- بقلم: يونس الزريعي..
بعد أيام قلائل سيحتفي كل أحرار فلسطين والعالم وشرفاءه بالذكرى "56" لانطلاقة الثورة الفلسطينية، وبانبثاق الروح الوطنية الفلسطينية الموحدة، بميلاد حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"،، والتي قال عنها الزعيم العربي القومي الخالد "جمال عبد الناصر"،، بأنها وُجِدت لتبقى ولتنتصر، وبأنها أنبل ظاهرة عرفها التاريخ..
في ليلة الفاتح من يناير 1965 كانت فتح تحتفل على طريقتها في "عيلبون" وتعلن ميلادها ببيانها الأول الذي قال: اتكالاً منا على الله،، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح المسلَّح لاسترداد وطنه المُغتَصَب، وإيماناً بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج وبمؤازرة كل أحرار وشرفاء العالم،، فقد تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964 – 1/1/1965 وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة،، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة..
لم يكن ولن يكون العمل العسكري في عرف فتح مجرَّد شعار بدون مضمون ومغزى سياسي هادف،، فالبندقية الغير "مسيَّسة والتي لا تعرف هدفها هي قاطعة طريق،، مثلما أرَّخ في ثقافة فتح الشهيد الخالد "خليل الوزير" ..
ففي الوقت الذي أدارت فيه فتح العمليات العسكرية في عمق فلسطين المحتلة، كانت فتح تشتغل على جملة من المسارات الداخلية والخارجية لبلورة وتثبيت وإشهار الهوية الوطنية والشخصية الفلسطينية عبر منظومة متكاملة في مجالات السياسة والثقافة والإعلام والعمل النقابي والجماهيري،، وبهذا حوَّلت فتح واقع الشتات وانعدام الهوية وذوبانها في المحيط إلى "كينونة وكيان" سياسي وطني فلسطيني تحت راية "منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني أينما وُجِد، وانتزعت هذا الحق انتزاعاً من المحيطين القريب والبعيد، لتكوِّن فيما بعد "القرار الوطني الفلسطيني المستقل" الذي لا يخضع لحسابات أحد في الإقليم وفي العالم..
لقد تعلَّمت فتح الدرس مبكِّراً، وعلمت بأن لا أحد من المحيط العربي القريب أو البعيد، هو على استعداد لأن يتحمَّل تكلفة وتبعات الكفاح والوجود المسلَّح الفلسطيني على أرضه،، فمن مجازر أيلول الأسود في الأردن عام 1970،، حتى حصار بيروت وخروج "م ت ف" منها بالقوة وبرعاية دولية عام 1982، ومنها إلى تشتيت قوات الثورة الفلسطينية المُرحَّلة من بيروت، ورميها بدون غاية أو هدف ولا عمل في معسكرات بائسة في صحراء ليبيا وفي السودان واليمن ليأكلها الفقر والعوز وشُحُّ التمويل، ولا هدف بات للجنود وللضباط وللفدائيين حينها أكثر من الخلاص الفردي بكل الوسائل الممكنة،،
ومن هنا بدأت رواية فلسطينية بصياغة وطنية جديدة، راعت فيها القيادة الفلسطينية كل المؤثرات الداخلية والعربية والدولية، واشتقت لها طريقاً ومنفذاً سالكاً لأجل الديمومة والبقاء، وأدركت بأن إمكانية النضال والعمل لأجل التحرير من خارج فلسطين وبذات الأساليب، هي فكرة عدمية نهايتها بكل تأكيد هي الانتحار والزوال..
لقد جاءت المحاولة الأولى لإحداث بيئة سياسية معززة للبقاء والديمومة ولإعادة بث الروح بعد هزيمة الطرد من لبنان وتشتيت من تبقى من المقاتلين، جاءت المحاولة بطرح فكرة "الكونفدرالية" الأردنية الفلسطينية عام 1985عقب انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشر في عمان 1984،، وكانت الغاية من الفكرة هي "شق طريق" لإمكانية اعتراف أمريكي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وإشراكها في أي مفاوضات مقبلة بين الأمريكيين والأردن،، غير أن فكرة الكونفدرالية ماتت قبل أن تولد وذهبت وانتهت بانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته (19) التاريخية والشهيرة بالجزائر عام 1988،، تلك الدورة التي جاءت بعد عام من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى على الأرض الفلسطينية في الضفة والقطاع،،
حيث توِّجت الدورة بإعلان قيام "دولة فلسطين" على أرض فلسطين وبإعلان متطابق من حيث اللغة مع إعلان قيام دولة "إسرائيل" عام 1948 ،، وقد لبى البيان الاحتياجات الدولية والقانونية للشرعية الدولية من أجل الاعتراف بدولة فلسطين ومنحها الحرية والاستقلال وفق قرارات الشرعية الدولية،، وقد كانت الدورة (19) للمجلس الوطني هي دورة تجسيد وترسيم الثوابت الوطنية الفلسطينية، التي تدافع عنها وتتمسَّك بها القيادة الفلسطينية إلى يومنا هذا دون تحريفٍ أو تعديل، وباتت تلك الثوابت هي مرتكز الرفض الوطني والشعبي لصفقة القرن الأمريكية التي أيدها كل العرب، ورفضتها فلسطين، لتعلم أمريكا من بعدها بأن لا حل سياسي ممكن، ولا أمن ولا سلام ولا استقرار في المنطقة والإقليم بدون أن يقول الفلسطينيون "نعم" ،، لا بل قد علم الجميع بأن الفيتو على الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو "فيتو" فلسطيني بامتياز..
لقد كان لعودة القيادة الفلسطينية إلى أرض الوطن عبر بوابة أوسلو عظيم الأثر في صمود وتقوية وتعزيز القضية الفلسطينية والهوية الوطنية على أرض فلسطين، وكان لعودة مئات الألوف من فلسطينيي الشتات، وكذلك انحسار أسباب الهجرة من الوطن طلباً للرزق وللحياة بعد أن أوجدت السلطة الوطنية الفلسطينية أكثر من مائتي ألف وظيفة عامة ما كانت لتكون لولا وجود السلطة الفلسطينية بين الناس، أو لو أن السلطة قد استمعت لذوي الأجندات الخاصة والخارجية وحلَّت نفسها من على أرض الضفة الغربية بسبب تغوُّل الاستيطان ولأسباب الضغط الأمريكي والصهيوني والعربي عليها في الأعوام الأربعة الأخيرة.. لا أحد باستطاعته أن ينكر دور السلطة الوطنية التي تقودها فتح في تقوية وتعزيز دور ونشاط القطاع الخاص الفلسطيني على أراضي الضفة الغربية ومن قبلها في قطاع غزة قبل أن تغادرها رغماً في صيف 2007..
لقد خلقت السلطة الوطنية على الأرض الفلسطينية كل ما يعزز ويمكن القطاع الخاص في القيام بدوره من حيث الإنتاج والتشغيل والاستثمار، بما يعزز صمود المواطنين وبقائهم على أرضهم في الضفة الغربية بعد أن كان للمواجهة المسلحة إبان انتفاضة الأقصى عظيم الأثر السلبي على حياة الناس وصمودها وبقائها على أرضها، وخسارة السيادة على العديد من القرى والأراضي الفلسطينية التي أعاد الاحتلال السيادة والسيطرة الميدانية عليها.. جميعنا يعلم بأنا لسنا فقط في مواجهة جيش احتلال وحكومة صهيونية عنصرية،، بل نحن الفلسطينيون أمام حقيقة مجتمع صهيوني عنصري ومتطرِّف بالكامل،،
وهنا نحن لسنا بقدرة مقاومته على طريقة "غاندي" أو بأسلوب "نيلسون منديلا"،، كما أن الثورة والكفاح على طريقة "تشي جيفارا" هي المستحيل والانتحار نفسه.. عندا مات "جيفارا" قال الراعي: بأن جيفارا كان يروع أغنامه، ولا يهمُّه أمر موته،، ولا أستغرب أن يقول المزارعون ذات القول على الشريط الحدودي شرقي غزة بعد كل تسخين على الحدود، ولا أظن بأن الحال سيختلف كثيراً في الضفة عندما تتهدد مصالح الناس جراء عملية عسكرية حولهم تكون نتيجتها استخدام العدو للقوة المفرطة لإلحاق أكبر الأذى بالمواطنين وبمصالحهم..
لقد اشتقت حركة فتح وقيادتها التي تقبع تحت حراب الاحتلال في رام الله، اشتقت طريق نضالي غير مسبوق من بين كافة حركات التحرر العالمية التي أنبأنا عنها التاريخ حول العالم،، فقد بنت المؤسسات الوطنية ذات الشفافية والقدرات الفنية والمؤسساتية التي يشهد لها كل العالم على أنها الأكثر نزاهة وشفافية من بين كل دول الشرق الأوسط..
أما على المستوى الدولي والأمم المتحدة، فأعتقد بأن الانجازات الدبلوماسية والسياسة قد قربتنا كثيراُ وأكثر مما مضى لجهة ترسيم الشرعية الفلسطينية كلاعب إقليمي لا يمكن تجاهله أو تجاهل دوره وأثره،، وما وصف العدو للنشاط السياسي والدبلوماسي الفلسطيني على المستوى الدولي بأنه "إرهاب سياسي" بعيد عن حقيقة التفوق والنجاح للسياسة الفلسطينية الخارجية التي تقود معالمها حركة فتح أيضاً..
لقد بات شمول برنامج معظم زيارات زعماء العالم لفلسطين عند تخطيطهم لزيارة الشرق الأوسط بمثابة تقليد سياسي لا يمكن تجاهله،، وهذا كله لم يتحقق لولا صمود ونضال الشعب الفلسطيني على مدى عقود من الزمن، ولولا حنكة وحكمة القيادة الفلسطينية التي تصارع على الدوام لأجل البقاء في دور الفعل.. لا يمكن إتهام "حركة فتح" بالتقصير في النضال وبالتجديف خارج العطاء الوطني بسبب تجميدها للكفاح المسلح، فللكفاح المسلَّح الناجح والمثمر شروط هي الآن غير متوفرة في الضفة الغربية بالمرة،، وما يصلح بالأمس ليس بالضرورة أن يصلح اليوم،، وكما أن لكل صلاة أذان،، فإن لكل مهمَّة أداة قابلة للتعديل وللتغيير وللاستبدال في كل وقت حسب الجدوى..
ستبقى فتح على الدوام هي عمود الخيمة وأم الجماهير وحارسة نار الثورة والثابتة والمحافظة على على الحق الفلسطيني وعهد الشهداء حتى التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس دون المس أو التنازل عن الحق المقدس لكل اللاجئين.. عاشت "فتح" والرحمة للشهداء والحرية للأسرى،، وإنها لثورة حتى النصر،، وكل عام وأنتم بخير..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت