تحسين مشتهى .. اسم خالد عصي على النسيان

بقلم: نعمان فيصل

نعمان وتحسين
  • بقلم/ نعمان فيصل

 غالباً ما يكون في حياة كل إنسان العديد من الأسماء التي تؤثر فيه تأثيراً يستمر مع الزمن طولاً وقصراً حسب قوته وعمقه، وقد توجهه الوجهة السليمة فيصيبها التوفيق، ومن هذه الأسماء: المربي تحسين مشتهى، القامة التربوية الوطنية الإنسانية التي سوف لن تصدأ بمرور الزمن، ولن تتجاوزها الذاكرة؛ لأنها حية وعصية على النسيان، فقد كانت شخصيته المرحة طاغية، وذات قوة مغناطيسية جاذبة، وكنت معجباً بها أشد الإعجاب، ولها نصيب كبير من التوجيه في حياتي الشخصية، حتى حفر اسمه في مخيلتي منذ الصغر، وظل رنين حكاياته وقصصه، وما يحفظه من الشعر يطن في أذني، وقد انطبع الكثير منها في الذاكرة الخالية اللاقطة وقتذاك، فقد أبدى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب.

فقد كانت تربط والدي المرحوم عبد الهادي فيصل بالمربي والمناضل الكبير المرحوم تحسين توفيق مشتهى مودة وصداقة حميمة نمت وترعرعت على مدى السنين الطويلة، وكان والدي أحياناً يحرص على اصطحابي معه عندما كنت صبياً في زياراته للمربي تحسين مشتهى، إذ اتسمت تلك الزيارات والمجالس بالعلم والأدب، والاعتزاز بالتراث العربي، والدفاع عن القضية الفلسطينية.

وإذا ما تصفحنا سيرة حياة المربي تحسين مشتهى، وجدنا أنفسنا أمام شخصية خاضت معركة الحياة بعصامية وعلو همة، وكان الحظ الأكبر في نجاحه للصفات التي أضفاها الخالق عليه، فكان خلقه الاعتداد بالنفس، وهو اعتداد فيه كثير من الإباء والشهامة، وقد احتفظ بهذه الصفة طيلة حياته، لذلك نجده - رحمه الله - متأثراً بقصيدة "الطغرائي" الذي يقول في مطلعها:

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني   حتى أرى دولة الأوغاد والسفل

تقدمتني أناسٌ كان شوطُهمُ   وراء خطوي ولو أمشي على مهل

إلى أن قال:

أعدَى عدَّوك أدنى من وثقتَ به   فحاذرِ الناسَ واصحبْهم على دَخَلِ

فإنما رجلُ الدنيا وواحدُها   من لا يعوّلُ في الدنيا على رجلِ

كان المربي تحسين مشتهى يميل إلى النزعة القومية العربية التي سادت بين المثقفين في عصره، لكنه اتسم بالبعد عن التطرف والتعصب والخصومة والحقد، وتميز بشخصية خاصة عمادها: الوعي والمعرفة الواسعة، والتواضع، والنظرة الثاقبة، وهذا جعل منه إنساناً مستنيراً، يستريح إليه الناس جميعاً، ويرغب في وده كل مَن عرفه، وله أصدقاء كثيرون في كافة أطياف العمل الوطني والإسلامي والمستقلين والمسيحيين، وكان منحازاً للفقراء والمحتاجين، والمرأة والطفل، فقد أحس بآلام قومه، وشرب من الكأس التي شربوا منها، وكان مخلصاً لوطنه، وكان دائماً داعياً إلى الوحدة الوطنية دون النظر إلى الانتماءات السياسية، أو الفصائلية بأيديولوجياتها المختلفة، فكأنما جسَّد قول الشاعر إبراهيم طوقان:

إن قلبي لبلادي   لا لحزبٍ أو زعيمْ

لم أبْعهُ لشقيقٍ   أو صديقٍ لي حميم

وغدي يشبهُ يومي   وحديثي كقديمي

غايتي خدمةُ قومي   بشقائي ونعيمي

وربما كان من المناسب أن أورد بعضاً من بديع حكاياته وقصصه، وما كان يحفظه من الشعر الخالد، وهي غيض من فيض مما كان يرويها لي ببراعة، وكنت أحفظها وأكتبها في مفكرتي، في محاولة لاستقراء شخصية المربي المناضل/ تحسين مشتهى، والاقتراب من عالمه، وأسوق منها هذه الأمثلة:

كان رحمه الله متصلاً بتراث الشعر الأندلسي عندما حدثنا في إحدى الجلسات عن واقعة ذات مغزى عميق أن شاعراً أندلسياً كانت تربطه علاقة صداقة وطيدة بأحد المُستخدَمين الذين يعملون في وظيفة متواضعة بقرطبة، وكان الصديقان: الشاعر والمُستخدَم يتزاوران دائماً، حتى جاء يوم ذهب فيه الشاعر كعادته لزيارة صديقه المستخدَم، وإذا بحاجب على بابه يمنعه، ولما تعجب الشاعر من هذا التصرف، أفهمه الحاجب أن صديقه قد أصبح وزيراً، وطالبه بالانتظار؛ لأن الوزير لديه ما يشغله!! فاستشاط الشاعر غضباً لهذا الانقلاب بين يوم وليلة، ونفث غضبه في قصاصة صغيرة بها بيتان من الشعر طالباً توصيلها إلى الذي أصبح يتعالى عليه بعد أن صار وزيراً، وفيها:

هبك كما تدّعي وزيراً   وزيرُ مَنْ أنت يا وزير؟

واللهِ ما للأمير معنىً   فكيف من وزَّر الأمير؟!

وفي هذا السياق كان المربي تحسين مشتهى- رحمه الله - يردد دائماً قول الشافعي:

لا خير في ودّ امرئٍ متلونٍ   إذا الريح مالت مال حيثُ تميلُ

وكان يردد أيضاً أبيات الشعر الخالدة:

يا صاحبي، كلا فلستَ بصاحبي   إلا لنفعٍ ترتجيه بجانبي

ولقد عرفتُك في زمانِ مصائبي   إذ كنت عندي حاضراً كالغائب

ونجد المربي تحسين شديد الغرام بوطنه، متأثراً به، فقد عايش الأحداث الكبرى، متذكراً كل المآسي والمظالم التي عاناها أبناءُ شعبه من نكبة وتشريد وهجرة، متحسراً على الآمال والأماني التي ضاعت، وأبدى رأيه فيها بشجاعة وقوة بدون مجاملة ولا محاباة، وأدرك مستخلصاً أن ما تفتقر إليه فلسطين هو الأسلوب الأمثل والأنسب في التنظيم والإصلاح والحكم، ففي لحظة يأس وحسرة وكآبة ينفث المرحوم السخرية القاتلة من دعاة الوطنية والمتخاذلين من أبناء الوطن، وكان دائماً يردد قصيدة إبراهيم طوقان الذي يقول في مطلعها:

وطنٌ يُباع ويُشترى   وتصيحُ فليحيا الوطنْ

لو كنتَ تبغي نفعَهُ   لدفعتَ من دمِكَ الثمن

إلى أن قال:

يا من حمَلتَ الفأسَ   تهدِمُها على أنقاضها

اقعد فما أنت الذي   يسعى إلى انهاضها

واشتهر المربي تحسين مشتهى بجرأته في قول الرأي والتمسك به، وكان لا يتراجع عن موقفه السليم، وكان يردد دائماً مقولة مختصرة حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وهي: (إن التقصير في الواجب خيانة للوطن)، وكان - رحمه الله - يكره الضيم، ويحذر من عواقبه الوخيمة، لذلك كان ينادي برفع الظلم والضرر الواقع على أهالي غزة، وكان يقول: (عندما قامت الثورة الفرنسية قال المثقفون: ليس الظلم يولّد الثورة، وإنما الشعور بالظلم هو الذي يولّد الثورة).

ومن مفاخر المربي تحسين مشتهى - رحمه الله – أنه كان طليق الرأي، ويهوى الكتب والقراءة، مؤمناً بأن التعليم هو النواة لكل تقدم منشود، وكان يرى أن الخلل الحقيقي في تراجع عملية التعليم، وانخفاض المستوى الثقافي في فلسطين يكمن في طرق التعليم، لاسيما (التعليم بطريق الحفظ)، التي لا تُعطي الطالب حق التعبير عن رأيه فيما يتعلمه، وإنما تطلب منه أن يكون أداة لنقل آراء الآخرين وحفظها، لذلك، فإن التغيير الحقيقي يبدأ بتغيير طريقة تفكير الطالب إلى التعلم الفاعل والاستكشاف، وفتح الآفاق لحرية الرأي والنقد.

وكان يقول لنا: هناك ثلاث عوامل تؤثر في شخصية أي إنسان ويتأثر بها: العامل الوراثي، والعامل الاجتماعي، والعامل الثقافي، وهذا العامل وحده ما يميز الشخص عن الآخر.

وكان يحثنا على الصبر على طلب العلم، وكان يقصُّ علينا حكاية ذلك الرجل الذي كان يطلب العلم، فضجر، وعزم على تركه، فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة قد أثر الماء فيها، فقال: الماء على لطافته قد أثر في الصخرة على كثافتها!! فليس العلم بألطف من الماء، وليس قلبي أقسى من الصخرة، والله لأطلبنَّ العلم أينما وجد.

وكان يحدثنا عن مُدرسه الأول الشاعر "حنا دهده فرح" المسيحي الديانة، الذي كان يكتب على السبورة هذه العبارة:

الحمدُ لله ثم الشكرُ للصمد   باري الوجودِ ومحصي الخلقَ بالعددِ

ربٌ كريمٌ عظيمٌ لا شريك له   كالجوهرِ الفردِ لم يولَد ولم يلد

وهنا يتجسد الانتماء الوطني، والنسيج المجتمعي بما يدفع عن الغزيين تهمة التعصب الديني، مستدلاً بائتلاف المسلمين والمسيحيين في فلسطين، ائتلافاً يقوم على أساس احترام الأديان المتبادل، إذ أن معظم ألفاظ ومعاني هذين البيتين اللذين استشهد بهما الشاعر المسيحي "حنا دهده فرح" إسلامية موحدة لله.

حقاً، فقد كان المرحوم تحسين مشتهى فيلسوفاً وطنياً، فقد درس الفلسفة في جامعة القاهرة في زمن مبكر، ومارسها على أرض الواقع، إذ كان يغرس فينا حب الفلسفة منذ الصغر، ويقول لنا: إن الفلسفة معناها حب الحكمة، أو الرغبة الملحة في حل ألغاز الحياة الأربعة الهامة: من نحن؟ ومن أين نأتي؟ وإلى أين نذهب؟ وما أحسن السبل للوصول إلى هذا المصير؟ وأن الغرض الأساسي منها هو الحصول على راحة البال عن طريق التأمل في عالم الحكمة؛ لنصل - بأفضل الطرق - إلى معرفة أنفسنا ومكاننا الصحيح في هذا العالم، وذلك بتحويل أسئلة العقل المعقدة إلى إجابات بسيطة تزيل الغشاوة التي قد تحيط بالقلب والوجدان.

وكان - رحمه الله - يروي لنا سير أسلافنا المشرقة، ومآثرهم الخالدة، ونزاهتهم وزهدهم في المنصب، وعدم تربحهم بأي وسيلة، حيث ذكر أن صلاح الدين الأيوبي كان بطلاً من أبطال العروبة مع كونه كردي الأصل، ولم يستطع أن يحج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه لم يكن يملك ثمن تكاليف الحج، وأنه لم يترك لورثته من بعده سوى 42 درهماً من فضة.

وكان المرحوم تحسين يحدثنا عن والده المناضل توفيق مشتهى وجهاده مع ثوار فلسطين، وأن بيتهم القديم المطل على شارع بغداد كان مضافة للقائد الوطني الكبير عبد الرحيم الحاج محمد.

وكان يحدثنا عن قصة ألوان العلم الفلسطيني، فألوانه الأربعة مستمدة من بيت للشاعر صفي الدين الحلّي:

سلي الرماحَ العوالي عن معالينا   واستشهدي البيضَ هل خاب الرجا فينا؟

إن الزرازيرَ لما قام قائمها   توهمت أنها صارت شواهينا

بيضٌ صنائعنا سودٌ وقائِعُنا   خُضرٌ مرابُعنا حمرٌ مواضينا

ولقد كان المربي تحسين مشتهى معجوناً بغزة وترابها، وكان متفاعلاً مع النخب المثقفة وأصحاب الرأي في مدينة غزة, فقد قصَّ علينا في إحدى المرات قيام بلدية غزة بتسمية شارع بغداد على الشارع الرئيسي بحي الشجاعية بهذا الاسم، بعد أن كان اسمه شارع الملك فيصل، وقال: كان البعض يريد تسميته بشارع عبد الكريم قاسم الذي انقلب على الملكية في العراق، فاقترح المربي تحسين مشتهى شطب أسماء الأشخاص، فالأشخاص زائلون، ولنطلق عليه اسم شارع بغداد، تعبيراً عن البعد القومي العربي لدى هذا العملاق، وتواصل الثقافة ووحدة التاريخ.

وكان المربي تحسين مشتهى يعظّمُ الدين الإسلامي، وكان يقول لنا: (أنا لو لم أكن مسلماً لوددت أن أكون مسلماً)، وكان - رحمه الله - مغرماً بخليفة رسول الله الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – ويقول عنه أنه: سراجُ أهل الجنة، ومحدث هذه الأمة وفاروقها، وكان يحفظ الكثير من أقواله، وكان يردد لنا دائماً: (لا تعلموا أولاد السفهاء، فإن علمتموهم فلا تولوهم).

وروى المرحوم لنا أن عمر بن الخطاب كان جالساً مع بعض أصحابه، إذ ضحك قليلاً، ثم بكى، فسأله مَن حضر عن سبب ضحكه وبكائه، فقال: كنا في الجاهلية نصنع صنماً من العجوة، فنعبده، ثم نأكله، وهذا سبب ضحكي، أما بكائي، فلأنه: كانت لي ابنة، فأردت وأدها، فأخذتها معي، وحفرت لها حفرة، فصارت تنفض التراب عن لحيتي، فدفنتها حية)!!

وكان المربي تحسين مشتهى يحب مجالس العلماء والأدباء، وكان يحفظ الكثير من الأشعار، وكنت تشعر أنه عاش مع المتنبي أدق أسرار حياته، وسبر أغوار عقل شوقي وهو ينظم شوقياته، وكان دائماً يردد قصيدة (ولي عهد الأسد وخطبة الحمار)، حيث يقول شوقي في مطلعها:

لما دعا داعي أبي الأشبال   مبشراً بأولِ الأنجالِ

سعت سباعُ الأرض والسماءْ   وانعقد المجلسُ للهناءْ

وصدر المرسومُ بالأمانِ   في الأرضِ للقاصي بها والداني

وكذلك قصيدة شوقي (الليث ملك القفار)، الذي يقول في مطلعها:

الليثُ مِلكُ القفار   وما تضم الصحارِي

مات الوزيرُ فمن ذا   يسوسُ أمرَ الضوارِي؟

قال الحمارُ وزيري   قضى بهذا اختياري

والتي آخرها:

يا عالي الجاهِ فينا    كن عالي الأنظارِ

رأيُ الرعيةِ فيكُم   مِنْ رأيِكُم في الحمارِ!!

وكان دائماً ينشد لزواره أبيات الشعر الخالدة للمتنبي:

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم   بين وقع القنا وخفق البنود

من يُهن يسهلُ الهوانُ عليه    ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ!

وتلا علينا يوماً الحكمة التالية التي أوردها على شكل ديالوج شعري:

إن القلوب إذا تنافر ودُّها   مثلُ الزجاجةِ كسرُها لا يوصَلُ

فرد عليه آخر:

إن القلوب إذا تنافر ودُّها   عند الأكارم وصْلُها لا يَعْسُرُ

وقلوبُ أنذالِ الرجالِ إذا التوتْ   مثلُ الزجاجةِ كسرُها لا يوصَلُ

وفي الختام، فهل بعد كل هذه المناقب، وأيقونة بهذه المواصفات، يمكن للذاكرة أن تنسى "أبا توفيق"، إنّ الحروف لتقف على رصيف الكلمات عاجزة عن الوفاء لهذا الإنسان، وستظل سيرته حية، وذاكراه تنطلق دوماً من تحت الرماد؛ لأنه بحق (عنقاء الوطن).

وشخصية بهذا الحجم جديرة بأن تكرم، حتى لا تَنسى الأجيال ألقها، لذا، فإني أتوجه للقيادة الفلسطينية أن تكرم هذا الرجل المعطاء بما يستحقه، ولبلدية غزة الاهتمام بإبداعاته وتضحياته بإطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة التي زرع في كل خطوة خطاها في شوارعها ذكرى لن تنسى.

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت