- بقلم: بدر أبو نجم
الشعب الفلسطيني بجميع مكوناته وأطيافه هو شعب بالتأكيد يحترم الرموز الدينية والوطنية ولا يقبل أحد سواء كان مسيحياً أو مسلماً بأن يسيء إلى أي رمز ديني.
الكل منا يعرف ما جرى في مقام النبي موسى بالقرب من مدينة أريحا قبل عدة أيام، والكل شاهد ما انتشر على مواقع التواصل من مقاطع فيديو التي تُظهر مجموعة من الشباب يرقصون تحت أنغام الموسيقى الغربية، والكل رسم بمخيلته أنها حفلة صاخبة تحتوي على المشروبات الروحية وغيرها من المحرمات التي لا يقبلها مجتمع كمجتمعنا الفلسطيني، على الأقل لا يقبلها جهاراً وأمام الجميع وبهذه الصورة.. لكن ما حقيقة الفيديوهات التي انتشرت على مواقع التواصل ومن المسؤول، ومن أعطى الإذن بإقامة هذا الحفل والذي تبين فيما بعد أنه تصوير لمشهد من عدة مشاهد ومن مواقع أثرية مختلفة سيتم تصويرها لغرض إنتاج فيلم.
بعد انتشار الفيديوهات كالنار في الهشيم على مواقع التواصل لم يكن للحكومة إلا أن تأتي بكبش فداء لتهدئة الرأي العام كما تفعل أي حكومة في مختلف أنحاء العالم لتعالج مشاعر الناس.
فيما بعد تبين أن صاحبة الحفل أو المشهد الذي تم تصويره هي المواطنة الفلسطينية سما عبد الهادي، المختصة بما يسمى ب "موسيقى التكنو الالكترونية"، وتبين أيضاً أن عبد الهادي تقيم حفلات وعروض كثيرة في كثيرٍ من دول العالم، لتضح الصورة القاتمة أكثر بعد فترة وجيزة من الهيجان الشعبي بأن وزارة السياحة الفلسطينية هي من أعطى سما عبد الهادي تصريحاً واضحاً وصريحاً لتنظيم حفلٍ موسيقي في مقام النبي موسى بهدف الترويج عالمياً للمواقع التاريخية والأثرية الفلسطينية عبر موسيقى "التكنو" الالكترونية.
النيابة العامة وجهت إلى عبد الهادي تهمتين وهما "تدنيس مكان ديني" و"مخالفة إجراءات الطوارئ لمنع تفشي كورونا"، لكن الحقيقة تختلف كلياً عن ذلك، لتتضح الصورة أكثر فأكثر وتكشف حقائق أخرى بأن وزارة السياحة أعطت الإذن بإقامة الحفل مع مراعاة التباعد الإجتماعي وغيره من الأمور التي اشترطته الوزارة لإقامة الحفل، لكن في النهاية تم الموافقة على إقامة الحفل وبرسالة الكترونية واضحة وجلية.
في مقابل كل ذلك صرحت وزارة السياحة في بداية الأمر بأنها ليست مخولة بإعطاء تصريح لإقامة الحفل في مثل هذا المكان وأنها ليست مسؤولة عنه ولم تعرف عنه شيئاً، لتكشف فيما بعد وكالات محلية أن الوزارة تلقت رسالة من منظمي الحفل تفيد بطلبٍ واضحٍ أنها تريد إقامة حفل هدفه تصوير مشهد في المقام له أهداف تراثية وتعريفية أمام العالم بتاريخ وتراث فلسطين، وبعد ذلك بساعات اعترفت السياحة أنها تلقت رسالة الكترونية من قبل منظمي الحفل، وبررت ذلك عبر متحدث باسمها أنها اخذت الموضوع بحسن نية وأنها لم تتوقع أن تكون الحفلة كما صورته الفيديوهات على مواقع التواصل وتفاجأت مما حصل.
تراشقت وزارة السياحة والأوقاف في بداية ظهور الفيديوهات، ليتبين فيما بعد أن وزارة السياحة هي المسؤول الأول عن الموافقة، لكنها في ذات الوقت وحتى اللحظة تنفي أنها أعطت الموافقة، في حين أن الرسائل الإلكترونية بين وزارة السياحة والجهة المنظمة للحفل في مقام النبي موسى واضحة وصريحة بأن السياحة أعطت الموافقة، لكن الأخيرة قالت إنه لم يخطر ببالها أن الحفلة ستكون بهذا الشكل في مقام ديني مقدس.
تقول سما عبد الهادي في مقابلة شفوية من قبل وفد تابعٍ للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بمكان احتجازها بأريحا، أنها لم تقصد الإساءة لأي مكان ديني أو أي رمز ديني، وقالت أنها تقوم بشيء ترويجي لموسيقتها الخاصة التي تتقنها وتختص في هذا المجال، ولم يكن مقام النبي موسى من ضمن الأماكن التي طلبتها للتصوير فيه، لكن أحد موظفين وزارة السياحة وبحسن نية اقترح عليها اسم مزار النبي موسى.
لا بد من الإشارة إلى أن الحفل لم يكن حفل بمفهومه، بل كان تصوير مشهد ضمن مجموعة من المشاهد سيتم تصويرها في مواقع أثرية مختلفة في الضفة الغربية. لكن السؤال هنا لماذا تم اعتقال سما عبد الهادي بعد أن اتضحت الصورة بأن من سمح لها هي وزارة السياحة, هل سما كبش فداء لتهدئة شعور الرأي العام، وهل هذا التوقيف قانوني؟
إن أردنا أن نقول الحقيقة فالمسؤول الأول والأخير هو وزارة السياحة التي أهملت في الحقيقة دورها وشعورها بأهمية مقام النبي موسى، وكان يجب عليها أن تتحقق من تفاصيل الحفل وأن تشرف عليه هي بنفسها أثناء اقامته وتراقبه عن كثب، وهذا دورها وسبب وجودها أصلا. فالقانون يعطي الحق بإسقاط التهم عن سما عبد الهادي، لأنها لم ترتكب جريمة، وإنما قامت بتنظيم نشاط بعد أخذ الموافقات من الجهات الرسمية، بالإضافة إلى أنها لم تكن تعرف أن المكان الذي قامت بتصوير مشهد فيه يندرج تحت مسمى المواقع الدينية كما قالت في مقابلة لها مع الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.
كان يجب على الجميع أن يعترف بخطئه وأن لا نضخم الأمور إلى هذا الحد من تراشقات الإتهامات بين جهات عديدة، ويدفع ثمنه سما عبد الهادي التي قامت بما قامت به بموافقة من وزارة السياحة التي تعتبر إحدى وزارات الحكومة، والأجدر بنا أن نحقق أولاً مع المسؤول عن هذه المواقع الدينية واحتجاز من أعطى الموافقة، وليس اعتقال من قام بالحفل بموافقة الحكومة، لأنه منافي تماماً للقانون، فكان من الممكن أن تنتهي الأمور من حيث بدأت باعتراف كل الجهات بتقصيره، والإعتراف بسوء التقدير من قبل كافة الجهات المعنية. فتنصل وزارة السياحة من المسؤولية وعدم التحلي بالشجاعة الأخلاقية لإعلان مسؤوليتها عن منح التصريح، وأنها قد تكون أخطأت هو من جر الأمور إلى هذا المربع.
إن توقيف سما عبد الهادي، وتحميلها المسؤولية وحملة التنمر التي تجري على الإنترنت بحقها، هي محاولة تقديم كبش فداء لإرضاء الرأي العام، والذي قامت أطراف رسمية في صعيد مناكفاتها مع أطراف رسمية أخرى بإثارته.
من الغريب في هذه القضية أن أحد أطراف لجنة التحقيق التي شكلها رئيس الوزراء محمد اشتيه للتحقيق بالقضية هي وزارة السياحة والأوقاف، فهل هذا يجيزه القانون بأن المتهم يكون طرف للتحقيق بقضية هو أصلا المتهم الأول فيها؟
توقيف سما عبد الهادي لا يجوز، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فلا يمكن لنا أن نحمل فرد واحد مسؤولية كل ما جرى ويتنصل كل مسؤول عن دوره فيما جرى.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت