- بقلم : المتوكل طه
***
يكتب الأسير الحُرّ أسامة الأشقر كمَن يعبر النار ، لينقذ أيقونتَه من الحريق . تلك التي تقدّست بفعل اللون القاني المتوهّج ، الذي دَّبَّغَها من وردة الشريان، التي تفتّحت تحت شمس صغيرة ، هي قلب الكاتب . ذلك أنّ كتابه هذا الموسوم ب"مذاق آخر" هو سرديتنا ووثيقتنا وخطواتنا الراسخة على أرض المسيرة الرجراجة ، التي ترصد المشوار الصعب ، من لحظة الخطف"الاعتقال" إلى ساعة الخلاص والحرية، مروراً بكل تلك التفاصيل المبهظة والساخنة والأليمة والمتوثّبة . كأنّ الكاتب ،هنا، يريد أن يطوي المسافة ، ويعلّم الجيل الطالع، حتى لا يدفع الثمن من جديد. وكذلك يريد أن لا تكون ذاكرتنا عذريّة ، فنقع في الحفرة ذاتها ألف مرّة.
لا شكّ أننا بحاجة ماسّة لهذه الإضاءة الساطعة ، ولهذا الدّرس البليغ ، لنعمّق مناعة أبنائنا، قبل وقوع المحظور ، ونزيد من حصانة الروح قبل الجسد.
ولعل أكثر ما لفتني ، ذلك النبض الشغوف ، والوفاء الذي لا يكون إلا بين ظهرانينا ، نحن الفلسطينيين، الذين يفيضون بالوفاء ويتزوّجون المستحيل ، لأنه ، ببساطة ، ممكن ، ونستطيع أن نجترح معجزة تجاوزه ، وخلْق مستقبل قابلاً للحياة واللقاء والعشق .
إنّ هذا الكتاب ، بحقّ، يملأ القاريء بالمعاني الموّارة بالأمل والثقة وزوال أسداف الظلمات ، مثلما يسدّ ثغرة في جدار روايتنا ، التي لم نكتبها، تماماً.
وفي السجن ، ليس لنا الا القصيدة والنشيد والرواية .. يعني الكتابة ، لأنها بيتنا و مكاننا وهي مائدتنا وهي طعامنا. الكتابة تردّ على قسوة العالم و فظاظته وفانتازيّته، وهي بالنسبة لنا توازن واعتدال وواسطة، تعلمت ذلك كله فى السجن. عندما قيّدني المحتلُّ فى زنزانة انفرادية، ولما بدأ المحتل بالاعتداء الخشن، انفجرتُ بالشِعر، كنتُ أصمد بالشاعر فيّ . وكنا نحتفل بشِعر لا يفهمه المحتل، وكأنه تعويذة السحر أو طوطم الحكاية التي تحكى كل الأجيال . كانت القصيدة فى تلك اللحظة ناري التي أصطلي بها ودثاري الذي أتغطّى به. المحتل الذي كان يضربني اعتقد أنني أتوجع فأَظْهَر اغتباطه، ولكن لما عرف أنني أنطق بالشِّعر جنّ جنونه. وفي الزنزانه الانفرادية ، لم ينقذنى فيها سوى الله والشِعر. والشّعر اكتشافات متواصلة، الشعر ليس لغة فقط ، إنه عوالم وراء عوالم ، ابتكار فرح ، فيه زهو وعجب، فيه طرب وحركة، فيه قوة خفيّة.
هناك في السجن، حيث يقايضني المحتلُّ بحرية جسدي ، كانت القصيدة أرض إرادتى، وفضاء قلبي الذي لا يستطيع أيّ محتلّ على وجه الكوكب كلّه أن يحرمني إياها. والحرية أقوى !
بلغة أخرى ، أرى أن أخي المناضل المبدع أسامة الأشقر يستحقّ أن يتحلّى بكل ما قلتُه عن الشِعر وعنّي ، أكثر وأجمل وأكثر بلاغة وثباتاً ، لأنه منذ عقدين تقريباً يرسف بقيوده، واحتمل آلآف آلآف ما احتملناه ، وظلّ مثل الطود الشامخ ، لا يتزحزح عن صموده وثوابته وصلابته ، التي نتعلّم منها ، كلما قرأنا حرفاً من حروفه المجنِّحة.
والرائع في هذا المثابر المفعم بالأمل والإبداع ، أخي أسامة، أنه يمتلك لغة الروائي والكاتب المُحترف ، فيأتيك نصُّه ناهضاً على جَمالٍ وسلاسة وفنّية، مشفوعة بمعرفة ودراية وحمولة باذخة. وهذا ما يميّزه، بشكل عام ، عن الكثير من أدب السجون.. فقد تأكد لي أن أدب المعتقلات ، عامّةً، هو أقرب إلى المباشرة ، وينتمي إلى الكتابة "الميدانيّة" واجبة الوجود ، في لحظات الاشتباك المتواصل الساخن ، وقلّما تجد أدبا "تأمّلياً عميقاً" إلا مَن رحم الله تعالى .
كما يبدو لي أن هذا الأدب لم يستطع ، حتى اللحظة ، أن يؤصّل تاريخ الحركة الأسيرة ، بقدر ما أضاء بعض الجوانب المتعلّقة بالأسرى ، منذ اعتقالهم ، مروراً بسنوات الحجز المهولة ، وصولاً إلى الحرية والخروج إلى الحياة .
ويعتبر الفلسطينون هم الآباء الشرعيون لأدب السجون ، منذ نوح ابراهيم ، ومن بعده الشاعر معين بسيسو ، الذي كان أوّل مَن سجّل تجربة اعتقاله في السجون المصرية في الخمسينيات ، من خلال كتابه "دفاتر فلسطينية" الذي يعتبر الإرهاصة الأولى لأدب المعتقلات في فلسطين ، ولحقه في ذلك ما كتبه شعراء المقاومة في الداخل ؛ درويش والقاسم وزيّاد وراشد حسين ومحمد وتد ، ليتبعهم محمود شقير وعزت الغزاوي وعائشة عودة ووليد الهودلي وحسن عبد الله ومروان البرغوثي وعصمت منصور وهشام عبد الرازق وعيسى قراقع وأسامة العيسة وخليل توما ومحمد عليان وعمر خليل عمر وسائد السويركي وهشام أبو ضاحي وعلي الخليلي ومحمد أيوب وعمر حمّش وسامي الكيلاني وجمال بنورة ووسيم الكردي وصالح أبو لبن وسميح فرج وسمير شحادة ومحمد أبو لبن وباسم الخندقجي وفاضل يونس والمتوكل طه .. وآخرون.
ومن الطريف الإشارة إلى أن كل سجين كان يهجس بالكتابة ، فيحمل قلمه ويخطّ .. باعتبار أن الكتابة شكل من أشكال الإحساس بالآدمية والحرية وامتلاك الذات ، وطريقة من طرائق الشّحذ والمواجهة والثبات.
لكنّ قليلاً منهم مَن استطاع أن يجترح صوتاً خاصاً به ، يؤهّله لأْن يصبح كاتباً بالمعنى الدقيق لحِرفة الأدب .
وتتعدد موضوعات المعتقلين .. لكنّ الغالب منها هو الأدب "التسجيلي" ، ونرى ذلك جلياً فيما كتبه جبريل الرجوب ونبهان خريشة وفايز أبو شماله وناصر اللحام وعبد الستار قاسم ومعاذ الحنفي وسلمان جاد الله ومحمود الغرباوي وحسام شاهين ومنصور ثابت وعبد الحميد الشطلي ومحمود عفانه والشهيد عمر القاسم وعبد العزيز الرنتيسي وفؤاد الرازم وأحمد ابو حصيرة ومريم أبو دقة ويحيى السنوار وثابت مرداوي وناهدة نزال ومحمد أبو جلالة وشعبان حسونة وعلي عصافرة ولؤي عبدة وناصر الدمج ومرزوق بدوي وسلمان الزريعي وابراهيم المقادمة..على سبيل المثال .
ونادراً ما نعثر على "قصيدة" اكتسبت صفة الشِعر الحقيقي ، كما لا نجد كثيراً "رواية" متكاملة العناصر . ويبقى لدينا ما خطّه بعض الكتاب والصحفيين عن تجارب زملائهم ، أمثال ما كتبته ريموندا الطويل عن سجينات الوطن السجين ، أو ما سجّله الشاعر محمد القيسي عن تجربة أبي علي شاهين في كتابه "الهواء المقنّع" ، وما كتبه عطا القيمري عن إضراب سجن نفحة في مطلع الثمانينيات .
وقليلاً ما نجد القصة القصيرة أو المسرحية ، وكثيراً ما نجد "الخواطر" التي لا شكل أدبي نهائي لها ، لأنها بَوح ودفَق عاطفيّ لطيف .
ظل أن نشير إلى أن الأدب العالميّ والعربي يعجّ بالكثير من الأعمال الأدبية ، الروائية خاصة ، التي تعكس فضاء السجن والاعتقال ، بدءاً مما تركه ديستويفسكي وغرامشي الإيطالي ، وكذلك "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف ، وليس انتهاءً بِ"الأقدام العارية" و"السجينة" و"القوقعة" ..
باختصار ، نحن أمام كِتابٍ يتعالى بما تضمّنه من سمات تجعله نموذجاً ، يصلح أن يمثّل ظاهرة أدب المعتقلات ، لِصدْقه وحصافته وتجلّياته المشرقة ، ولما يحمله من توجيهات ومضامين ، تؤكّد للمرّة المليون أن أسرى الحرّية هم القادة الذين ينبغي أنْ نترسّم خطواتهم نحو الشروق الآتي والأكيد .
شكراً ، أخي أسامة ، لأنك صورة حيّة للبقاء والصمود والأمل . ولأنّك تُعَلِّمنا ما يتناساه أو غفل عنه الكثيرون . وشكراً لأنك أنقذتنا من الإحباط المُدَوّي حولنا . وشكراً لأنك جعلتنا نعدّ العدّة لفرحك القادم القريب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت