف سره الذي يدفنه في صدره، ولن أعدم الوسائل التي أطرقها حتى أصل مبتغاي.

  • هل أنت مريض؟.
  • لا.
  • أنا أعرف أباك، ولكن هل أمك على قيد الحياة؟.
  • نعم.
  • هل هما على وفاق؟.
  • نعم.
  • يعني أنت تعيش مع أمك وأبيك؟.

وأكمل قائلاً : - وأخوتي.

  • هل بينك وبين أبيك خلاف أو جفوة؟.
  • كلا!.
  • ماذا يعمل أبوك؟.
  • كان عاملاً في " إسرائيل" ، والآن يعمل بائعاً جوالاً على عربة يجرها حمار.
  • ماذا يبيع أبوك؟.
  • الخضروات وبعض الفواكه الموسمية.
  • وهل يكفيكم ما يكسبه أبوك من بيع الخضروات؟.
  • مستورة والحمد لله .
  • هل يعطيك أبوك مصروفك اليومي، ويأتيك بما تحتاج؟.
  • نعم، ولا شيء ينقصنا.

قاطعني عاهد برفق، وقال والريبة تطل من عينيه: 

  •  ماذا تريد أن تصل بهذه الأسئلة؟.
  • أريد أن أعرف إن كنتَ تعمل لتساعد والدك في معيشة الأسرة أم لا، فقد يكون عملك سبباً في انشغالك عن واجباتك.
  • كلا ! لا أعمل في شيء.
  • إذاً، لماذا انصرافك عن المدرسة وصدودك عن الدراسة؟.
  • لماذا كل هذا الاهتمام بي؟. أنت تطوقني بأسئلتك ياأستاذ.
  • هو طوق النجاة لأنتشلكَ من الغرق.
  • وماذا أيضاً؟.
  •  وأحذركَ مخالطة رفقاء السوء كي تتجنبهم.    
  • أنا أعرف مصلحتي. لا تقلق.
  • ولكنك يا عاهد مازلتَ قاصراً عن معرفة المصلحة، فحين تكبر وتتسع مدارك عقلك، افعل ما تشاء من غير محاسبة.

صمتَ طويلاً وتنهد بعمق ولم يعقِّب. فنظرتُ في وجهه وأنا أتميَّز من الغيظ ، فرأيته جامداً يخلو من أي تعبير، فانتابني إحساس أنه يغيظني فعلاً، فقلت:- ألم تلحظ أنك لم تكن كما كنتَ في بداية العام الدراسي، تُرى ما السر في التغيرات السريعة التي نراك عليها؟.

  • (.....).
  • أخبرني إن كانت بينك وبين أحد المعلمين جفوة فأتوسط لك عنده وأصلح بينكما، وإن كنتَ بحاجة إلى شرح الدروس التي فاتتك للحاق بزملائك التلاميذ، فأنا سأستقطع لك بعضاً من وقتي خارج الحصص الصفيَّة، وسأتكفل بباقي المواد مع زملائي المدرسين، لأجل أن تعود كما أعرفك تلميذاً مجتهداً ناجحاً، فالوالد والوالدة ينتظران نجاحك، ويطويان الأيام والسنين حتى تكبر فتنفع نفسك وتمد لهما يدك بالنفع أيضاً، ولا تنسَ ياعاهد فلسطين، فإنها تنتظر الشباب المتعلم، فمعركتنا الوطنية مع الأعداء المحتلين هي معركة علم وعمل.

   كنتُ أراقب ملامح وجهه الذي يتعاقب عليه الضياء والعتامة، الفرح والحزن، السرور والكآبة،

وأتابع أثر كلماتي في تقلبات هذه المتغيرات عليه لأرى بفراستي ارتفاع وانخفاض الخط البياني الذي يرسمه عقلي المدجج بالذكاء والخبرة.

  • ما رأيك يا عاهد؟.
  • فيمَ؟.
  • فيما سمعتَ.

هزَّ عاهد رأسه وهو يفرك كفيه، وتمتم: - إن شاء الله يا أستاذ.

  • هل هذا وعد؟.
  • بمَ؟.
  • أن تقلع عن الغياب وتكفَّ عن التأخير، وأن تتجنب مصاحبة الأشرار، وأن تلتفت إلى دروسك، وتجتهد فيها.    

رفع رأسه وقال بصوت مرتجف:- أخشى ألَّا أفي بوعدي إذا وعدتُك.

   صعقني ردُّه، ولكن قَرعُ الجرسِ إيذاناً بانتهاء الاستراحة؛ قد أنهى حديثنا، فتركني بعد أن رهنتُ ذكائي وصبري عنده، وتركته وخرجت متثاقلاً إلى حجرة المعلمين وأنا أحمل على كاهلي أثقال فشلي في إصلاح أمر هذا الفتى، فقد شعرتُ بالهم والغم لأني غير راض عن النتائج. وباختصار فإني لم أُفلح في سبر أغواره، ولم أستطع أن أكشف الغطاء عن " الصندوق الأسود" الذي يختزن فيه عاهد أسراره التي يخبئها في صدره. وما زال السؤال الكبير عن حقيقة هذا الفتى يحيرني. وفكرت ثم فكرت ثم اهتديت إلى وسيلة أخرى قبل فوات الأوان.

في يوم كان عاهد غائباً عن الصف، فسألتُ التلاميذ عنه بعد أن أحصيتُ أسماء الغائبين، وكان ثاني اثنين فقط :- من يسكن بجوار بيت عاهد يا أولاد؟.

  • قال أحمد: أنا أقرب الناس إليهم، فبيتنا لصيق ببيتهم.
  • سأعطيك كتاباً لأبيه أُخطره فيه بكثرة غياب ابنه وتأخيره عن المدرسة، وتأخره الدراسي، وأُخبره أني أريد لقاءه قبل استنفاذ عاهد لعدد أيام الغياب القانونية.
  • ولكنَّ أباه يسرح بعربته هذه الأيام، ولا يعود قبل غروب الشمس حين يبدأ منع التجوال.
  • سلِّمه لأُمه، (مؤكِّداً) بيدها.
  • حسناً. ولكن يا أستاذ نحن نرى عاهد كل صباح يخرج معنا بحقيبته إلى المدرسة،

ويلتقي بصديقه باسل، ولا ندري إلى أين يذهبان.

وأكد كثير من التلاميذ ما قاله أحمد، وأكدوا أيضاً على مصاحبته لهذا الصديق الذي يُدعى باسل، وهو من المدرسة المجاورة، وأنهما لا يفترقان.   

    لويتُ  شفتي السفلى مستغرباً، وقلت:

  • معقول؟! هذا أمر غريب، فإذا صح ما تقولون، فتكون سلوكيات عاهد ليست من إهمال ولا عن تقصير.

   وانفلتت ألسنة التلاميذ تروي عن عاهد أخباراً لا يفعلها إلا الرجال الكبار. وأنا واقف أمامهم أستمع مندهشاً، وقد اختلطتْ في داخلي مشاعر الافتخار بمشاعر الشفقة، وخاطبتهم بلهجة غاضبة لا تخلو من لوم : - ولماذا تُخفون عني كل هذه المعلومات؟.

فتصايحوا بأصوات متناثرة:- لأنك يا أستاذ كنتَ تصدُّنا عن الكلام، ولم تسمح لنفسك أن تسمع غير صوتك.

                                   *****

   بعد يوم أو اثنين، لا أذكر، كان عاهد في الصف وكان الوقت ضحى، اقتربت عربات الجيش تتحرش بطلاب المدارس حتي يخرجوا إليهم، فتحصل المواجهة بين الحجر وبين الرصاصة وقنابل الغاز. وهكذا يصطنع الجيش الذريعة بإغلاق المدارس، وحرمان الطلاب من التعليم، وبعقاب أهل المخيم بحظر التجوال بعد أن تشتد المواجهات العنيفة. فما إن سمع التلاميذ صوت هدير العربات العسكرية (الهومر) وصوت مكبرات الصوت التي تنبِّه الطلاب على وجودهم  خلف سور المدرسة حتى يخرجوا جميعاً إليهم. ويهبُّ طلاب المدارس المجاورة لنجدة زملائهم، دفعا للأذى عنهم، ورغبة منهم في مقاومة جنود المحتلين. وقد لفت نظري عاهد ذلك الفدائي الجسور الذي تسوَّر الحائط مع بعض أقرانه، وأخذت سواعدهم تعلو وتهبط بالحجارة المقدسة. وتشتد المواجهة، ويصاب عدد من الطلاب، وعدد آخر من المارة بالرصاص المطاطي أو بالاختناق من الغاز السام. وتنهال الحجارة كالمطر فوق رءوس الجنود الذين لاذوا بعرباتهم المصفحة اتقاء الأخطار بعد أن أُصيب أحدهم في وجهه إصابة طالت عينيه، وآخرين في أماكن متفرقة. وتستمر المواجهة بعض الوقت حتى ينصرف الجيش ويخلو المكان منهم. وهكذا ينتهي اليوم الدراسي، ويعود الطلاب والمعلمون إلى بيوتهم، وقد تحقق للأعداء ما أرادوه بإغلاق المدارس وفرض حظر التجوال على مخيم النصيرات بالكامل.       

                                          *****

الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم العاشر من فبراير(شباط) سنة 1993 سُمعتْ بضع طلقات  نارية في بلوك (2) جنوبي مخيم النصيرات، وقد تعاطى الناس مع هذه الطلقات على أنها أمر عادي، فهم يسمعون مثلها كل ساعة تقريباً. وما إن مضى بعض الوقت حتى تناثرت الألسنة أن الجيش أطلق النار على الملثمين، فقتل أحدهم وأصاب آخر. فترحمنا على الشهيد، وحمدنا الله على أن المصاب قد هرب.   

   وجاء المساء وحان موعد نشرة الأخبار العربية في التلفاز الإسرائيلي، وأعلن المذيع أن جنود جيش الدفاع أطلقوا نار بنادقهم على " مخربيْن " في مخيم النصيرات، كانا يقومان بأعمال إرهابية تُخلُّ بالأمن العام، أما " المخربان" القتيلان فهما: "باسل الحوراني" ، والآخر هو "عـوَّاد ذياب". وأخبر المذيع عن فرض حظر التجوال على مخيم النصيرات بالكامل حتى إشعار آخر. وما إن سمع شباب المخيم الخبر حتى أخذوا يتدافعون زُرافاتٍ ووحدانا في جنح الظلام إلى بيت الشهيدين، فانعقد عرس الخيول الفلسطينية الأصيلة، حين امتلأت الساحة بأقدام الصغار والكبار الذين جاءوا للمشاركة وتقديم واجب العزاء، فتعالت الهتافات الوطنية بحياة الشهيدين، وارتجت الأرض بصيحات الثأر والانتقام للشهيدين من الأعداء المغتصبين للأرض والحرية.

   انـقـضت تـلـك الليلة بـطولها وعـرضها وأنا أُسائـل نـفسي: مَـن هـو عـوَّاد؟. وجاءني الجـواب عـلى

لسان أحد الصِّحاب والجيران في ضحى اليوم التالي، حيث كُنَّا أحياناً نغافل دوريات الجيش، فنجلس أمام باب الدار خُفية عن عيونهم، حذرين من دورياتهم الراكبة والراجلة:

  • "عـوَّاد" هو اسم الشهرة بين أهله وجيرانه، ينادونه به، أما اسمه الرسمي فهو "عاهد" بن عبدالله ذياب.

   فوجئتُ وفُجعتُ بالخبر، وسألتُ محدثي باستغراب:- ماذا قلتَ؟.

  • هذه هي الحقيقة.

   لُذتُ بالصمت، وانتابتني حسرة شديدة هزَّت كياني، واكتفيتُ بما سمعتُ، ولستُ بحاجة إلى المزيـد لأصدق أن عاهـد البطل هـو شهـيـد اليوم. فسيرته تـدعـم ذلك، ونهايته المشرِّفة هي الجـواب

على السؤال الكبير الذي عانيت كثيراً للوصول إليه. تذكرتُ قول الله تعالى في كتابه الكريم:" من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، فمنهم مَن قَضى نحبَه ومنهم مَن ينتظر، وما بَدَّلوا تبديلا ". صدق الله العظيم.*

بعد ثلاثة أيام أفرجتْ قبضةُ الجلاد عن جثامين الشهيدين، وزُفَّا بثوب العرس الفلسطيني(علم فلسطين)، في موكب مهيب إلى مثواهما الأخير في مقبرة الشهداء خالدين مخلدين. فطوبى للشهيد! الذي يخيف جلاديه وهو ميت مثلما كان يرعبهم وهو حي، وطوبى للتلميذ الشهيد! الذي فاق أستاذه بالرِّفعة والشرف، وعلاه بالمعالي وحُسن المُقام.* ا.هـ (انتهت القصة).  

                          ***********************

   سامحني يا عاهد– والمسامح كريم- إن كنتُ يوماً قد قسوتُ عليك، فلقد جهلتُك، ولم أكن أعرفك حق المعرفة، وعلى رأي المثل ( اللي ما بيعرفك بيجهلك). صدقني– ولا أكذبك- أنه ما كان مني ذلك اللوم والتوبيخ أحياناً إلاَّ حُباً فيك، وحرصاً عليك، وخوفاً منك على نفسك أن تُضَيِّعَ مستقبلك. كنتُ أُريد لك الخير والفلاح لأني رأيتُ فيك شيئاً مختلفاً عما كنتُ أراه في أترابك. نعم هذا صحيح، ولكنك أثبتَّ يا عاهد أنك أكرم مني، وأكبر مني، وأعلم مني، فأنت المعلم وأنا التلميذ، أنت الذي كنتَ تخاف عليَّ، وتريد أن تمنحني الحياة الحرة الكريمة. فما أصغر الشهادات العلمية! مقابل الشهادة في سبيل الله، وفي سبيل وطننا فلسطين؛ أجمل البلاد وأغلى الغوالي. وليتك يا عاهد تنهض من رقدتك وتخرج إلينا من رمسك لترى بعد هذه السنين الطويلة إلى أين نسير وإلى أي مصير. إنك ياعاهد لو فعلتَ، وجئتنا ورأيتَ وسمعتَ ما يدور في دُورنا وساحاتنا، لهالك حاضرنا البشع، ولراعك تحكُّم الفُسَّاد فينا وتسلط تُجار السياسة والدين علينا، ولرثيتَ لحالنا المتمزِّق. لقد تخلى عنا الجميع ياعاهد بعد أن تخلينا عن كفاحنا وصمودنا. وبعد أن أخمد أصحاب دكاكين السياسة عاصفتنا، وأطفأوا شعلة الانتفاضة في مآقينا، وبعد أن تصاعد لهاثهم لمصانعة الأعداء وتسويق الخضوع لهم جرياً وراء سراب الدولة، ثم قاموا على قدم وساق فمزقوا نسيج وحدتنا الوطنية فأصبحنا دولتين؛ إحداهما كبرى والثانية هي العظمى. فإن أنت جئتنا ورأيت ذلك فينا ياعاهد فسيحار دليلك؛ وإنَّا سنراك تستعجل العودة إلى رمسك الطاهر قبل أن تصاب بالغثيان ويعـتوِرُك الندم، وإني أخالُك ستفضل السُّكنى في القبر على حياتنا في المدينة المقبورة ..... رُحماك يا رب!!.***&     

          

 

    

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت