- للكاتب/عبدالحليم أبوحجاج
هبطتِ الطائرة ونزلنا– أنا وزوجي وطفلي الرضيع- إلى قاعة الوصول في مطار القاهرة الدولي، عبأنا البطاقات بالبيانات المطلوبة وسلَّمناها ووثائق السفر لضابط مصلحة الجوازات في شُبَّاك رقم7، فأشار بيده يطلب منا الجلوس والانتظار، فجلسنا في الصالة على مقاعد بلاستيكية ننتظر ردّاً بالموافقة على دخولنا مصر، وكان الوقت عصراً ليوم من شهر يوليو– تموز 1978.
المطار مجموعة خلايا نحل يُدوِّي ويئزُّ بأصوات تفرض عليك الشعور بهيبة المكان ورهبته. الخروج بنظام والدخول بنظام رغم كثرة الطائرات التي تَعرُج إلى السماء، واُخرى تهبط الأرض، فتَخرُجُ من بطونها أشكالٌ وألوانٌ من البشر تغدو وتروح في حركة دءوب، ونحن جلوس على المقاعد البلاستيكية ننتظر ونتحسر. الصالة كبيرة ونظيفة، كل شيء فيها يلمع بفضل الأقمار الكهربائية التي تُغرِق المكانَ في بحيرة من الأضواء الساطعة، ما يجعلنا لا نَمِيزُ الليل من النهار. أخذتُ أُسرِّح نظري إلى القادمين من كل جنس ولون؛ وقد تراقصتِ البهجة على وجوههم، تترجمها حيويتهم ونشاطهم بما يظهرعليهم من الفرح والسرور. ورأيتُ كيف تفتح لهم مصر ذراعيها، تحتضنهم بكل الاحترام والترحاب، فتُختَم جوازاتُ سفرهم بتأشيرة الدخول لحظة وصولهم إلى شُبَّاك الجوازات، تستقبلهم ابتسامة الضابط وانحناءة رأس خفيفة مصحوبة بعبارة ودودة: الحمد لله على السلامة، أهلاً وسهلاً (wel come)، وتنتهي إجراءاتهم بسرعة ويخرجون فرحين مستبشرين، ونحن على المقاعد ننتظر. وتتوالى قوافل الزوار: السُّود والبِيض والحُمر والصُفر وصاحب العقال وصاحب الطربوش وصاحب البرنيطة، الذين جاءوا من كل فج عميق ليطوَّفُوا بأبي الهول، ويزوروا الأهرامات والكباريهات، وليقضوا منافع أُخرى لهم، وبسرعة تَفرُغ الصالة منهم تِباعاً، فلا ينتظر منهم أحد، ونحن جلوسٌ ننتظر.
طال الوقت وأخبرتني الساعة أن الشمس قد غَرُبَت واستقرت في مبيتها، والقمر يتهيأ للخروج بطلعته البهية، ونحن ننتظر. وغلبني التعب، فأغمضت عيني طلباً للراحة، وما إن استسلمتُ للاسترخاء حتى شَدَّني صوت امرأة يعلو على صوت الضابط في شُباك رقم 5.
- يا فندم دا ابني ، ودي وثيقة السفر بتعته.
- أسفين يامدام، حضرِتِك تتفضلي، أهلا وسهلا بِيكِي في بلدِك، لكن ابنِك : لأ.
- لأ ، ليه؟!. بقولك ابني، بتقولي : لأ.
- يامدام ما ينفعش، والله ما ينفع، أقولك إيه أكتر من كِدَه.
- طَبْ تِقدَر حضرِتَك تقوللي: ازاي أدخل من غير ابني ما يكون معايا؟!.
- التعليمات اللي عندنا بتقول كِدَه، واحنا بِنَّفزها.
- تعليمات إيه وِهْباب إيه !. هو مين اللي قال فيها؟.
- دانتي حضرتِك بتزني عخراب بيتك.
- والنبي كفايه بَأَه حَرقِة دم.
- وانتي، كفاية عطلة من فضلِك.
- طَبْ ممكن حضرِتَك تسمحلي أتكلم مع مدير جوازات المطار.
- أوي أوي يامدام. تحت أمرك. دانتي كِدَه بِتْرَيَّحِيني .
رفع الضابط النقيب سماعة التليفون ورُئي يتكلم من وراء الزجاج، وبعد دقيقة واحدة جاء ضابط كبير برتبة عقيد شرطة، تحدث مع الضابط النقيب، ثم التفتَ يكلم السيدة، وقد طلب منها سماعه:
- باختصار شديد يامدام، الطفل ده جنسيته فلسطيني، والتعليمات اللي جايه من فوق أوي بتمنع دخول الفلسطينيين لمصر إلا بعد موافقة المخابرات العامة مجموعة 55 المختصة بشئون الفلسطينيين، وموافقة أمن الدولة أيضاً. مفهوم يامدام؟.
- بس ده ابني يا ناس، طفل رضيع، عمره خمس تُشْهُر، يعني مَلِحِقْشِ يعرف حاجة ولا يعمل حاجة، ووثيقة سفره صادرة من السفارة المصرية، يعني صادرة من مصر، اللي هي أَوْلَى بِيه من غيرها.
- مَعَلِش أنا امقَدَّر مشاعرِك، ولازم تساعدينا في تنفيز الأوامر العليا.
- وابني، يا سعادة البيه، أرمِيه؟!.
- لأ يامدام، أنا مَقُلْتِش كِدَه. حضرِتِك خَلِّي الواد يستنى مع والده، واللي بيجرا على واحد بيجرا عالتاني. وخَلِّي اتِّكالِك ع ربنا.
- ونِعمَ بالله.
- أَيْوَه كِدَه، ودِي الوقت تِقْدَرِي حضرِتِك تتفضلي ، أهلاً وسهلاً بِيكِي.
- يعني مَفِيش فايدة؟.
- كان على عيني، صدقيني.
ودَّعتِ المرأة زوجها، وانحنتْ تقبل ابنها الذي أودَعَتْه أباه، وتماسكتْ حتى ابتعدتْ قليلاً، لتنفرط لآلئ دموعها من مقلتيها في صمت حزين، ورفعتْ أناملها خِفْيَة عن العيون تمسح الطلَّ عن خديها حتى لا يراها أحد على هذه الصورة، وخرجتْ. وبينما كانت تمر من البوابة لِتَسَلُّم حقائبها، بادرها أحد مسئولي الجمارك مُرَحِّباً:
- الحمد الله عالسلامه يا هانم.
قالت بصوت مفعم برائحة الحزن دون أن تلتفت إليه: - متشكره.
وفاجأها بقوله وهو يقلب أوراق جواز سفرها: - حضرِتِك مصرية؟.
حدجته بنظرة هازئة، وسألتْهُ وبركان الغضب يغلي ويعربد في صدرها:
- إنتَ شايف غير كِدَه؟.
- لا موآخزه يا هانم، بس إنتي اللي جبتيه لروحِك.
- هو إيه اللي جبتو لروحي؟.
- تعب القلب.
- تقصد إيه ؟ اتكلِّم .
قال وهـو يناولها جـواز سفـرها:
- يعني هـو انتي حضرِتِك مَكُنتيش لاقـيَه حـد غـير الفلسطيني علشان تتجوزيه؟.
نتشتْ جواز سفرها من يده بعصبية، ورمقتْه بنظرة ازدراء، وقالت محتدة:
- هو مالو الفلسطيني ياحضرت؟. مش يمكن يكون أحسن من أبو عقال وسبحة لولي ودشداشة حرير. الفلسطيني ده اللي مش عاجبك، أنا بأه عجبني، ومالي عيني، وحافظ إيمتي، وبعدين كان زميلي في الجامعة في كلية الهندسة، يعني متعلم وعقله متنور، مش جاهل وحاطط قلم الباركر في جيبُه زِينه، وهو يعيني! مبيعرفش يكتب اسمه. (وقالت بأريحية وهدوء) :- ولو عاد بِيَّا الزمان من تاني، برضُه حتجوزُه، عارف ليه؟ لِأَنُّو متربي وبيعرف ربنا كويس جداً، (وأضافت لتغيظ محدثها) :- وكمان لِأَنُّو مش عاجبَك، عن إزنَك.
ونترَتْ نفسها وخرجتْ نخلة باسقة تنشر أمنياتها على حبل الأمل بلقاء الأحبة، خرجتْ تمشي منتصبة القامة، مرفوعة الرأس. وبقينا نحن والمهندس زوجُها وابنُهما الرضيع، ونفرٌّ من الجنسين ومن مختلف الأعمار ممن يحملون مِثلَنا أوزار اللورد " بيلفور". وطال جلوسنا ومضى من الليل ثلثه، حين اقترب المهندس مني مستأنساً بي، تدفعه الرغبة في قضم جزء من وقت الانتظار المُر. تحادثنا في أمور عامة، ثم فجأة لوى دفة الحديث إلى جهة أخرى، فقال مهموماً:
- عارف يا أستاز، لو رجعونا تبقى مصيبة.
- تفتكر ممكن يرجعونا؟.
- ما بِيدَخْلُوش إلَّا اللي معاه خروج نهائي من البلد اللي جاي منها. إنتَ جاي من وين؟.
- من ليبيا. وانتَ؟.
- من البحرين.
- ربنا يستر.
وسكتنا، وأطرق كل منا يحادث نفسه. أما أنا فزاد قلقي وانشغال بالي، وتساءلتُ: أَبعدَ كل هذا العناء وهذا التعب ستُغلِق مصر أبوابها أمامنا ونرجع عنها مطرودين؟. أبعد كل هذا التطواف بالطائرات وزيارة المطارات لن يُسمح لنا دخول مصر؟. والله كارثة، مصيبة. لا، ليس من المعقول أن ترفضنا مصر وهي طول عمرها عبر التاريخ موطن اللجوء الآمن لكل الهاربين من ظلم الحُكام وملاحقة الاستعمار. وسرحتُ ممتطياً صهوة خيالي، فوجدتُني أرقى إلى شرفة تطل على صوَر القهر ومشاهد الظلم التي عشناها، يا إلهي ما أفظع حياة الوِحدة! وما أصعب العيش مع أناس إما ينظرون إليك بعين العطف والشفقة، أو يحتقرونك ويستضعفونك لأنك غريب. وارتفعتْ بي أجنحة الخيال إلى شرفة أخرى تمكنني من أن أرى بعين التذكُّر ما لقيناه وتجرعناه من عذابات السفر والترحال في ديار الغربة. يا سلام كم كانت رحلتنا متعبة! قد أنهكتنا الخلافات السياسية بين الحُكَّام العرب، تلك التي جعلتهم يناصبون شعوبهم البغضاء والعَدَاء، ويمنعونهم من التجوال والإقامة في وطن كان على اتساعه يحكمه الخليفة الواحد في دمشق أو في بغداد. أما في عصر الممالك المتنافرة فقد تغيَّرت الحال، فبدلاً من إقلاع الطائرة بنا من مطار بني غازي في خط مباشر جهة الشرق لتهبط بعد ساعة أو ساعة ونصف في مطار القاهرة. كانت رحلتنا طويلة وشاقة، فقد انطلقنا من مطار بني غازي متجهين غرباً - بدلاً من التشريق - لنصل بعد ساعة إلى مطار طرابلس بليبيا، الذي قضينا فيه ليلتنا، لننتقل مع الفجر إلى طائرة تابعة لشركة أخرى، فتطير بنا ثلاث ساعات تقريباً إلى مطار أثينا للاستراحة نصف نهار كامل انتظاراً لمجيء طائرة ثالثة تابعة لشركة أجنبية أيضاً، فنستقلها لتهبط بنا في مطار القاهرة بعد طيران ثلاث ساعات ونصف تقريباً، هذا عدا الشقاء والتعب والمرمطة. وأخيراً حمدنا الله على سلامة الوصول إلى مصر أُم العرب ذات الحضن الدافئ الحنون. ولكن عند وصولنا خاب مسعانا، وذبلت البهجة في عيوننا، وبهتت ذوائب الأفكار في عقولنا حين تلقفنا سوء الاستقبال بوجه عابس وبذراعين نافرتين، حينئذ عرفنا أن مصر تغيَّرت، ولم تعُد أُمَّاً لكل العرب ....وانتبهتُ على صوت زوجي ينتشلني من بحور التذكارات الموجعة:
- إلحق يا شكري، الولد سخنان!.
وضعتُ كَفي عـلى جـبهـته، فكانت حرارته عالية جداً، فرشنا له لِحافه الصغـير على البلاط، وكشفـنا عنه غطاءه، وذهـبتُ فأحضرتُ زجاجة ماء وأخـذتُ أُبلل مِحـرَمَتي(منديلي) بالماء وأعصره، ثم أمسح وجهه ورأسه لتبريد جسمه، بينما كانت أُمه تُهَوِّي على وجهه بطرف منديلها، تغالب دمعات تتزاحم في مقلتيها فتحبسها إلى حين، وقالت بصوت مرتجف ينم عن خوف شديد:
- يا ريت يا شكري لو تِقْدَر تجيب لُهْ قزازة دوا أو حبة أسبرين أطفال، نذَوِّبها في معلقة مَيِّه ونسقيهالو.
- والدَّوا اللي معاك، وينُه؟.
- دَوَّرتْ عليه وملقيتوش.
اشرأبت أعناق الوساوس في صدري، وقلتُ حيران:
- منين بس أجيب الدوا وانتِ شايفه حالنا؟!.
قالت وفي صوتها ريح القلق والرجاء:
- حاول تشتريه من صيدلية المطار. بس بسرعة دخيلك، لَإنو السخونية العالية - زي ما انت عارف - خطر على مُخه.
تملكني القلق والخوف على حياة طفلنا، وتركتُ زوجي تأخذ مكاني في تبريد رأسه بالمنديل المبلل بالماء، وأسرعتُ الخُطى أفتش ببصري عن صيدلية، أو عيادة طبيب، إذ لا يخلو مطار من إحداهما. قابلني ضابط برتبة ملازم أول فاستوقفته، وسألته بلهفة:
- من فضلك يا فندم ، لحظة واحدة.
توقف وسألني ، نافراً: - عايز إيه؟.
- يا فندم ابني رضيع ودرجة حرارته عاليه قوي، يا ريت تساعدني أو تدلني منين أجيب له إزازة دوا أوحبة اسبرين أطفال. وسألني:
- فين جواز سفرك؟.
- ما استلمتوش لسه.
- لمَّا تستلمه تِقْدَر تروح تشتري اللي انت عاوزه.
- بس أنا عاوزه دي لوقت.
- ليه ؟، هو أنت فاكر نفسك في الشيراتون؟!.
- أنا عارف إني محجوز هنا في الصاله، وممنوع أروح السوق الحرة.
- مادام انتَ عارف كِدَه، استحمِل.
- بس ابني ما يستحمِلش، دا بيغلي نار. الله لا يسيئك!.
- بُص بَقَهْ، انتَ تروح تِهوِّي عليه، وتهوِّينا كمان.
- أرجوك يا فندم، الوَلَه سخنان قوي ، وبلاش يضيع مني... اعمل معروف.
- انت من فين يا...؟.
- أنا فلسطيني .
- حِيس كِدَه بَقَه، ابنك مش أعز من يوسف السباعي اللي أقتلتوه.
وتركني هذا الضابط المحترم ومضى، وأنا ألعن نفسي وألعن اليد وصاحب اليد التي امتدت بالإثم واغتالت الأديب المرحوم يوسف السباعي، وعُدتُ إلى زوجي والإجابة مرسومه على وجهي الحزين، وسألتُها بانكسار:
- كيف الحال الآن؟.
- يعني، خَفَّت الحرارة شوية.
- طيب عال، الحمد والشكر إلَك يا رب!.
سألتني سؤال العارف: - ما لَقيتش صيدلية؟.
- منعوني أَطْلَع أَدَوَّر ع صيدلية في الصالة التانيه.
- لهدَّرجة!.
- لهدَّرجة ونص كمان، هو انتِ فاكرة نفسك في مطار أثينا ولَّا في باريس؟. خليها ع لله.
- يخلف عليها، بنت حلال.
- هي مين بنت الحلال اللي بتخلفي عليها؟.
وأخبرتني أن إحدى الفلسطينيات في صالة الانتظار قد علمتْ به، وأعطته جرعة من دواء خافض للحرارة كان بحوزتها، وأشارت بيدها نحوها، ورصدتُها حتى اصطدتها تنظر جهتنا، فرفعتُ لها يدي أشكرها. وكان قد مضى من الليل نصفه ونحن ننتظر السماح لنا بدخول مصر، وننتظر انخفاض درجة حرارة طفلنا الذي أمضى ليله يبكي وينتفض، فكان كلما سها عن نفسه ونام؛ نكزته الحرارة من جديد، فيهبُّ مفزوعاً باكياً بحرقة. سكتَ البكاء عن الطفل، وساد صمتنا قليلاً، ورفرف النعاس حولنا يداعب جفوننا، ورأيتُ زوجي تغمض عينيها في غفوة مسروقة، فتركتها تستريح. وانتحيتُ جانباً بجاري المهندس الفلسطيني أُسَرِّي عن نفسي معه، ودار بيننا حديث هامس حين قلتُ له:
- انتصف الليل واحنا على حالنا بننتظر .
- مفيش بيدينا حاجة نعملها غير الانتظار.
- يا خسارة! تغيرت معاملة مصر إلنا، وأصبحنا مكروهين.
- من أفعالنا سُلط علينا.
- بل هي سياسة السادات.
- يعني هي سياسته أَجَتْ من فراغ؟.
- طبعا ، لا.
- ما لهم ومال السباعي عشان يقتلوه؟. ياشيخ احنا بنستاهل.
- هو صحيح ماكنش لازم يقتلوه، لَإنُّو مايستهلش القتل، فالزَّلَمِه وزير ثقافة، ومن الأدباء الروائيين المعدودين في الوطن العربي كله، وعُمْرُه ما أساء إلنا. لكن إيش تقول:" تركوا الحمار ونَطُّوا عالبردعة "، ويعلم الله إني أنا شخصياً زعلت عليه كتير، ودَعِيت عللي قتلوه بالقتل.
- وايش الفايدة من الكلام، وهَيْنا بندفع ثمن غلطتهم.
- للأسف؛ قِدِر يستغلها السادات ضدنا، وبهيك أظهر كراهيتة المخفية إلنا.
- ياريتهم اللي عملوها يدفعوا الثمن لحالهم!.
- مش المثل بيقول: " البلاء عام والرحمة تخصص".
- هوَّ فيه أكتر من هيك بَلا.
- ياسيدي! اللي كاتبه ربنا بيصير، وياما كسَّر الجمل بطيخ، وهذي البطيخة من جُملة البطيخ اللي اتكَسَّر.
- إلاَّ ها لبطيخة هادي، لأنها غالية على اصحابها.
تلفَّتُّ حولي لأتثبَّت من خلو الركن الذي نجلس فيه من الناس، وطلبتُ من مُحدثي أن يخفض صوته، وقلت في خفوت:
- ليش؟ هو انت نسيت يا باشمهندس إيش اللي عملته بعض التنظيمات الفلسطينية داخل وخارج مصر طول السنين اللي فاتت، ما بتذكَرش الطيارات الأجنبية اللي كانوا يخطفوها ويفجروها على أرض مطار القاهره؟، ومَعاداش الرئيس عبدالناصر حَـدا من الفلسطينيين ولاطردهم من مصر. ما بتذكَّرش إيش اللي قالته إذاعة صوت العاصفه في حق عبدالناصر أيام مشروع " روجرز"، أو اللي عملوه اليساريين فيه قبل ما يموت – الله يرحمه- لما شتموه ورسموه على الحيطان بأبشع الرسومات، وقالوا عليه كلام ما بينقال لا لعدو ولا لحبيب، وبرضُه عمره ما عادى الفلسطينيين ولا عاقبهم كشعب، وظل محافظ على وعده وعهده، وعلى مسئوليته القومية؛ لدرجة إنُّو ما نام ولا ذاق طعم الراحة حتى أوقف آلة القتل والدمار في الحرب الأهلية في الأردن، وبعد ما أوقفها، وِقِف نبض قلبه ونام نومته الطويلة. لكن السادات تلكك وتحجج بقتل السباعي علشان يتنصل من مسئولية مصر القومية تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، وبهيك بيرضي صديقه كيسنجر، عرَّاب مفاوضات فك الاشتباك، واللي قال عنه السادات إنُّو في إيده 99% من أوراق الحل.
- كل اللي قلته صحيح، بس قَتْل السباعي كان أكبر وأشنع.
- عارف ليش؟. لَإنُّو هيك بِدُّو السادات.
- تفتكر يا شكري إن السادات غَسَّل إدِيه خلاص، وماعادَتِش اتهمُّهْ قضيتنا؟.
- أيوه ! وكمان قِـدِر يستعدي الشعب المصري علينا لأن عرفات ماطاوعوش في الصلح مع اسرائيل، وموافقوش على زيارته المشئومة لإسرائيل. وأَجَتْ حادثة السباعي واتشعلق السادات فيها، وفتح علينا أبواق الإذاعة والتلفزيون ترمينا بحمم الكراهيه، فزادت الطين بلة، وبهيك نجح السادات وإعلامه في استعداء المصريين على الفلسطينيين، وكان مبسوط قوي وهو بيسمع وبيشوف من شرفة قصره؛ المظاهرات وهي بتهتف في الشوارع : " لا فلسطين بعد اليوم"، وسابهم يقولوا اللي بدهم إياه بالصوت العالي، وكإنُّو بدو يسمِّع أصدقاءه الجُدد: مناحم بيجن وموسى ديَّان وعايزرا وايزمن؛ ألحان وأُغاني ما يطلبه المستمعون، ويؤكد إلهُم نجاحه في تغيير موقف مصر كلها من قضية فلسطين، علشان يرضوا عنه.
- يا خسارة علينا وعلى عروبتنا!.
- يا باشمهندس أحمد: خليك واعي، فالفرق كبير بين زعيم عربي، يقول تحريرالقدس أولاً، وبين زعيم مصري بيعطي القدس عربون محبة أولاً.
وسكت كلانا عن الكلام، وانتبهنا حين سمعنا صوت ضابط الجوازات الجديد ينادي من شُبَّاك رقم7 على أسماء المسموح لهم بدخول مصر، وكان المهندس أحمد وابنه من بينهم، فودَّعَنا من بعيد بتلويحة يده، وهو يبتسم لنا ابتسامة ذابلة، وخرج حاملاً طفله على يديه. ثم جاء دَوْرُنا فحملتْ زوجي طفلَها على يديها أيضاً وأنا خلفها، فختم الضابط الوثيقتين وشهادة ميلاد ابننا بالدخول، وقال منبِّهاً وهو يناولنا إياها:
- بُكرة اتْرُوحُوا أمن الدولة بميدان "لاظوغلي" ومعكم مستنداتكم دي، علشان تقابلوا المقدم عادل.
وأعطانا كتاباً بدخول مديرية أمن الدولة وفيها تاريخ وساعة المقابلة. وأخيراً استدان لنا هذا الضابط من عبوسه ابتسامة لاحت ظلالها على وجهه، وحيَّانا من طرف لسانه: مع السلامة. وخرجنا من باب المطار إلى عالم الأحياء، لنستقل سيارة تاكسي إلى الأُوتيل وسط البلد في الهزيع الأخير من الليل، بعد أن أنهكنا التعب وأهلكَنا الْهَم وأضنانا الفكر وطول الانتظار.
وفي الصباح، بكرنا بكور الطير نستقبل الفجر والقلق، بدأنا مسيرتنا أولا بلاظوغلي فأنهَيْنا مهمتنا فيه، وحصلنا على إقامة لمدة شهر فقط . ثم اتجهنا إلى مكتب إدارة الحاكم العام لقطاع غزة للحصول على كتاب بالموافقة من هذه الإدارة على تجديد الوثيقتين وإضافة المولود في وثيقة سفر أُمِّه، وقد يستغرق الرد أسبوعين أو أكثر بسبب مرورهما أيضاً على مكتب المخابرات وأمن الدولة، ثم يكون التنفيذ في قسم جوازات الأجانب بالمُجَمَّع الحكومي الكائن في صدر ميدان التحرير.*
بقي أن أذكر حكاية شهادة الميلاد، وهي حكاية طريفة تستدر الحزن والترحُّم على تاريخ ضيعناه بأيدينا. حكاية لا تحدث إلا في بلاد تقاسمها ورثة الحاج سايكس والشيخ بيكو بوصية منهما قبل انصرافهما إلى الجحيم :
وُلد طفلنا في ليبيا في شهر نوفمبر(تشرين ثاني) سنة 1977 شهر الزيارة المشئومة التي قام بها السادات لإسرائيل، والتي تحـدَّى بها مشاعـر كل العرب، فقاطعه العـرب، ونقلوا مقـر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. وهكذا قطعت ليبيا علاقتها الدبلوماسية بمصر– شأنها شأن سائر الدول العربية- وتبادلت معها سَحب السفراء. وبإغلاق السفارة المصرية في طرابلس/ليبيا فقدنا إمكانية إضافة المولود الجديد في وثيقة سفر أُمِّه، وهي وثيقة سفر فلسطينية تصدر من مصر أو من إحدى سفاراتها في الخارج لأبناء قطاع غزة فقط. وأقبل الصيف يزحف بطيئاً، وشَدَدنا العزم على السفر إلى القاهرة لقضاء الإجازة الصيفية ولتجديد وثائق السفر وإضافة المولود، ولنا فيها أيضاً مآرب أُخرى. وبدأنا بالإجراءات، وكان من بينها الحصول على خروج وعودة، حتى يسهل دخولنا الأراضي الليبية حين عودتنا إليها بعد انقضاء الإجازة. تسلمتُ الوثيقتين من إدارة الجوازات بمدينة البيضاء مختومتين بتأشيرة الخروج والعودة من غير ذكر اسم طفلنا، ومن هنا برزت مشكلة عويصة، هي عويصة فقط عند العرب أحفاد الشريف مكماهون . فالطفل الرضيع ليس مُثبتاً في إحدى الوثيقتين، ولم تُغنِ شهادةُ الميلاد عن الأمر شيئاً، لهذا فهو غير مسموح له بمغادرة ليبيا بالطرق القانونية، والحل في يد مدير جوازات بني غازي . في اليوم التالي سافرت إلى بني غازي التي تبعد عن البيضاء 220 كيلو متراً. وبعد وصولي إليها اتجهت إلى مكتب مدير الجوازات والهجرة، وطلبت الإذن بالدخول إليه، فدخلت. كان رجلا مهيباً، هيأَتُه على غير كثير من الليبيين، فهو طويل القامة، أبيض الوجه، أشقر الشعر ناعمه، رقيق التقاطيع، حليق اللحية والشاربين، وهو بالجملة أنيق المظهر، ترتاح له وتحبه قبل أن يتكلم، وحين تكلم كان لسانه مغرفة قلبه وتَرجُمانه، وكان قلبه طافحاً بسواد الجهل والكراهية، فسألني نافراً بلهجته الليبية:
- إيش تِبِّي ؟. (يعني: ماذا تريد؟).
- عندي مشكلة، ونِبِّيك تساعدني، بارك الله فيك؟.
- انت مصراوي؟.
- لأ ، فلسطيني.
- قول إيش تِبِّي.
عرضتُ عليه مشكلتي، وأوضحتُ له أن الظروف أكبر وأقوى مِنَّا، ورجوته منح ولدنا الطفل تأشيرة بالسفر خروج وعودة، وأكدتُ له أننا سنُلحِقُه في القاهرة بوثيقة سفر أُمِّه.
نظر إليَّ ملياً بعينين تَدُلَّان على شرود ذهنه، ثم طلب مني المستندات، وأخذ ينظر فيها، وقال:
- وعَلاش تسافر واتكَدِّر روحك هِكِّي، والحل سهل وفي إيدك؟.
- مش فاهم قصدك يا أخ العقيد.
- ليش يا وِدِّي( ياحبيبي) ما تطلب وثيقة سفر ليبية بدل الوثيقة المصرية، وتحل مشكلتك، وتريِّح راسك، وهِكِّي تقدروا تسافروا واتْجَوْا كيف ما تِبُّوا؟.
أحسستُ بخطر المساومة، وأني وقعتُ في حيص بيص، ومع هذا قلت:
- بس احنا ماْنقدرش نستغنوا عن مصر، طول عمرنا مربوطين معاها.
- ماتفِك هالربطة، وشوف مصلحتك وِين.
- مصر بوابتنا لقطاع غزة اللي فيها أهلنا، ومن غيرها ننقطع عنهم.
- أنِي نِبي نريحوك. وإذا انت توافق تَـوَّا (الآن) أنِي نوافقولك عليها. وانت حـر، ما تبيش بلاش.
- إذا تبي تريَّحني بصحيح، أعطيني تأشيرة خروج وعودة لِوِلْدِي.
- وكيف تصير هذي؟.
- بختم التأشيرة على شهادة الميلاد، أو بكتاب رسمي من عندكم .
وعاد ينظر في الوثيقتين وشهادة الميلاد، ويقارن الأسماء ببعضها، ثم التفت إلي وقال بفظاظة:
- اسمعني باهي، قِدَّامك وحَدِه من زُوز(اثنتين): إما تخلِّي وِلْدك اهنِى في ليبيا وتسافروا ابروحكم (لوحدكم)، وإما أُعطيه تأشيرة خروج نهائي، وبهِكِّي يسافر معاكم. لكن رُد بالك: عَـوِدْتُه تحتاج إلى معاملة " فيزا " جـديدة، كيفـو كيف أي زائر لأول مرة.
- لعاد، كيف أتركه يا حضرة العقيد؟ هذا مستحيل طبعاً.
- باهي...باهي، إذاً الحل الثاني، وبلاش تكَسِّرلي راسي.(وأخذ يكتب شيئاً على شهادة الميلاد، ووقعه بإمضائه وطبع ختمه).
- بس الطفل مولود في ليبيا – في مدينة البيضاء. ومن حقه يرجع يعيش في الجماهيرية.
انتفض لسانه وارتعشت يداه غضباً، وقال ساخراً مني، هازئاً بكلامي:
- إيش قلت؟! من حقه؟! من إِمتِى انتم ليكم حقوق عندنا؟. اسمع؛ لو عِدتها مرة ثانية أنا راح ألغي إقامتك وأعطيك خروج نهائي أنت وزوجتك . ياللا ، مع السلامة.
تسلمتُ الوثيقتين وخرجتُ، ولما كنتُ بالباب الخارجي نظرتُ في شهادة ميلاد ابننا فرأيتُ تأشيرة خروج نهائي بتوقيع مدير الهجرة والجوازات، العقيد مفتاح. فغضبتُ وحزنتُ لأن التعب الأكبر سوف يكون بعد عودتي التي يجب أن تسبق مجيء ابني مع أُمِّه، ثم العمل على إجراءات استقدام زائر للبلاد الليبية شأنه شأن أي زائر جديد، وقد يستغرق ذلك شهراً أو شهرين أو أكثر، ولم يَغِب عن بالي أنه لا بد من واسطة بوزن ثقيل حتى نختصر الزمن ونحصل مبكراً على تأشيرة دخول ليبيا لطفل رضيع؛ وُلِد في مدينة البيضاء/ الليبية.**
*****
هذه حكاية من حكايات كثيرة عن أصالة عروبتنا!. بلاد القومية العربية والوحدة العربية، التي حمل عبدالناصر مشاعل أحلامها ومبادئها، وأضاءها شعلة متوهجة تنير الطريق للسالكين في دروب العزة والكرامة، ولكنها انطفأت بموته حين هبَّت عليها رياح الجهل والقبلية السياسية. هي حكاية تم نسيجها في مطارات ممالك عصر الطوائف، التي ضاعت في جنباتها النخوة والمروءة والشهامة، وما زلنا ونحن سكارى نغني في حفلات الكوكتيل: (بلاد العُرب أوطاني). وقد نرفض الحقيقة المُرَّة التي تنبئُنا بأننا سنرحل يوماً عن أندلُس اليوم كما رحلنا عن أندلُسنا بالأمس، شئنا أم أَبَيْنا، وستمضي بنا السنون تلو السنين قبل أن نصحو من سكرنا، من قهرنا، من ذلنا. فدعوني اليوم أشرب أنخاب انتكاساتنا وهزائمنا بعد أن تكسَّرت أحلامنا، وتعالوا انشدوا معي، وقولوا: عائدون، عائدون... إننا لعائدون. عائدون للأوجاع والضياع والهموم. راجعون، راجعون... إننا لراجعون. راجعون إلى الخيام والبكاء في الظلام. هيا انهضوا يا لاجئون، واطلبوا شرف المنون... يا مرحباً بالمنون!.اهـ***
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت