منذ القرن التاسع، تم تصدير الخزف الصيني إلى الخارج، وأصبح تدريجيا من أهم السلع التجارية، وفي تلك الحقبة تقريبا، بدأ انتقال الخزف الصيني إلى العالم العربي.
وتعتبر منطقة الفسطاط، الواقعة في مدينة القاهرة العريقة، من أهم مواقع الخزف الصيني خارج الصين، حيث تتمتع الآواني الخزفية الصينية المكتشفة هناك بميزات تتمثل في كثرة العدد واكتمال القطع والعمر الطويل. وجدير بالذكر هنا أيضا أنه قد تم في الفسطاط ومواقع أخرى بمصر اكتشاف كمية كبيرة من الخزف الأزرق والأبيض الذي يعود لأسرة يوان من مدينة جينغدتشن بمقاطعة جيانغشي شرقي الصين.
إن الخزف الأزرق والأبيض هو نوع خاص من الخزف يستخدم أكسيد الكوبالت كصبغة للرسم ويتم إنتاجه في أفران ذات درجة حرارة عالية، ما يعمل على ظهور الأشكال زرقاء اللون على الخلفية البيضاء لقطعة الخزف. وقد كان بمثابة "رسول" بين الصين والدول العربية منذ حوالي 700 سنة.
صورة بتاريخ 24 يوليو 2015، تظهر آنية خزفية بالأزرق والأبيض، في متحف قاوآن، في مقاطعة جيانغشي شرقي الصين. (شينخوا)
منذ ازدهار صناعة الخزف الأزرق والأبيض في عهد أسرة يوان، أصبح سلعة رئيسية تُصدر من الصين إلى الشرق الأوسط. وفي نفس تلك الفترة، انتقلت مواد يطلق عليها باللغة الصينية اسم "سو ما لي تشينغ"، من بلاد فارس والعالم العربي إلى الصين من خلال التجار العرب وأصبحت تُستخدم كصبغة جيدة لرسم الأشكال الزخرفية للخزف الأزرق والأبيض.
وفي هذا الصدد، قال فنان الخزف الصيني هونغ رون باو (65 عاما) إنه "على الرغم من استخدام مواد الكوبالت المحلية بكميات كبيرة في صناعة الخزف الأزرق والأبيض، إلا أنه يزال يتعين استخدام مواد الكوبالت المستوردة من الشرق الأوسط، لصنع خزف أزرق وأبيض على غرار المستوى العالي للأسلوب العتيق الذي استخدم إبان عهد أسرة يوان".
يوجد في متحف "هو سن" للخزف الأزرق والأبيض، الذي أسسه هونغ، أكثر من 300 قطعة مقلدة لأعمال خزفية شهيرة من الخزف الأزرق والأبيض تعود لعهد أسر يوان ومينغ وتشينغ وأُنتجت على مر السنين. ومن خلال معرض "الخزف الحرفي التقليدي"، يمكن للزائرين الإطلاع على معارف مختلفة متعلقة بالخزف الأزرق والأبيض بما في ذلك التطور التاريخي، وتقنيات الإنتاج، والاكتشافات الأثرية، والقطع الخزفية الشهيرة.
زوار يشاهدون آنية خزفية بالأزرق والأبيض، خلال معرض في متحف قاوآن، في مقاطعة جيانغشي شرقي الصين، بتاريخ 25 يوليو 2015. (شينخوا)
"كان الهدف الأساسي من إنتاج الخزف الأزرق والأبيض هو التصدير"، هكذا قال أمين المتحف هونغ دان، وهو ابن فنان الخزف هونغ رون باو. وأضاف أنه في ذلك الوقت، ربما كان هناك نموذج يتم الإنتاج وفقا له في جينغدتشن حسب الطلبات الواردة من الدول الإسلامية.
ووجد علماء الآثار الخزفية الصينيون أدلة تعزز هذه التكهنات في جينغدتشن.
في يوليو 2009، عندما تم هدم مسرح قديم في مدينة جينغدتشن، عثر علماء الآثار على بعض القطع من الخزف الأزرق والأبيض تعود لأسرة يوان وعليها أحرف وأشكال زخرفية خاصة في مكان الفرن تحت الأرض. ولم تظهر هذه الأشكال من قبل في أعمال الخزف الأزرق والأبيض المعروفة لدى أسرة يوان. لكنها وجدت على لفائف مكتوب عليها آيات من القرآن الكريم وتعود إلى الفترة من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر.
بعد جمع هذه الأحرف غير المكتملة، وجد علماء الآثار أنها أحرف اللغة الفارسية. وأعربت عالمة الخزف المخضرمة هوانغ وي عن اعتقادها بأنه "يُستدل من طلاقة الكتابة ومستوى الخط أن الكاتب لا يتقن فقط اللغة الفارسية وقادر على نسخها، وإنما تلقى أيضا تعليما جيدا".
ووفقا لإحصاءات فنغ شيان مينغ، خبير تقييم الخزف الراحل، لا يوجد سوى بضع أطباق من الخزف الأزرق والأبيض تعود لأسرة يوان في الصين، ويوجد معظمها في متاحف بدول شرق أوسطية من بينها مصر وإيران. وقد يكون الغرض من إنتاجها هو التكيف مع العادات المعيشية لمواطني الدول الإسلامية.
بعض الأواني الخزفية بالأزرق والأبيض، خلال معرض في متحف قاوآن، في مقاطعة جيانغشي شرقي الصين، بتاريخ 25 يوليو 2015. (شينخوا)
لقد وجدت الحضارة العربية على طول طريق الحرير القديم ناقلا جديدا لها في جينغدتشن ليصبح هذا الناقل شاهدا أبديا على التبادلات مع الصين تحت وهج الفرن. أما الأعمال الأخرى من الخزف الأزرق والأبيض التي تم إنتاجها في نفس الفترة، فمطبوعة بعمق بالثقافة الصينية.
وعلى مدار مئات السنوات، ورغم ظهور أنواع مختلفة من الخزف في جينغدتشن، استخدم حرفيو الخزف حكمتهم وبذلوا الجهد والعرق جيلا بعد جيل لإبراز روعة وجمال الخزف الأزرق والأبيض. وما زال الخزف الأزرق والأبيض تحفة من تحف "مصنع" الخزف هذا ذي المستوى العالمي.
في جينغدتشن الحديثة، تعمل ليوي يا تينغ (27 عاما)، التي ترث حرفة خزف "لينغ لونغ" الأزرق والأبيض، على المزج بين الخزف الأزرق والأبيض وخزف "لينغ لونغ" لتقوم بتزيين قطع الخزف بأشكال تجمع بين اللونين الأزرق والأبيض وتحمل سطحا مزججا شبه شفاف.
بعد عودتها من الدراسة في الخارج عام 2014، بدأت ليوي العمل في شركة الخزف التابع لعائلتها. في البداية، لم تكن مهتمة بشكل كبير بالخزف، لكنها اكتشفت أن المزيد والمزيد من الأجانب يدرسون الخزف في جينغدتشن. ومن خلال التواصل مع فناني الخزف الأجانب، أدركت قيمة هذا التراث الثقافي غير المادي. وبعد سنوات من الدراسة بتركيز كبير، استخدمت المفاهيم العلمية الحديثة لتحسين أسلوب الإنتاج الموروث لعائلتها.
قالت ليوي "لا شك أن الخزف الأزرق والأبيض لا يزال أكثر أنواع خزف جينغدتشن شيوعا. وإن خزف "لينغ لونغ" الأزرق والأبيض يجعل المزيد من الناس يحبون خزف "لينغ لونغ" من خلال اللونين الأزرق والأبيض"، مضيفة أنها تهدف إلى تقديم المزيد من منتجات الخزف التي تمثل الشباب. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، أسست علامة تجارية مستقلة للخزف، وسلمت أعمال التصميم إلى مجموعة تصميم صناعي تضم أكثر من ألف مصمم من جميع أنحاء العالم، وأطلقت سلسلة من المنتجات العصرية.
الصورة بتاريخ 12 نوفمبر 2016، في مركز للشاي، بمدينة فرانكفورت الألمانية، ويظهر فيها العديد من الأشخاص يستخدمون أواني خزفية من صنع يدوي بشركة تشنمين المحدودة في جينغدتشن. (شينخوا)
وشأنها شأن الخزف الأزرق والأبيض القديم الذي يعد سلعة عالمية ربطت بين مختلف الحضارات، تجذب جينغدتشن المعاصرة، باعتبارها إحدى عواصم الحرف اليدوية في العالم، فنانين من جميع أنحاء العالم للتعلم والإبداع بفضل مهاراتها في صناعة الخزف التي تمتد لأكثر من ألف عام. ووفقا للإحصاءات، يزور جينغدتشن كل عام أكثر من 30 ألف فنان، بما في ذلك أكثر من 5000 فنان دولي.
إن الميراث والابتكار هما الموضوعان الأبديان للتراث الثقافي غير المادي. وقد قالت ليوي "بصفتنا الجيل الشاب من الحرفيين الخزفيين، لا يمكننا أن نغفل على الإطلاق أهمية البيئة التقليدية ونحن نتجه إلى الابتكار"، مضيفة أن جميع الابتكارات تتطلب وقتا.
وأشارت بنبرة يقين إلى أن "الحرفية الوراثية، والرؤية الدولية، والفكر المنفتح ستساعد جميعا بالتأكيد على ازدهار الخزف الأزرق والأبيض مرة أخرى على طريق الحرير الجديد".■